صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف
كلمة لا بد منها
ربما يلاحظ القارئ أن صاحب المذكرات في الحلقات الأولى لم يتحدث عن شيء يترقبه كل قارئ أن يسمعه من شخصية مثل محمد مهدي عاكف، المرشد الراحل لجماعة الإخوان المسلمين، غير أننا لا بد أن ندرك أن رجال النظام الخاص الذين ظلوا في فلك الجماعة يتكتمون على كثير من الأحداث والأسرار، ظنا منهم أنها تضر أكثر مما تفيد، أو أن أوانها لم يأت بعد أو لحساسية المكان الذين يتبوّأونه، أو أن الأحاديث التي يتكلمون بها أحاديث عامة في الإعلام، مع حرصهم على عدم الحديث في القضايا التي لم يكونوا طرفا فيها. ولذا شعرت أن الكلام ربما يكون عاما، والدارس للتاريخ الحديث ربما سمع الكثير من هذه الأحداث.. غير أني أحسب أن خصوصيات الحديث تتجلى في الحلقات القادمة، والتي شغل فيها صاحب المذكرات مواقع فعالة في صناعة القرار، وكان له دور وبصمات في أحداث التاريخ.
وإلى الحلقة الأولى من مذكرات محمد مهدي عاكف، والتي تنشرها "عربي21"، حصريا، على مدار 30 حلقة.
***
الحياة صديق يحمل كلّ معاني الصّداقة والحبّ، كروح في جسدين، تسعى كل واحدة لما يرضي الأخرى. وبين بداية الحياة ونهايتها صفحات من ذكريات الصداقة مع الأحداث التي لا بد لها يوما من انطلاقة لتفصح عما عاشه الإنسان.
وهذه صفحات رجلٍ عاش مع أحداث جسام، فأثر وتأثر، وحينما رحل.. خلّف زلزالا في وجدان من عرفه، وبمواقفه حرك مياها آسنة، سواء داخل الجماعة التي اتخذها سبيلا إلى الله، أو وطنه الذي دافع عنه بأنفاسه الحرة، فلم يبخل عليه بشيء حتى وإن ضن عليه البعض بالحياة الكريمة، فمات وما شيّعه إلا نساء بيته.
بين ثنايا القرية:
في جو امتاز بصفاء الطبيعة، وبساطة المعيشة، وصدق المشاعر بين أبناء القرية، نشأت وسط أسرة متدينة حرص رب الأسرة على تربية أبنائه تربية إسلامية؛ ففي القرية تشكل عالمي من وحي روح هذه القرية الطليقة التي تتغير مع الزمن، ويتغير بنيانها وحوائطها في كل لحظة، خاصة في عالمنا المعاصر.
في الريف.. حيث يهرول الفلاح إلى حقله في الصباح الباكر، بعدما ينطلق أذان الفجر، فيتسابق البعض للوقوف بين يدي الله، وبعدها تنطلق تباشير الصباح لتضيء هذا الكون بالنور والضياء. ومع الفجر، تنطلق تغاريد الطيور، تشدوا بترانيم الصباح، معلنة ميلاد يوم جديد، فترى النساء يهرولن لمساعدة أزواجهن، وإيقاظ أبنائهن، ليسعى الجميع على الرزق.
ولدتُ في الثاني عشر من تموز/ يوليو عام 1928م، بقرية كفر عوض السنيطة، مركز أجا، محافظة الدقهلية، وترعرعت وسط هذه القرية التي أرضعتني معنى الرجولة والمسؤولية المبكرة، حيث خصال ومعادن أبناء الريف.
بين أحضان الأسرة
ولدت في أسرة ثرية، وهي أسرة عاكف؛ حيث كان جدي "عثمان عاكف" الطبيب الخاص للخديوي وللسلطان، غير أن الإنجليز قتلوه في عام 1900م، ولم يكن والدي قد تجاوز العامين آنذاك.
