الداعية المجاهد الدكتور أحمد محمد الملط
(1337 – 1415هـ / 1917 – 1995م)
مولده ونشأته
وُلد في شـهر ديسمبـر سنة 1917م في بـلدة (القطاويـة) مركـز أبو حمّاد بـمحافظـة الشرقـية في مصر، وتعرّف على دعـوة الإخوان المسلمين منذ كان طالـبًا في المرحلة الثانوية، وانتـظم في صفوفهـا، وقد حصـل عـلى بكـالوريوس الجراحة سنة 1946م، وكان رئيس البعثـة الطبّية للإخـوان المسلمين في حرب فلسطين سنة 1948م، اعتُقـل سنة 1949م في قضيـة السيارة الجيب، وأُفرج عنه سنة 1951م.
وفي سنة 1954م حصـل على دبـلوم الجراحة، كما حصـل عـلى زمـالة الجراحين الـملكية مـن بريطانيـا، ثم اعـتُقل في عهـد الطاغيـة عـبد الناصر سنة 1954م وسنـة 1965م، وخـرج مـن السـجن فـي 1973م. تولى منصب نائب المرشد العام للإخـوان المسلمين.
معرفتي به ولقاءاتي معه
أول معرفتي به كانت من خلال قراءتي لمجلة (الإخوان المسلمون) الأسبوعية عام 1946م في عددها الخاص عن الجامعة ونشاط الإخوان فيها، وبخاصة كلية الطب، فقد كانت المقالات المنشورة فيها لكل من: د. أحمد الملط، ود. حسان حتحوت، ود.سيـد الجيار، ود. عـوض الـدحـة، ود. عـبد الرحيم عمـران ود. خطاب.. إلخ، ثم قرأتُ عن جهاده في حرب فلسطين عام 1948م ومشاركته مجاهدي الإخوان المسلمين، ومعه الإخوة الأطباء المذكورون وغيرهم، ثم التقيته بمصر بعد ذهابي للدراسة الجامعية سنة 1949م، حيث أُصبت بالدوسنتاريا سنة 1951م، فذهب بي أحد الإخوة إليه للعلاج، فوجدت فيه من النبل والخلق والرجولة فضلاً عن العلم والكفاءة، ما حمدت الله عليه وشكرته على نعمائه، حيث وجد أمثال د. أحمد الملط في الحركة الإسلامية، وأدركتُ أن تربية الإمام الشهيد حسن البنا قد صاغت هذه النماذج الرائعة وفق منهج الإسلام المستقى من الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة.
ثم تكررت اللقاءات به في الكتائب والرحلات والندوات والمحاضرات والأُسر والاجتماعات طيلة فترة الدراسة الجامعية، مما زادني به معرفة، وله محبة، حيث رأيت فيه عزة المؤمن وصلابته وصدقه وصراحته، كما وجدت فيه الحب الصادق لإخوانه، والإيثار على نفسه، والبذل والتضحية والفداء والتفاني في العمل، والإخلاص في المودة.
وكان يولي الطلبة الوافدين من خارج مصر عناية خاصة، وما زلت أذكر حين زرته في عيادته بصحبة أحد الإخوان المصريين للعلاج من جراء مرض ألمَّ بي وثقلت وطأته عليّ، فسرعان ما شفاني الله على يده، حتى إنني احتفظت بوصفة الدواء (الروشتة)، وأطلعت عليها أولادي حينما كبروا، وحدثتهم عن هذه الشخصية العظيمة، ثم جاءت محنة الطاغوت الفرعوني، فشنّ الحرب على دعاة الإسلام بمصر، وفتح السجون والمعتقلات، وتعرض الإخوان المسلمون في السجون لأقسى أنواع التعذيب التي لا تخطر على بال، حيث استخدمت كل الوسائل الخسيسة، التي استوردوها من جلاوزة الشيوعيين، وعتاة النازيين، وزاد عليها سدنة الفرعون، ما تفتقت عنه عقول الزبانية، وجلاوزة النظام أمثال: صلاح نصر، وشمس بدران، وحمزة البسيوني، وصفوت الروبي، وعبد العال سلومة، وأحمد راسخ، وسعد عبد الكريم، وحسن كفافي، وفؤاد علاّم، وأحمد صالح، والسيد والي، وعبد اللطيف رشدي، ومتّى النصراني، وأحمد أنور، وجمال القاضي، وإسماعيل همت، وعلي شفيق، وفريد شنيشن، ومحمود عبد المقصود.. وغيرهم.
