المعلم المجاهد إبراهيم عاشور (أبو حسن)
(1348 - 1388هـ / 1930 - 1969م)
بداياته
الأخ المجاهد إبراهيم عاشور من الشباب الفلسطيني المسلم عالي الهمة، مترفع عن سفاسف الأمور، وصغائر الأعمال، نشأ في حضن الحركة الإسلامية المعاصرة بفلسطين، وتربى على منهج الإسلام الحق، وأخلاقه الفاضلة، وسار مع إخوانه العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، يعمل بجد وإخلاص، وصمت وهدوء، يؤلف القلوب، ويصطفي العناصر الصالحة، للانخراط في سلك الدعوة الإسلامية المباركة، ويتحرق شوقًا للجهاد في سبيل الله ضد الصهاينة المغتصبين لأرض فلسطين، والمدنسين لمقدسات المسلمين.
ولقد لقي (رحمه الله) الأذى الكثير من طاغية مصر، حيث سجن وعذّب وحورب وطورد، فقد كان ضابطـًا في الجيش المصري فـترة، ثم التحق بمنظمة فتح، حين كانت تتبنى الجهاد ضد اليهود، وتتصدى لهم من خلال العمليات الفدائية التي كان ينفذها الشباب الفلسطيني المجاهد.
وحين انحرفت فتح عن مسارها، ودخلت دهاليز السياسة وألاعيبها، واكتفت بالدعايات والدعاوى والمظاهر الكاذبة والبيانات المزيفة، وتبنى قادتها الأفكار اليسارية والعلمانية، نفض يده منها وانفضّ عنها وتركها، لأنه يؤمن بالجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ويؤمن بالقتال من أجل الدين لا من أجل الطين، ويؤمن بالالتزام بمبادئ الإسلام وسُنَّة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) لا بأفكار ماركس ولينين وجيفارا.
مقامه في الزبير
وقد توجه إلى العراق حيث عمل مدرسًا في مدرسة النجاة الأهلية بالزبير، التي سبقه إلى العمل فيها الأخوان المجاهدان محمد الصفطاوي وهاني بسيسو، وهي مدرسة أنشأها العلاّمة الموريتاني الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عام 1920م بالتعاون مع أهل الزبير، وكانت تُعنى بالدرجة الأساسية بالعلوم الإسلامية من التفسير والحديث والتوحيد والفقه، وبخاصة المواريث، وباللغة العربية وآدابها والمحاسبة ومسك الدفاتر والعلوم العصرية الأخرى، حتى إن معروف الرصافي حين زارها قال: "إنها أحرى أن تسمى جامعة النجاة وليس مدرسة النجاة"، وقد تخرّج فيها أجيال عديدة من أبناء الزبير، شغلوا الكثير من المناصب والوظائف في القطاع التجاري والصناعي والزراعـي بكفـاءة وإخلاص.
وبعد وفاة الشيخ الشنقيطي تولى إدارتها العلاّمة الكبير والعالم النحرير الفقيه الفرضي الشيخ ناصر بن إبراهيم الأحمد الذي يُعتبر زينـة علماء الزبير في عصره، وقد حرص (رحمه الله) على تطوير المدرسة واختيار أكفأ المدرسين علمًا وخلقًا للتدريس فيها، ولذا كلَّفني حين كنتُ بمصر للدراسة الجامعية، أن أختار وأرشح له بعض المدرسين، فرشَّحت له الأخوين الكريمين محمد الصفطاوي وهاني بسيسو، ثم تبعهما صلاح الشربيني وإبراهيم عـاشور وغيرهما.
وفي سنة 1955م نظَّمنا رحلة حج لبعض مدرسي النجاة الأهلية، ضمّت بعض الأساتذة وهم: إبراهيم المبيض، أحمد العرفج، عبد المحسن الشقير، يعقوب العقيلي، عبد الله العقيل، محمد الصفطاوي، هاني بسيسو وغيرهم، وقد نزلنا في طريقنا إلى الحج في ضيافة علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن السعدي الذي أكرمنا غاية الإكرام، لأنه كان من تلامذة الشيخ الشنقيطي مؤسس المدرسة، كما زرنا الشيخ محمد نصيف شيخ أعيان جدة (رحمه الله تعالى).
ولم يكتف الشيخ ناصر الأحمد بتوفير الأساتذة الأكفياء للمدرسة، بل سعى لتطوير مواردها المالية، حيث شكَّل وفدًا برئاسته وعضوية جاسم الجامع وعبد الله العقيل للذهاب إلى المملكة العربية السعودية لجمع التبرعات، وقد نزلنا في الرياض بضيافة جلالة الملك سعود الذي أقام لنا وليمة عشاء، ورحَّب بنا، وتبرع للمدرسة بمبلغ سخي، كما تبرع الكثير من أهالي الرياض والخُبر والدمام، وكذا أهل الكويت جزى الله الجميع كل خير.