عاش والدي مع إخوته في بحبوحة من العيش حتى كبر، وتزوج، وأنجب أحد عشر ولدا وبنتا كنتُ واسطة عقدهم. وقد حرص والدي على تربيتي أنا وإخوتي على المثل والقيم العليا، فعمد إلى المشايخ لتحفيظنا كتاب الله وشعائر الدين داخل بيتنا، غير أنني لم ألتحق بالكتاب قبل أن نلتحق بالتعليم، حتى إنه باع من أرضه الكثير لينفقها على تعليمنا وتربيتنا.
كان بيتنا الكبير مملوءا دائما بالخيرات، وكان والدي محط احترام أهل القرية وإجلالهم، وذلك لطيب نفسه وتواضعه. وما يكاد يخرج من البيت لعمله حتى تدب الحركة، ويعلو صياحنا - نحن الأطفال - حتى يملأ البيت، وتبدأ أمي الحبيبة - تلك الملاك الجميل، الباسم الوجه، المشرقة، المحبة - يومها بعد صلاة الفجر بتجهيز طعام الإفطار الشهي، وإيقاظ النائمين، ثم تبدأ في أعمال البيت بكل همة ونشاط كعادتها كل صباح.
كانت أمي مثالا للطيبة، ورضا النفس، لا تعرف معنى للشر ولا السوء. لا تعرف إلا الخير، وحب ببيتها وأولادها والناس جميعا.
وجهها مشرق باسم دائما؛ فلم نرها أبدا غاضبة، ولم نسمع منها أبدا كلمة جافية. كانت أقسى كلمة نسمعها منها حين يشتد صخب الأولاد "طيب يا أولاد، سأخبر أباكم حين يعود".
مرت فترة الطفولة جميلة رائعة، استمتعنا فيها بكلّ لحظةٍ. فقد كان لكلّ شيءٍ فرحة؛ حيث يحيط بنا الحنان والعدل والحزم أيضا، فلم نشعر أبدا بالتدليل أو الحرمان. ومرت الأيام سهلة حالمة، ولقد كانت هناك أيام مميزة لها فرحة أكبر وأعظم من غيرها، كالاستعداد لرمضان، والأعياد، ثم التعرف على هذا العالم الجديد من أطفال القرية الذين يلعبون معنا، والانضباط والالتزام بحفظ القرآن، والحساب، ومبادئ اللغة.
في تلك الفترة، كانت كلمات مصطفى صادق الرافعي حاضرة في ذهني: "قد يكون في الدنيا ما يُغني الواحد من الناس عن أهل الأرض كافّة، ولكن الدنيا بما وسعت لا يمكن أبدا أن تغني محبا عن الواحد الذي يحبه! هذا الواحد له حساب عجيب غير حساب العقل.. فإن الواحد في الحساب العقلي أول العدد، أما في الحساب القلبي فهو أول العدد وآخره، ليس بعده آخـِـر إذ ليس معه آخـَر".
على حافة المجتمع
حرص والدي على عدم اختلاطنا بالأطفال أو اللعب في شوارع القرية، حيث وفر لنا الكثير من اللعب داخل بيتنا الفسيح، وكان كثير من الأطفال المتعلمين يأتون للعب معنا في الملاعب التي أنشأها والدي لنا داخل البيت، حتى إنه حينما أراد تعليمنا السباحة كان يأتي بالصفائح ليربطنا بها، ويرمي بنا في الترعة التي تمر أمام بيتنا لنتعلم فنون السباحة بهذه الطريقة.
كما أتاح لنا مرور الترعة أمام البيت أن نتدرب على فنون صيد الأسماك، فكنا نقضي ساعات على الترعة في صيد السمك، وكان لهذه المهنة دور كبير في تعليمنا فنون الصبر والتريث.
ليس هذا فحسب، بل عمل والدي على تعليمنا ركوب الخيل والصيد، لدرجة أنه اشترى لكل واحد - نحن الإخوة الذكور السبعة- حمارا؛ لنمتطيه، ونتعلم عليه، حتى إننا كنا نجرى مسابقات الحمير فيما بيننا.
كان هذا ذكاء من الوالد أن نشغل كل وقتنا بأعمال مفيدة وهادفة، حتى إذا جن الليل هرولنا جميعا إلى مخادعنا من التعب الذي لحق بنا طوال اليوم، لنستيقظ مع الديك لصلاة الفجر.