مواقفه وصلابته
إن الدكتور أحمد الملط قمة من القمم الشامخة، لا يكل ولا يمل من العمل ليل نهار داخل مصر وخارجها، يصول ويجول في كل ميدان، ولا يتكاسل عن أي عمل يكلف به، أو يُطلب منه، وهو صاحب إصرار ودأب، وصلابة في قول الحق، وإخلاص في أداء العمل، وهو منظم دقيق صارم لا يتهاون في الخطأ ولا يرضى الكسل أو التراخي أو التردد، وشجاع مقدام يقتحم الميادين دون تهيب، كما أنه كريم سمح مضياف، لا يدع زائرًا من الإخوان إلى مصر إلا ويدعوه إلى بيته، وكم من مرة استضافني وإخواني القادمين معي في زياراتي إلى مصر، ولقد سعدتُ بلقاءاته في أوروبا وأمريكا ودول الخليج، وشرفني في بيتي بالكويت أثناء زياراته المتكررة مرات ومرات، كما تحدث في ندوة الجمعة حديثًا أعاد للنفوس ثقتها بنصر الله، وهوّن من شأن الطغاة المتسلطين على شعوبهم، وبشّر الإخوان بقرب الفرج، وأن الدائرة ستدور على الباغين من الظالمين وأعوانهم، ولن ينفعهم الشرق ولا الغرب ولا اليهود ولا النصارى، فعباد الله المخلصون المتوكلون على الله هم الذين سيزيلون دولة الباطل ويحطمون غرور المستكبرين بالأرض، ولكن عليهم الأخذ بالأسباب وإخلاص النية، وحسن التوكل على الله والالتزام بكتاب الله وسُنَّة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وأن حركة الإخوان المسلمين التي عمّت أرجاء العالم وأقبل النشء الجديد عليها، هي الأمل المرتجى للمسلمين في كل مكان لإنقاذهم مما هم فيه من ضعف وهوان لأن الله غايتها، والقرآن دستورها، ومحمدًا (صلى الله عليه وسلم) قدوتها، والجهاد سبيلها، والشهادة أمنيتها.
وإن هذه الدول الكبرى والقوى العظمى ومن يلوذ بها، ليست بشيء أمام عباد الله المجاهدين الذين يؤثرون ما عند الله على ما في الدنيا كلها، ويرخصون النفس والنفيس في سبيل مرضاة الله تعالى القوي العزيز.
وقد بذل د. الملط جهودًا جبارة مع إخوانه: كمال السنانيري، ومصطفى مشهور، وصلاح شادي، وعباس السيسي، ومحمد سليم مصطفى.. وغيرهم في جولاتهم في البلاد العربية والإسلامية والدول الغربية، حيث التقوا بالإخوان القدامى والجدد، ووثقوا الصلة بهم، وحثوهم على استمرارية العمل، ومضاعفته وتنشيطه، فكانت هذه الصحوة المباركة، التي التقى فيها الجيلان: تلامذة البنا وتلامذتهم، فانطلق العمل الإسلامي بقوة وعزم، وحكمة وأناة، واستمر البناء في العلو، بعد أن أُحكم الأساس، وثُبتت القواعد، وتميز الصف، فكان كالبنيان المرصوص.