وبهذا أمكن تلافي العجز المالي للمدرسة، وخطت إلى الأمام خطوات واسعة، والحمد لله.
كفاءته العسكرية والجهادية
لقد بقي الأستاذ إبراهيم عاشور يدرِّس بمدرسة النجاة بالزبير، حتى إذا فتح الإخوان المسلمون معسكرات التدريب وقواعد الجهاد ضد اليهود في الأردن سنة 1968م، بادر (رحمه الله) للالتحاق بقوافل المجاهدين والمرابطين في الثغور، وقدَّم من خبرته العسكرية وكفاءته القتالية، ما أفاد إخوانه المرابطين الذين دهشوا له، وعجبوا منه لأنه أول قدومه لم يتظاهر بأنه يعلم شيئًا عن القتال أو الأمور العسكرية، بل انخرط كفرد مجاهد ضمن المئات من الإخوان المتطوعين، ولكن سرعان ما تبيّن للإخوة المسؤولين مقدرته العسكرية وكفاءته القيادية، فعهدوا إليه بالمهمات الكبيرة، وأسندوا إليه تدريب الإخوان على فنون القتال، وتعليمهم أنواع السلاح وطرق استعماله، فكان نِعْمَ المعلم القائد والمجاهد الصادق والعامل الصامت رغم صغر سنه فهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره، كما هو الشأن في أكثـر المرابطين والمقاتلين من الإخوان في معسكـرات التدريب وقواعد القتال فقـد كانت أعمارهم دون الثلاثيـن، فهم في ريعان الشباب ومراحل الفتـوة، ينطبـق عليهم القول المأثور: "رهبان في الليل فرسان في النهار"، وقد لقّنوا اليهود دروسـًا لا تنسى على مـر الأيام، وأعادوا سيرة إخوانـهم المجاهدين سنة 1948م في فـلسطين، وعلى ضفاف قنـاة السـويس سنة 1951م، ومسحوا العار الذي ألحقتـه هزيـمة سنة 1967م، وأيقـن النـاس أن الإخوان المسلمين هم رجال المواقف وفرسان الميادين وطلاّب الآخرة.
النموذج الفلسطيني
إن الأخ إبراهيم عاشور نموذج للشباب الفلسطيني المسلم الملتزم، الذي جعل الجهاد سبيل التحرير، للأرض والعرض، والنفس والمال، والدين والكرامة، وكان حريصًا على طلب الشهادة تواقًا لنيلها، يسابق إخوانه للحصول عليها، وشاء الله (عز وجل) أن يكرمه بها في ميدان التدريب بمعسكر الإخوان في يوم الثلاثاء 26 / 8 / 1969م، حيث دفن بمقبرة أم الحيران بالأردن.
يقول الأخ د. محمد أبو فارس في كتابه القيِّم (شهداء فلسطين): "لقد وصل خبر للأخ المسؤول أن المنطقة التي يعسكر فيها الإخوان ستتعرض لهجوم الطائرات الإسرائيلية القاذفة للقنابل، فأمر إخوانه المجاهدين بالتفرق على الفور وترك المعسكر، وبعد نصف ساعة جاءت الطائرات الإسرائيلية الضخمة تقذف المنطقة بقنابل كثيرة، حتى حرثت المنطقة حرثًا، ولم يبق أثر للخيام أو الأثاث، إذ كلها أتلف وأحرق من الغارة الإسرائيلية، وقد جُرح من الإخوان جريحان فقط، وفي اليوم التالي وبينما كان الإخوان يجتمعون للغداء، إذ أحضر أهل القرية المجاورة قنبلة لم تنفجر، فأخذها الأخ إبراهيم عاشور، وأخذ يشرح لإخوانه عن هذه القنبلة، ويذكر لهم شدّة حساسية صاعق هذه القنبلة، وسرعة انفجارها لأقل الأسباب وأضعف المؤثرات، وكان الأخ المجاهد الشاب رضوان كريشان يتكئ على كتف الأخ إبراهيم عاشور وهو يشرح، وإذا بالقنبلة تنفجر فتقطّع أوداج الاثنين وحَلْقَيْهِما ويستشهدان على الفور" انتهى.
وكانت صدمة على الإخوان شديدة جدًا، لأنهم كانوا يتمنون أن يكون استشهادهما بعد معركة مواجهة مع اليهود في الميدان لا في معسكر التدريب.