رجولة مبكرة
لم يكن صباي كغيري من الصبيان الذين ينشغلون باللعب فقط، بل حرص والدي على إكسابنا معاني الرجولة والمسؤولية منذ صغرنا؛ حتى نستطيع مواجهة الحياة.
معاني الرجولة التي تَعرف فن الحوار مع العاقل، والإعراض عن السفيه والجاهل، كما تعرف غض الطرف عن التفاهة والسفاهة، والالتزام بما يرفع المقام والمكانة، الرجولة التي تعرف الحلم والحكمة، لا الصرعة والبطش بخلق الله.
تربيت على الشجاعة سواء في القول والعمل؛ فقد كان والدي يعطينا الفرصة لنعبر عن آرائنا بكل شجاعة، دون الإخلال بالأدب في الحديث أو علو الصوت أو عدم احترام الكبير.
بين أحضان المسيحيين
أثناء فترة الاحتلال الإنجليزي، قدم إلى مصر الكثير من الأجانب، كاليونانيين والإنجليز والأرمن وغيرهم، واستوطنوا مصر، وأنشأوا فيها المصانع، وعملوا بالتجارة والزراعة. وكان لنا أصدقاء من الأجانب المسيحيين، وكانت علاقتنا بهم في القرية على خير حال، وكان معظمهم من اليونانيين (Greece)، والذين استوطنوا قريتنا حتى أصبح لهم نصف القرية، وكانت علاقتنا بهم طيبة؛ لأنهم كانوا على قدر كبير من التربية والأدب. إلا أنه لم يكن في قريتنا أحد من أقباط مصر، لكن بعدما التحقت بالمدرسة، وخاصة معهد التربية الرياضية، كان لي منهم أصدقاء عدة أمثال: منير جرجس (وافته المنية)، وفوزي يعقوب، وظلا صديقاي حتى الآن. أذكر أنني كنت عضوا في نادي الشبان المسيحي الموجود في شارع إبراهيم باشا، ولم نكن نعرف معنى الفتنة الطائفية، بل كانت العلاقة بين الجميع تحوطها المحبة، ولم نسمع هذه الكلمات في صغرنا، كما كان معنا في النادي ألبير تادرس، وكان سلامة موسى يعطي بعض المحاضرات هناك.
في المرحلة الابتدائية التحقت بمدرسة المنصورة، وحصلت على الشهادة في الوقت الذي حصل فيه إخوتي على شهادة البكالوريا.
لم يكن والدي منشغلا بأمور السياسة الحزبية، لكنه كان مثقفا يدرك ما يحاك للوطن من مؤامرات، فكان يتابع ما يجري على الساحة، وكان لا يريدنا أن ننشغل بالمهاترات الحزبية أو الخزعبلات التي كنا نراها من بعض المسلمين، والشطط في التدين.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (2)
بين أحضان المدينة
عشنا في الريف حياة جميلة، لكن كان للقدر رأي آخر، فبعدما انتقل بعض إخوتي إلى القاهرة للدراسة في الجامعة، ارتأى والداي أن ننتقل جميعا إلى القاهرة معهم، واستأجر بيتا في السكاكيني، وكان إيجاره جنيهين. وكان هذا الحي مشهورا بالترف، ولا يسكنه إلا علية القوم آنذاك. ومن المعروف أن حي السكاكيني اشتهر بالرقي حيث يوجد به قصر السكاكيني، وأنه يُعد تحفة معمارية غاية في الروعة والجمال، بما يضمه في طرازه المعماري من مختلف فنون العمارة.
انتقلت، وكنت أحسب نفسي من أبناء المدينة، حيث تربيت في بيت ثري، غير أنني وجدت اختلافا في الطباع والسلوكيات والأخلاقيات، ووجدت فرقا كبيرا بيني وبين أبناء المدينة الأصليين.
كان انتقالنا شروقا جميلا، كأننا خرجنا من بئر عميقة إلى ضوء الشمس المشرقة، ولكن لم تبهرني أضواء المدينة كثيرا، لكنني كنت أستمتع بركوب الحنطور مع والدي، كما أنني أعجبت بالترام حينما ركبته، وكان أعجوبة بالنسبة إلينا، ورأينا السيارات والمحلات التي نادرا ما كنا نراها في القرية.