قالوا عنه
يقول الأخ جابر رزق في كتابه (مذابح الإخوان في سجون ناصر): "فبالرغم من الإجهاد الشديد الذي أثمرته عملية غسيل المخ للإخوان المسلمين، حتى شحبت وجوههم، ونحفت أجسادهم، وصاروا كالأشباح، إلا أن الإخوان كانوا يحرصون على قيام الليل، ويحرصون على الصوم تطوعًا، ويتنافسون ويتسابقون في حفظ القرآن وتلاوته وتدارسه، ويتمثلون بجيل الصحابة (رضوان الله عليهم). لقد كانت فترة السجن الحربي هي الذروة التي وصل إليها الإخوان في طاعتهم لربهم، وتوكلهم عليه، ولجوئهم إليه، وكانت التقوى - بحق - الزاد الذي يتزودون به، وأذكر أن الدكتور أحمد الملط كان يردد كثيرًا الأثر الذي يقول: "أحكم السفينة؛ فإن البحر عميق، وخفف الحمل؛ فإن العقبة كؤود، وأكثر الزاد؛ فإن السفر طويل، وأخلص العمل؛ فإن الناقد بصير" انتهى.
في موسم الحج
لقد غيبت السجون الطبيب الماهر والأخ الداعية الكبير د. أحمد الملط قرابة عشرين عامًا مع إخوانه المجاهدين الأبطال فلم نلتق به، حتى جاء حاجًا مع الأستاذ حسن الهضيبي - المرشد العام للإخوان المسلمين - وكان ذلك في موسم حج (1393هـ / 1973م)، حيث كانت الاجتماعات المكثفة لمسؤولي الإخوان في جميع أنحاء العالم، مع الأستاذ الهضيبي وإخوانه، وكانت ثمارها طيبة مباركة وهو أول لقائي بالدكتور الملط بعد خروجه من السجن، ثم زرت القاهرة مع الأخ عبد العزيز الناصر (أبو أيمن) للعلاج عام 1975م، وكانت فرصة نادرة التقينا فيها بالأخ الكبير د. أحمد الملط وإخوانه، حيث استفدنا من علمهم وتجربتهم، وأكبرنا فيهم هذا الثبات والصبر والمثابرة، التي لولا تربية الإمام البنا ومدرسة الإخوان المسلمين - بعد توفيق الله - لما بقي للإسلام أثر في مصر، بعد هذه المحن المتلاحقة، والحرب الشرسة، من الأعداء في الداخل والخارج على حد سواء، لقد ثبتهم الله فصبروا وصابروا ورابطوا، وما ضعفوا وما استكانوا، بل ظلوا على الحق ثابتين، وبأخوة الإسلام متمسكين، ولمرضاة الله عاملين، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
واستأنف الإخوان نشاطهم بقيادة مرشدهم الثالث الأستاذ عمر التلمساني الذي قاد السفينة بحكمة وعقل وحلم وأناة، حتى استطاعت أن تبدد كل الشبهات والأكاذيب التي كانت تطلقها أبواق الفرعون الهالك وبطانته السيئة.
تأسيس الجمعية الطبّية
لقد شارك د. أحمد الملط في تأسيس (الجمعية الطبّية الإسلامية بمصر) وأقام العلاقات بينها وبين نظيراتها في العالم العربي والإسلامي والغربي، وعقدت المؤتمرات، وأنشأت الكثير من المستشفيات والمستوصفات في داخل مصر وفي الخارج، بأفغانستان، والصومال، والبوسنة والهرسـك، وغيرها، كما ساهمت في تخفيف الكوارث من الأمراض والزلازل والحروب، وكـانت لها إسهامـاتهـا المتميزة في الداخل والخارج، ولن ينسى له الشعب الأفغاني زياراته المتكررة، وإقامته الطويلة، وإيفاده البعثات الطبية المتلاحقة المقيمة والمتنقلة، الـتي كان لها دور كبير في مـداواة جراح المجاهدين وعلاج مرضى اللاجئين، وإيوائهم وخدمتهم، وقد ربى جيلاً ضخمًا من الأطباء المسلمين العاملين في مختلف الميادين، والذين برزت شخصياتهم القوية في نقابات الأطباء بفروعها المختلفة، ومن خلال نشاطهم في أفغانستان والبوسنة والهرسك وغيرها.