غير أن هذه إرادة الله وقد اتخذهما شهيدين في ميدان الرباط والإعداد والجهاد في سبيله وابتغاء مرضاته، فهما قد خرجا لهذا فأكرمهما بالقدوم إليه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } (الأحزاب: 23).
شهادات المقربين
يقول المقربون من الأخ إبراهيم عاشور في مدرسة النجاة الأهلية بالزبير: إنه صالح مستقيم، عامل بصمت، عميق التفكير، بعيد الرؤيا فيه الصفاء والهدوء، وإيثار العمل على القول، والبعد عن الجدل والمراء، والمظاهر والادعاء، ولقد لمستُ ذلك بنفسي في زياراتي لمدرسة النجاة الأهلية بالزبير، كما سمعت ذلك أيضًا من إخوانه بالمعسكر في منطقة الأغوار حين زرتهم مع الأخوين الكريمين أبي بدر (حفظه الله)، وأبي طارق (رحمه الله)، كما أن الشهيد صلاح حسن (رحمه الله) وأخاه أبا خليل والأخ أبا أسامة وأبا شهاب يشهدون له بكل خير ويثنون على رجولته وشهامته وإخلاصه وتفانيه طيلة الفترة التي كان فيها في معسكر التدريب وقواعد الجهاد ضد اليهود إلى أن لقي الله (عز وجل) شهيدًا - إن شاء الله.
إن الأخ المجاهد إبراهيم عاشور ترك في نفوس تلامذته بمدرسة النجاة وزملائه في معسكر التدريب أجمل الأثر وأطيبه من خلال سيرته الحميدة، وخلقه الكريم، وإيثاره لإخوانه على نفسه وتواضعه وشجاعته ورباطة جأشه، فكانوا يتحدثون عنه ويذكرونه بكل خير، ويثنون على مواقفه ورجولته، وليس هذا بمستغرب على من تربى في مدرسة حسن البنا مجدد هذا القرن والداعية الموفق، الذي يقول عنه الشيخ محمد الغزالي (رحمه الله):
"أشعر بالرضا وأنا أعترف بأني من تلامذة حسن البنا ومحبيه وحاملي أعباء الدعوة الإسلامية معه، أعرف أن ذلك يبغضني عند كثير من الناس! ليكن، فقد تعلَّمت من الرجل الكبير، أن المؤمن يسترضي الله وحده، ويطلب وجهه الأعلى. إن من رحمة الله بالأمة الإسلامية، بل بالعالم الإنساني أن يظهر بين الحين والحين رجل مثل حسن البنا يجدد تراث محمد (صلى الله عليه وسلم)، ويحشد الجموع حوله، ويحل المشكلات به وينفي عنه الأوهام والبدع، ويعيد إليه بريقه الأخاذ يوم كان وحيًا يُتلى وسُّنَّة تتبع" انتهى.
ذلكم هو الأخ المجاهد العامل إبراهيم عاشور، وتلك هي بعض الجوانب من سيرته.. رحمه الله رحمة واسعة وغفر لنا وله، ووفق الله شباب الأمة ليكونوا رجالاً يحملون رسالة الإسلام ويجاهدون في سبيل الله لإعلاء كلمة الله.
وقد رثاه الأخ الشاعر الدكتور محمد محمود صيام بقصيدة جاء فيها:
جَلّتْ عن الحزن المصيبة
والقلبُ ذاب وكانت الأهـ
أبكي (أبا حسن) وأضـ
ويُنيـــله ورفاقه الشـ
رغمَ المهــازلِ من هنا
فالأمة العصماء تَخْبِطُ
وولاتها درجـــوا على
متلهِّفين عــــلى السلا
والخصم يصفع وجههم
فوربِّ (إبراهيم) لن
يا إخوتي فلتثبتوا
ولتبـذلوا أرواحكــــم
فقوافلُ الشهداء من
والتضحياتُ هي السبيلُ
والمسجدُ الأقصى العزيز
والنفسُ ما برحتْ كئيبة
ـوالُ تعجزُ أن تُذيبه
ـرعُ للإِله بأن يثيبه
ـهداء جناتٍ رحيبة
وهناك في دنيا العروبة
في متاهاتٍ عجيبة
حُبّ الخلافات المعيبة
م كأنهم جهلوا عيوبه
كالسائمات بلا صعوبة
نرضى بتسوية مريبة
ضد العصابات الغريبة
في الله عن رغبٍ وطيبة
شعبي تنير له دروبه
إلى فلسطين الحبيبة
من الدماءِ لهُ ضريبة
والحمد لله رب العالمين.
وسوم: العدد 807