كنت سعيدا بكلِّ ما حولي، هل الدنيا واسعة هكذا؟! وهذه القطارات الضخمة إلى أين تسير؟! لقد كانت القرية بالنسبة إليّ كل دنياي، وكنت سعيدا وراضيا بها، ولكنني الآن أعيش إلى دنيا جديدة؛ فرحا ومتشوقا لمعرفتها واكتشافها.
أحسست بأن الشمس والحدائق بحي السكاكيني، والجو النقي هي التي تخلق النضارة والإشراق في كلِّ مكان حولنا، والسعادة كلمة لا تكفي للتعبير عن مشاعرنا تجاه هذه النقلة الحضرية.
على عتبات المسؤولية
التحقت بالفرقة الأولى بمدرسة فؤاد الأول الثانوية بالقاهرة، وكان لا يدخل هذه المدرسة إلا أبناء الزعماء، وكبار القوم؛ حيث كان عدد التلاميذ فيها لا يتجاوز الـ400 طالب. ومع ذلك، كنت محافظا على صلواتي في المسجد وفق التربية والتنشئة الإسلامية التي ربانا عليها الوالد والوالدة.
لقد اختلف جو المدرسة الثانوية كثيرا عن جو المدرسة الابتدائية، من حيث معاملة الأساتذة لنا بنوع من التساهل والحرية النسبية، وقد كانوا يذكروننا دائما - إذا صدر منا خطأ - أننا الآن أصبحنا رجالا؛ ما يزيدنا فخرا وسرورا.
وكان من الأشياء المحورية داخل مدرستنا مناقشة أساتذتنا (على مختلف فكرهم) لنا، والحوار معنا، رغم ثقافتنا البسيطة، لكنها كانت مناقشات هادفة وجدية.
تعرفت على الكثيرين من الطلبة في المسجد، وتوطدت علاقات الصداقة، وحرصنا على التعرف على بعضنا البعض، وتوثيق عرى المحبة بيننا.
كان أصدقائي الجدد صورة تختلف كلية عن أبناء القرية الطيبين، هادئي الطبع، أصحاب الخلق والقيم، غير أنني تعرفت على أصحاب الخلق القويم.
كانت الحرب العالمية الثانية على أشدها، وكان الألمان على مشارف البوابة الغربية لمصر، وكنا نسمع صفارات الإنذار والغارات.
لقد بلغ الألمان العلمين، حيث تدور معركة حامية الوطيس بينهم وبين الحلفاء، وكنا في قرارة أنفسنا نكره الإنجليز؛ لأنهم احتلوا وطننا وأذلوا شعبنا، كما أننا لا نعرف من هم الألمان، لكننا ننظر إليهم على أنهم سيساعدوننا في الاستقلال.
عاكف في قطار الإخوان:
الإخوان المسلمون جماعة إسلامية إصلاحية شاملة، تعمل من أجل الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وقد أسسها الإمام الشهيد حسن البنا، الشاب الجامعي الذي تخرج في كلية دار العلوم، ثم عين في الإسماعيلية، حيث الطبيعة الفريدة في هذه المحافظة، وحيث التقت القلوب مع بعضها، فأخرجت شبابا تقيا يعمل من أجل هذا الدين الشامل، مع العلم أنهم ليسوا من حملة الشهادات الجامعية؛ فقد كان معظمهم عمالا.
انتشرت الدعوة في ربوع القطر المصري مع مرور الوقت، حتى وصفه الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس بـ "الرجل الذي يتبعه النصف مليون".
