أحدّثكم عن "صابر عبد الدايم"
في أول مرة، ذهبتُ لأُدلي بصوتي في انتخابات (نقابة الكُتّاب)، وقد رأيتُ الشعراء والأدباء احتشدوا بالآلاف وهُم يستمعون ل"خطيب الجمعة"، فكان يحثّهم على القراءة والعِلْم والأخذ بأسباب الحضارة، وكان النقّادُ والكُتَّابُ مشدوهين وهو يستمعون قوله: "ليس مصادفةً أن يكون أول تعاليم السماء الأمر بالقراءة (اقرأ)! إنه أمر إلهيّ تكرر مرتيْن متتاليتيْن، وهو موجَّه إلى مَن لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وتمثّل الربطُ البديع بين القراءة واسم الربّ الخالق (اقرأ باسم ربّكَ الذي خَلَق)، ثمَّ جاء في وصف الربّ بالأكرم (ربُّكَ الأكرم)، وهي صيغة مبالغة وتفضيل تُعبِّر عن المطلق، لا عن النسبي. أمَّا في حالة المعاتبة فقد استخدم لفظ "الكريم" (ما غركَ بربكَ الكريم)!
ثمَّ سكتَ برهةً، وقال –بصوتٍ خفيض-: لقد غرّنا بكَ -يا مولانا- أنكَ الكريم!
وانتقل بعدها إلى مغزى القَسَم بالقلم في السورة الأخرى، وكيف اعتبره –سبحانه- آيةً من آياته كالشمس والقمر والليل والنهار التي بدونها يختلّ النظام الكوني!
وبمجرد أن فرغنا مِن الصلاة، سألتُ أحد الأدباء: مَن هذا الخطيب الفذ؟ فقال مبتسِماً: إنه (صابر عبد الدايم)!
* * *
بعد ذلك بشهريْن، حضرتُ المؤتمر السنوي لهيئة قصور الثقافة، وكان أغلب المشاركين مِن ضحايا الحداثة وعبيد الشّعر الحر ... فاشمأزّتْ نفسي، وقبلَ أن أغادر المكان بلا رجعة، سمعتُ مَن يُغيّر اتجاه الريح، ويُعرّي تلك الأبواق الفجّة!
فقد صعد على المنصَّة شابٌ بهيّ الطلعة، وراح يهاجم سفراء التغريب، ويتهكَّم من كتاباتهم السخيفة، فقال: "كثير مِن دعاة الحداثة "الواهمين" قد صنعوا من فكرهم بوقاً يردّد في غير وعى مبادئ الثقافات الوافدة، ويروّج لها ويحاكيها، ويقومون أحياناً بسرقة الأفكار التغريبية وتقديمها في صورة مشوهة ممسوخة حتى أفسدوا المناخ الأدبي، وشَوّهوا الحياةَ الفكرية خاصةً عندما سيطروا على الصحف والمؤسسات الثقافية والإعلامية ..."!
في تلك اللحظة، سألتُ الذي كان على يميني: مَن هذا الذي أتى على بنيان الحداثة مِن القواعد؟ فضحكَ، وقال: إنه (صابر عبد الدايم)!
منذ ذلك اليوم؛ جعلتُ هذا الأديب قِبلتي، فحفظتُ كل قصائده، وتابعتُ أنشطته الثقافية، وقد أهداني مؤلفاته التي هيَ كلّ ثروتي، وأعزّ ما أملك في حياتي!
فعندما كنتُ مشغولاً بكتابة "سجّادة الخِضْر"؛ شعرتُ باحتياج إلى معرفة لغة المتصوَّفة ودلالاتها، فوجدتُ ضالّتي في كتابه "الأدب الصوفي"! فقد عثرتُ على كنزٍ لا نظير له من الرموز والإشارات والمصطلحات الصوفية العجيبة ... حتى ظهرت هذه المجموعة القصصية في أبهى حُلّةٍ أدبية وأروع ثوبٍ قشيب!
ولوْ أنَّ القومَ عرفوا قدر كتاب "الأدب الصوفي"؛ لتعبّدوا بتلاوة أسفاره، وعلّقوه على صدورهم، وصنعوا منه التمائم والأحجبة والتعاويذ!
مَن هو "صابر عبد الدايم"؟
إنه الأديب الذي لم يكتب كلمةً يندم عليها أمام الله، أوْ يخجل منها أمام الناس!
ذات مرة، اتصلتُ بالمذيعة الشهيرة "سلوان محمود"، وقرأتُ عليها بعضاً ممَّا جاء في كتاب (شعراء وتجارب) عن الشّاعر "محمود حسن إسماعيل"، فقالت على الفور: مَن ذا الذي كتب هذه السطور اليانعة عن أبي؟ قلتُ لها: إنه الناقد (صابر عبد الدايم)، فصاحت بي: أسرِع، وقل له: لوْ ألقيتَ هذه الكلمات على قبره، لقام مِن بين الأموات!
وعندما زرتُ الدكتور "محمد عمارة"، قلتُ له: لماذا لا تُخصّص مجلةُ الأزهر باباً عن الشّعر والأدب؟ فقال: أحسنتَ، لقد أوكلنا هذه المهمة للدكتور (صابر عبد الدايم)!