إن أستاذنا الدكتور أحمد الملط لم يكن طبيبًا فحسب، بـل هو مربٍّ من الطراز الأول، حيث له من الفقه الدعوي، والنشاط الـحركـي، والتربيـة الـروحية نصيب وافر، وحظ كبير، وكم له من نظرات عميقة في تحليل الوقائع والأحداث، وتقويم الأفراد والجماعات، وهو رجـل دائم الذكر والدعاء، وتـلاوة القرآن، لا يترك ورده القرآني اليومي، ولا الأدعية المأثورة في الصباح والمساء، ويكثر الدعاء لأساتذته ومشايخه، وإخـوانه العاملين في حقـل الـدعوة الإسلامية، ويسعى لإصلاح ذات البين، متعاونًا مع أستاذنا الداعية الكبير الحاج حسني عبد الباقي الذي يعتبر الرائد في هذا المجال (رحمهما الله جميعًا).
إن الأخ الحبيب والداعية المجاهد والطبيب الناجح د. أحمد محمد الملط من الرجال القلائل الذين صمدوا في المحن المتعاقبة التي أصابت الحركة الإسلامية المعاصرة، وكان مثال العبد الصابر المؤمن بقضاء الله وقدره، الذي واجه المحن كلها برباطة جأش، وإيمان راسخ، وتوكل على الله العظيم.
في بيت الله الحرام
ولقد أكرمه الله بالحج إلى البيت الحرام أكثر من مرة، وقد نوى إحدى الحجات عن الإمام ابن حزم الظاهري؛ لأنه لم يحج، كما أنه قل أن تفوته عمرة في رمضان، حيث الاعتكاف وتلاوة القرآن، والدعاء للمسلمين، والنظر في شؤونهم، وتوجيه العاملين في الدعوة الإسلامية، وشحذ هممهم لمضاعفة الجهد فيما يرضي الله تعالى.
إن الأخ الكريم الداعية أحمد الملط ثمرة ناضجة من غرس الإمام الشهيد حسن البنا، وإن سيرته العطرة، ومواقفه الصلبة، وثباته على الحق، وعمله الدؤوب.. ليدل على أن هذه الكوكبة من الرجال المؤمنين هم الذين يكتبون التاريخ بجهادهم لا بأقلامهم، ويعيشون الإسلام بأعمالهم لا بأقوالهم، ويعملون لإرضاء الله لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يرهبون السلطان لأنه إلى زوال، ودعوة الله باقية.
يروي الشهيد عبد الله عزام في كتابه (حماس: الجذور التاريخية والميثاق) فيقول: "حدثني الدكتور أحمد الملط قال: كنت مع الإمام البنا، إذ دخلت عليه امرأتان تصيحان تقولان: يا بنَّا، أنت آثم لأنك تأخذ أولادنا وتريدنا أن نأكل الطوب (التراب)، إذ كان عماد عيشنا فدانًا من الأرض يجره ثور وحمار، فقام ابننا (عبد السلام عجلان) وباعهما وهو الآن في السيارة التي أمام دار الإخوان المسلمين متوجهة إلى فلسطين. فأرسل الإمام البنا إليه، وقال له: نحن لا نريدك أن تذهب إلى فلسطين، وإذا بعبد السلام عجلان يستشيط غضبًا ويرد على الإمام البنا بقوله: إن كنت تظن أنني ذاهب إلى فلسطين لإرضائك فأنت واهم؛ أنا ذاهب لنيل الشهادة في سبيل الله ودخول الجنة. ثم خرج من دار الإخوان وركب السيارة، فأمر الإمام البنا بإنزاله من السيارة، فنزل وركب عبد السلام في المواصلات العامة. وكم كانت دهشة الإخوان أن وجدوه ينتظرهم على القنطرة فاضطروا لأخذه.