تردد أمامي اسم الإخوان المسلمين في هذا العام، وعمد بعض أصدقائي لتعريفي بمبادئ هذه الجماعة، وإلى أي شيء تدعو. ومن المعروف أن الإمام الشهيد البنا اهتم بالشباب كثيرا، حيث خصص لهم قسما هو قسم الطلاب، وجعل مسؤولية هذا القسم تابعة له مباشرة، وقد خصص لهم موعدا مستقلا بهم عن لقاء الثلاثاء، هو لقاء الخميس؛ حيث يلتقي بجموع الطلبة الإخوان، ويبيت معهم أحيانا؛ ليعلمهم الفهم السليم للإسلام، ولقد عمل هؤلاء الشباب على نشر دعوة الإخوان وسط الطلبة وأقرانهم في الجامعات والمدارس، بل كانوا يجوبون القرى والمدن يخطبون فيها، ويعرفون الناس معنى ومفهوم دعوة الإخوان المسلمين، فكان منهم الأساتذة: محمد عبد الحميد أحمد، وسعيد رمضان، وعبد الحكيم عابدين، وحسن دوح، ومصطفى مؤمن، وغيرهم الكثير.
بين حياة الطلبة وعشق الرياضة:
كان الإمام الشهيد في لقاء الخميس يقوم بإلقاء التوجيهات عليهم. وقد أثمرت أنشطة الإخوان في أوساط الطلاب، فانضمت إليهم أعداد كبيرة من طلاب الجامعة المصرية، كما أثمرت أنشطتهم بانضمام بعض الأفراد للإخوان من خارج مصر، حيث كانوا يدرسون في الأزهر الشريف.
وكان للطلاب ركن ثابت في جريدة الإخوان يعلنون فيه عن آرائهم، ويشاركون به في نشر الدعوة والوعي بين أوساط الإخوان، ويكتبون فيه في شتى المجالات تحت عنوان "قسم الطلبة"، كما أن الإمام الشهيد كان يعقد في نهاية كل عام دراسي حفلة للطلاب يحثهم فيها على العمل لدعوتهم، ويمدهم بالنصائح الغالية التي تعينهم على مواصلة الطريق، كما كان الإمام الشهيد يحثهم على التفوق في دراستهم.
الإخوان المسلمون.. طرق الاسم مسامعي لأول مرة وأنا في الفرقة الأولى من التعليم الثانوي، من أحد أصدقائي بالمدرسة عام 1940م. وحينما كنا نقطن في السكاكيني، كانت هناك شعبة بهذا الحي (ولربما كانت من أوائل الشعب التي نشأت في القاهرة)، وكان يقام فيها الكثير من الأنشطة، سواء الرياضية أو الاحتفال بالمناسبات الدينية أو الجوالة، أو غيرها من الأنشطة التي كانت تخدم الفقراء والمحتاجين.
لقد جمعتنا الكرة مع أصحابنا الجدد في الحي والشعبة، وكانت أمامنا عدة أراض فضاء كنا نعدها كملاعب لهذه اللعبة المحببة. ولقد قربني إتقاني لهذه اللعبة من الصحبة الجديدة، وكان كل لاعب يحاول ضمي لفريقه. ولقد تعرفت بأنواع جديدة من البشر لم أرها من قبل؛ مختلفي الأمزجة، لكنني حرصت على التعرف على أصحاب الخلق القويم، وكنا بعد انتهاء المباراة نجلس سويا نتحاور في ما حدث من أخطاء في المباراة، ثم يدور الحديث هنا وهناك.
وفي عام 1941م تعرفت على الإخوان في شعبة السكاكيني، وكان معي أصدقاء كرام أمثال: الأستاذ أحمد السكري، وأحمد عادل كمال، وعبد المجيد أحمد حسن، وإبراهيم الطيب، وحنفي الأبيض.. إلا أنني لم أزر المركز العام إلا وأنا في الصف الثالث الثانوي عام 1943م، حيث استمعت للشيخ حسن البنا.
انتظمت في الحضور لشعبة الإخوان لممارسة الرياضة والصلاة وسماع المحاضرات، ونشطنا داخل مدارسنا في التعريف بهذه الجماعة، وكان لكل فصل مندوب من الإخوان.
كنت سعيدا بهذا النشاط، وواظبت عليه حتى تم فصلي من جميع مدارس القطر المصري، وحضر أبي، وكتب تعهدا بعدم ممارسة أنشطة سياسية، وعدتُ معه إلى القرية، وكنت وقتها في الثانوية العامة (التوجيهية).