* * *
لا زلتُ أقول: إنَّ قصيدته (مناجاة في ليلة القدر) أبلغَ ما عبّرت عن مقاصد تلك الليلة المباركة، إذْ يقول فيها:
هيَ الليلةُ الغراء أشرق قدرها
وما ليلة هذي، ولكن سنا يسري!
ففي روضة الأزمان يعبقُ ذِكرها
وفي كل وادٍ فضلها منبعُ الخيرِ!
فمن رامَ رزقاً فهو في خير قصدهِ
ومن رام عفواً فاق من سَكرةِ الوِزرِ!
أرى المدحَ ذمًّا إنْ أردتُ مديحها
فقد خصها القهارُ بالعز والقدرِ!
ولا زلتُ أقول: إنَّ رائعته "أين الطريق إليك؟" التي يُناجي فيها "الرسولَ الأعظم"، هي التي فتحتْ شهيّتي لإعداد كتاب (بستان المدائح النبوية)، والتي استهلّها قائلاً:
يا سيدي، والشمسُ بعضُ ضياكا هلْ تطفئ الريح العقيم سناكا؟ لا، فأنتَ المصطفى والمجتبى والكون قاع صفصفٌ لولاكا تمضي القرونُ وأنتَ أنتَ مُحمّدٌ تهب الوجود المر فيض شذاكا أنتَ الحبيبُ المصطفى والمجتبى واللهُ ينصرُ كل مَن والاكا !!
|
|
|
في الماضي، كانت بيني وبين بلاد الفلاَّحين عداوة شديدة؛ بسبب ما توارثناه في "الصعيد الجوّاني" أنَّ هؤلاء هم "الكُفّار" وأنهم بقايا الهكسوس، ومِن مخلّفات الحروب الصليبية ... حتى عندما دعاني الدكتور "رأفت الشيخ" لحضور مؤتمر أدبيٍّ ترددتُ كثيراً .. ولكن لمّا أخبرني أنَّ المشرف على المؤتمر (صابر عبد الدايم)؛ لبّيتُ الدعوة ... ولا زلتُ أقول: إنه أهم مؤتمر ثقافي شهِدته في حياتي!
نعم، فما من ندوةٍ يشارك فيها (صابر عبد الدايم)؛ إلاَّ وتتحوّل إلى مهرجانٍ وعيدٍ بهيج، إذْ يفيض على المشاركين ببشاشتهِ المعهودة، وحفاوته البالغة ... حتى تتحوّل الندوة إلى عُرس ثقافي يستحيل تكراره!
وما زلتُ أقول: لوْ أنَّه أنشأ صالوناً أدبياً؛ فلن يقلَّ شهرةً عن صالون العقّاد!
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف استطاع -هذا العالِم اللغوي، والأديب الموسوعي، والأزهري الذي لا ريبَ فيه- ببساطتهِ وتواضعه وعذوبة منطقه أن يَجمع تلك الآلاف من البشر حوله، ويقف بينهم واعظاً وخطيباً تارة، وناقداً ومحاضراً تارةً أخرى، ويكشف لهم عن معالم الدين، وأسرار البيان النبوي، ويُشوّقهم إلى علوم العربيّة، ويحلّ مشاكلهم، ويُصلح فيما بينهم، ويُمطِر دور النشر بالمؤلفات، ويملأ الصحف بالمقالات، ويشارك في تأسيس الجمعيات الأدبية، ويعقِد المسابقات الشّعرية، ويناقش الرسائل العلمية، ويتفضّل بكتابة المقدّمات لقصص ودواوين تلامذتهِ ومريديه ... على عكس أدعياء السلفية وأبواق الوهابية؛ الذينَ استعلوْا على الناس، وجلدوهم بسياط التكفير والتفسيق، ونفّروهم من الدين، وبغّضوا اللهَ إليهم!!
* * *
أخيراً، أقول: لعلَّ أهم ما يميّز (صابر عبد الدايم): أنه لا يتخلى عن الشجاعة والصراحة في أيّ رأيٍ أوْ موقف، وقد سألته –ذات مرة- عن رأيه في "النقد الحديث"؟ فقال: هذا النقد مازال يحلّق بعيداً عن فضاء النصوص الإبداعية، ويكتفي أصحابه باستيراد النظريات الغريبة، وإعادة صياغتها في جملة عربية معقدة لا يفهما كثير من المبدعين، ودليل هذا الانفصام بين التنظير النقدي المستورد وبين النص الإبداعي: أنَّ "نجيب محفوظ" قال حينما قرأ نقداً لروايته في مجلة "فصول": "إنني لأول مرة لا أستطيع فهم ما يقوله الناقد في نقد الرواية"! إذْ تناسوا هؤلاء المساكين أنَّ الإبداع يسبق المقاييس النقدية، وأرى أنَّ النقد تخلَّف عن مواكبة الإبداع حين رحل بعيداً، وخاصم بيئة المبدع، وعاد غريب الوجه واليد واللسان!
ذلكم (صابر عبد الدايم) أحد أعلام الأدب الإسلامي، وواحدٍ من السلسلة الذهبية لعمداء كلية اللغة العربية؛ الذين أنعمَ اللهُ عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضّالين ... آمين!!!
وسوم: العدد 1079