وقال الدكتور أحمد الملط: لقد أرسل وراءنا سليمان عزمي باشا - مدير الهلال الأحمر المصري - وقال: اطلبوا ما شئتم من المرتبات لأننا أعلنا في الصحف نطلب أطباء برواتب مغرية فلم يتقدم أحد، قال أحمد الملط: "وكنا ثلاثة أطباء من الإخوان: د. حسان حتحوت، ود. خطاب، وأنا) فقلنا: لا نريد إلاّ الطعام والمأوى، فقال سليمان عزمي: ولكننا نكتب لكل طبيب دية تسلم عند استشهاده لمن يريد، ثم سلمونا نحن الثلاثة أوراق الدية وقيمتها (ثلاثة آلاف جنيه مصري)، وكان للجنيه آنذاك قيمة كبيرة إذ كان ثمن رغيف الخبز مليمًا واحدًا.
فكتب د. أحمد الملط: (ديتي تسلم لحسن البنا) وعندما ودع د. الملط الأستاذ البنا أفصح له بأن ديته تدفع له، فانفجر باكيًا وشاركه البكاء مصطفى السباعي"..انتهى.
يقول الأستاذ عباس السيسي في كتابه (حكايات عن الإخوان): "إن غاية الإخوان المسلمين من دعوتهم هي تغيير العرف العام في الأمة نحو الإسلام، فهمًا وسلوكًا وحركة، ولا يبدو هذا التغيير واضحًا، إلا بشيوع الفكر الإسلامي وانتشاره، ولا تتضح معالم هذا الفكر إلا إذا كانت له مظاهر عملية واضحة تعلن عن نفسه، فالفكر بلا حركة، روح بلا جسد، فالحركة تجسيد للفكر، وإعلان عن وجوده، حقيقة وعملاً، وهي دليل فاعلية الفكر، وأثره وتأثيره، فالأخ المسلم كتاب مفتوح أينما سار، فهو دعـوة متحركـة أو دعـوة بالتفسير والتوضـيح" انتهى.
نعم.. لقد كان د. أحمد الملط وإخوانه المجاهدون الصابرون دعوة متحركة يرى الناس فيها الصورة المشرقة المضيئة التي تعيد سيرة السلف الصالح من الدعاة المسلمين، والعاملين الصادقين، الذين حملوا راية الإسلام، وجاهدوا في سبيله، وأعلوا كلمة الله، وحرروا العباد من سيطرة الطواغيت.
يقول الأستاذ حسن الهضيبي - المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين - حين سمع الإمام حسن البنا يخطب: "كم من خطب كثيرة سمعت، كنت أتمنى كل مرة أن تنتهي سريعًا، ولكن هذه المرة كنت أخشى أن يسرع البنا بإنهاء خطبته، لقد مضت مئة دقيقة، جمع فيها قلوب السامعين في راحتي يديه، وهزها حيث أراد، وانتهى الخطاب وأعاد إلى مستمعيه قلوبهم ما عدا قلبي فقد بقي في يديه" (كتاب الدعوة إلى الله حب).
لقد ظل الدكتور الملط يجاهد ويتحرك في كل مكان لجمع كلمة المسلمين وخاصة العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، ويوصيهم بالاستمرار في بذل الجهد من أجل الإسلام والمسلمين، ولم يمنعه كبر السن، ووطأة المرض في القلب من كثرة الأسفار في سبيل الله، وآخرها زيارة إخوانه المبعدين من فلسطين في مرج الزهور بجنوب لبنان رغم تقدّم سِنّه ووهن صحته، وقد كان يتمنى أن يلقى الله وهو في ساحة الجهاد.
وفاته بمكة المكرمة
وقد ختم الله حياته الحافلة بالجهاد، حيث اختاره إلى جواره، بعد الفراغ من مناسك الحج عام 1415هـ / 1995م، وصُلي عليه بالمسجد الحرام، ودفن في مكة المكرمة، رغم أمنيته في أن يدفن بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم.
ثناء إخوانه عليه
قـال عنـه رفيـق دربـه المرشد العام الخامس الأستاذ مصطفى مشهور:
".. صديق العمر ورفيق الطريق على مدى نحو خمسين عامًا، رفيق الجهاد والكفاح، المقاتل بالسلاح لأعداء الإنسانية والإسلام من اليهود والصهاينة في القدس واللد والرملة وسائر بلاد فلسطين الحبيبة ولحلفائهم المستعمرين الإنجليز على أرض القنال، ثم الصابر المحتسب عشرات السنين في سجون الظلم والاضطهاد، ثم المكافح بالكلمة الصادقة والعبارة الصريحة الشجاعة الباذل للمال عن سعة وبغير حساب في سبيل الله، الأخ الدكتور أحمد الملط، نائب المرشد العام للإخوان المسلمين" انتهى.