والحمد لله، لم يستمر الوضع كثيرا؛ فقد عدت للقاهرة - وكنت ممنوعا من دخولها قبل ذلك - والتحقت بمدرسة الإسماعيلية في حي السيدة زينب؛ لأداء امتحانات آخر العام فقط؛ ذلك لأن قرار فصلي من جميع مدارس القطر لا يزال ساريا، فلم أكن أذهب إلى المدرسة، وكان علي استيعاب الدروس المقررة بمعرفتي. ومن فضل الله، كان يسكن أمامي مباشرة أخ اسمه محمود أبو الوفا - أخو إبراهيم الطيب واسمه الحقيقي إبراهيم أبو الوفا صقر - وكان في التوجيهية، أيضا فكان يذهب إلى المدرسة، وفي المساء نجلس معا نراجع كل ما أخذه. والحمد لله فقد كنت أستوعب الدروس، وأفهمها جيدا.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (3)
حسن البنا الخائف:
بين فصلي من الدراسة وعودتي إليها - في السابعة عشرة من عمري -هدنة لإعادة تنظيم نفسي، وإعدادها لانطلاقة جديدة أشد حماسة ومثابرة. وانطلقت أجدد هذه الحياة، وطفقت أطرق أبواب وكتب المشايخ الأجلاء، أمثال: محب الدين الخطيب، وفقه السنة للشيخ سيد سابق، ورسائل الإمام البنا، وعبد القادر المازني (الشاعر).
كنت أحرص على الذهاب للمركز العام للاستماع إلى الأستاذ البنا؛ الذي حرص على معرفتنا - من خلال لقاء الخميس- معرفة شخصية، فكان يعرف كل واحد باسمه، وعنوان سكنه، ومدرسته، وأيضا عرف وضعي، وشدة والدي إذا تأخر أحد أبنائه بعد الساعة الثامنة، فكان الأستاذ البنا في أثناء محاضرته وقبل الساعة الثامنة ينادي عليّ: يا عاكف.. اذهب للبيت حتى لا تتأخر عن موعد والدك.
وكان الأستاذ البنا - رضي الله عنه وأرضاه - يقيم صلاة القيام بالقرآن كل هدا داخل المركز العام، وفي اليوم الذي كان يتغيب فيه لأي سبب كان يقوم الشيخ سيد سابق مكانه.
بين شوارع القاهرة
في منتصف العام الدراسي تقريبا، انتقلنا لنسكن في شارع الملكة نازلي - شارع رمسيس الآن - وكانت لذلك قصة طريفة؛ فقد كنت في شعبة العباسية، وكان رئيس الشعبة الأستاذ أحمد شكري، فقال ذات يوم - أثناء وجودي في الشعبة - إن المنزل الذي وراء الشعبة سوف يتركه سكانه، ونحن نأخذ النور من عندهم، ونخشى أن يسكن فيه آخرون فيضيقون علينا، ويمنعون عنا الكهرباء، فقلت له: أرني هذا المنزل؛ لأن والدي يرفض أن يحضر من البلد؛ لأنه يرى أننا نسكن في بيوت حديثة ضيقة، وهو يريد بيتا واسعا مثل بيوت البلد، وكان والدي قد عاد لقريتنا مرة أخرى.
وبالفعل ذهبت لرؤية هذا البيت، فوجدته مناسبا جدا، وكان عبارة عن ست حجرات واسعة وصالتين، والسقف مرتفعا، وأمامه حديقة. فأخبرت أبي، واستشرته في الأمر، وزينت له الأمر، فوافق على رأيي، وتم الأمر سريعا، واستقرت الأسرة فيه بعدما انضم إلينا والدي مرة أخرى.
يا عاكف ليس لنا أحد في كلية الرياضة:
حينما التحقت بالإخوان، كان والدي - عليه رحمة الله - يريدني أن أدخل الكلية الحربية لكي يبعدني عن الإخوان. وبالفعل تقدمتُ بأوراقي إليها، ونجحتُ في الكشف الطبي، وكان قائد الكلية الحربية يعرف والدي، ويعرف أقاربي، ولكنني لم أدخل الكلية الحربية في النهاية. فقد حدث أنني كنت جالسا عند ذلك القائد، وأحد أقاربي يكلمه ويقول له: فلان سيأتي إليك، فقال له مداعبا: "هو حلو ولا لأ؟"، وعندما سمعتُ هذه الكلمة أخذت أوراقي، وتقدمتُ بها إلى كلية الهندسة، وعندما علم بذلك والدي لم يمنعني من الالتحاق بها، ولكنني لم ألتحق بكلية الهندسة أيضا؛ لأنني كنت في ذلك الوقت في النظام الخاص للإخوان، وكان قد مرَّ عليَّ سنتان لم ألتقِ فيهما بالأستاذ البنا، ولم أجلس معه، حتى في محاضرة الخميس كما كنت أفعل من قبل، فقلت للأخ الحارثي المسؤول عني: هل نحن تابعون لك أم للأستاذ البنا؟ وفوجئت في اليوم التالي بالإمام البنا يرسل إليَّ وإلى مجموعتي ليلتقي بنا.
وعندما ذهبنا لمقابلة الأستاذ البنا، ظلَّ يستعرض معنا نشاط الإخوان والشعب عامة، وقال لي: ليس لنا أخ في معهد التربية الرياضية العالي، فوعيتُ هذه الكلمة، وذهبت لكلية الهندسة، فوجدت الشهيد صلاح حسن - الذي استشهد في معركة الكرامة الشهيرة في الستينيات في الأردن - وكان من إخوان السيدة زينب، فعرضتُ عليه أن نذهب لمعهد التربية الرياضية فوافقني. وسبحان الله، كأنّ الأمور مرتبة؛ حيث استقبلوني استقبالا طيبا، وأُجريت لي اختبارات قاسية: رياضية ونفسية وصحية، وكانت اللجنة التي أجرت لي الاختبار الشخصي تضم الدكتور القوصي، والدكتور زكريا عميد المعهد، والدكتور فؤاد جلال، أستاذ التربية وقتها. وظلوا يكلمونني عن الممثلين والممثلات، فوجدوني جاهلا تماما في هذا الأمر، ثم سألوني عن وزراء مصر والسياسة، فوجدوني أحفظ وزراء مصر من أول وزارة حتى الوزارة الحالية، فقلت لهم إنني من الإخوان المسلمين، وأعرف في السياسة، ولا أعرف في التمثيل، ولا الرقص، فضحك د. القوصي، وقبلوني.
لا شك أن التحاقي بمعهد التربية الرياضية أحدث أزمة شديدة بيني وبين أهلي وإخوتي؛ الذين كانوا يريدونني مهندسا مثلهم، وخاصة والدي الذي غضب لذلك غضبا شديدا. ولم تنته تلك الأزمة إلا بعد شهور عندما أخذت والدي لزيارة المعهد، فوجد فيه أشخاصا راقين.
ليس حباً في الرياضة:
لكن الحقيقة أنني دخلت المعهد لسببين؛ أولهما: لخدمة الإخوان؛ حيث كنا نرغب في الانتشار، وتوصيل دعوتنا في كل مكان. أما السبب الثاني: فقد كان والدي نفسه رحمه الله؛ كان شديدا جدّا في حرصه علينا، فكان بعد الساعة الثامنة لا يُدخل أحدا البيت، حتى إخوتي الذين تخرجوا، وأصبحوا مهندسين، لم يكن أحد منهم يتأخر عن هذا الموعد؛ ولأنني كنت في النظام الخاص، وكنا كثيرا ما نتأخر، وأحيانا أرغب في المبيت خارج المنزل، فقد كان التحاقي بالمعهد فرصة لأتعلل عند ما أتأخر خارج البيت.
وعندما التحقت بالجامعة، كان أكبر تيار موجود في ذلك الوقت هو التيار الممثل لحزب الوفد، وعلى رأسه مصطفى موسى، وكان خطيبا مفوها، ويليه الشيوعيون، الذين تقدموا بعد ذلك على الوفد، واستطاعوا تحويل الشباب الوفدي إلى شيوعيين. وذلك كله في منتصف الأربعينيات، وكان الوفد في تلك الفترة لا يحمل فكرا محددا، ولا منهجا واضحا، إلا أنه كان مجرد تاريخ وأسماء ضخمة. وبعد ذلك خرجت الأحزاب من الوفد فخرج الأحرار، والسعديون، والكتلة الوفدية.