وقال عنه رئيس جمعية الإصلاح الاجتماعي بالكويت الأخ عبد الله علي المطوع:
"ودّعت الحركة الإسلامية قبل أيام الدكتور أحمد الملط، نائب المرشد العام للإخوان المسلمين، الذي كان علمًا من أعلامها، ونجمًا من النجوم الذين حملوا لواءها، وانتظموا في صفوفها منذ أكثر من ستين عامًا.
عرفتُ الدكتور أحمد الملط منذ فترة طويلة، فكانت روح الشباب وهمتهم وطاقتهم هي دأبه منذ عرفته وحتى لقي ربه مخلصًا لدعوته صابرًا على المحن التي تعرّض لها طوال حياته، والسجون التي دخلها في عهود الظلمة والطواغيت سواء في عهد فاروق أم عبد الناصر، فكان يخرج من كل محنة ومن كل معتقل أصلب عودًا مما دخل، وأمضى عزمًا مما كان، ومع أنه كان طبيبًا جراحًا ماهرًا إلا أنه كان صاحب قلم فيّاض ويد سخية معطاءة، فكان مجاهدًا بماله ونفسه وقلمه في سبيل الله، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدًا، شارك في حرب فلسطين سنة 1948م ضد اليهود وهو شاب يافع، وخرج من المعتقل في السبعينيات ليواصل دعوته وجولاته في أوروبا وأمريكا وشرق آسيا والعالم العربي ليبلغ الدعوة وينصر الدين، حتى حين كبر سِنّه وأدركته العلل ذهب يصلح بين الأفغان، وزار المبعدين الفلسطينيين في مرج الزهور، وزار المحاصرين في سراييفو، واختاره الله إلى جواره عقب أداء مناسك الحج ودفن بمكة المكرمة.." انتهى.
وقال عنه الشيخ محمد عبد الله الخطيب:
"... أجدر الناس بالخلود، ذلك الرجل الذي يحرص على مصلحة أمته، فهو يعيش لها لا لنفسه، إنه يسهر من أجلها، ويحرص على سلامتها، ويسعى لأمنها وراحتها، إنه يربط مصيره ومستقبله بالحق الذي قامت عليه السموات والأرض، ماذا أخذ فقيدنا من الدنيا؟ أخذ منها جسدًا طالما تحمل الآلام والتعذيب، والسجون والمعتقلات، أخذ منها محنًا متوالية، وشدائد يرقق بعضها بعضًا لم يحرص على منصب أو جاه، ولم يتزلف لأحد، وإنما وضع بين عينيه ثقل التبعة وخطرها والأمانة وأعباء الطريق، ووقوفه بين يدي القاهر الذي لا تخفى عليه خافية؛ وإن قلبًا تسكنه مخافة الله جدير أن يحمل صاحبه على التعالي على حطام الدنيا، والارتفاع فوق كل ما يرهب وما يخيف، فكل شيء دون ما عند الله هباء.
كان فقيدنا عليه الرضوان من ذلك النوع الفريد الذين وهبهم الله رصيدًا عظيمًا من معرفة الحق، والثبات والصبر على تكاليفه، فكان إيمانه بالله (عز وجل) وثقته به، ويقينه بوعده، ورعايته لأوليائه شيئًا عظيمًا، يسري في كيانه كله، ويملك عليه أقطار نفسه، كان يقول الحق ولو كان مرًا، وكان يصرّ على أن الثبات على أمر الله هو الرصيد المذخور وهو برهان الخير وأمل النصر" انتهى.
نسأل الله تعالى أن يتقبله في عداد الصالحين والدعاة والصابرين،
وأن يجمعنا وإياه مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
وسوم: العدد 828