لست شيوعياً:
أما الشيوعيون، فقد كانوا أشخاصا منظمين. صحيح أنهم فرق كثيرة، ولكنهم منظمون، ولهم مبادئ مكتوبة، ومنشورات، وكتب. وكل ذلك كنا قد درسناه دراسة وافية بناء على توصية الأستاذ البنا أن الرأي لا يقاوم إلا بالرأي، ومن هنا أنشأنا جماعة الشباب المسلم.
لقد بلغ من تأثير الإخوان في غيرهم أن الشيوعيون أنفسهم كانوا يحفظون أناشيدنا، ويحرصون على قراءة منشوراتنا. فقد كان سمت الإخوان يجبر كل الناس على احترامهم، وكانت تحياتهم تتصف بالحيوية والنشاط والالتزام، وكان يحدث أحيانا أن يضيق بعض الإخوان ذرعا بهؤلاء الشيوعيين، وتصرفاتهم غير المسؤولية؛ فيضربونهم، ولكن الأستاذ البنا كان يقول لنا: "لا بد أن نقابل الرأي بالرأي، والحجة بالحجة"، ولذلك أنشأنا ما يسمي "بالشباب المسلم" كما سبقت الإشارة، وإنما لم نطلق عليه نشاط الإخوان المسلمين حتى لا يخشي منه أحد. وبدأنا نصدر كتبا باسم الشباب المسلم تحمل أفكار الأستاذ البنا، والأستاذ المودودي، وغيرهما، ولقد غزت هذه الكتيبات الجامعة، واستطعنا التغطية على فلسفة الشيوعيين، وآرائهم. ولعلاقتي بالشيوعيين ظن البعض أنني شيوعي؛ لأنني كنت أتعامل مع الجميع، غير أنني مميز بحرصي على ديني، وحبي للإخوان لكنني كنت أبغي أن يجمع بيننا حب الوطن، والعمل من أجله.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (4)
ضد الحكومة
كان انتشار الإخوان، ونشاطهم، وحيويتهم، وخطباؤهم، مؤثرين للغاية، وقد ساهم في تحقيق ذلك ما كانت تتمتع به الجامعة من الحركة والقداسة فعلا، بحيث لا يستطيع ضابط أو عسكري أن يدخلها. والدليل على ذلك، أن أحمد ماهر، رئيس الوزراء، عندما دخل الجامعة عام 1944 ليخطب في الطلبة؛ نظمنا مظاهرات ضده، نادينا فيها بسقوطه، فكانت الجامعة بحق حصنا من حصون شباب الجامعة كلهم، وليس الإخوان فقط.
ولعل الجميع يتساءل عن طبيعة التربية التي كان يتلقاها إخوان الجامعة في تلك الفترة، تلك التربية التي جعلتهم في بؤرة الأحداث. اعلم أن أول ما ينبغي عليك معرفته في هذا الشأن هو أن قسم الطلاب في المركز العام للإخوان قسم تربوي في الدرجة الأولى؛ مهمته إعداد الرجال قبل أي شيء آخر.
في صالونات الأدب:
وكان الأستاذ البنا يأمرنا بأن نذهب للندوات التي يعقدها كبار الكتاب والأدباء في بيوتهم، مثل العقاد، ومحمود شاكر، والمازني، والتي تعرف باسم الصالونات الأدبية، وكنا نذهب ونناقش، وكنا نتسابق جميعا لمحب الدين الخطيب في جزيرة الروضة، وتعلمنا من هذا الرجل أحاديث كثيرة، وكانت جلسته جميلة جدا. وكنت أحب أن أزور عبد القادر المازني - وكان له ابن من الإخوان - لكنني لم أتردد كثيرا على محمود شاكر والعقاد.
ومن الواضح أن الإمام البنا كان بهذا التوجيه يجنح إلى تثقيفنا، ويحاول أن يجعلنا أصحاب ثقافة متميزة. وكان - رحمه الله - يسعد جدا إذا أحضرت له مقالا من عبد القادر المازني للجريدة عندنا، وكنت ألح إلحاحا شديدا على عبد القادر المازني حتى يستجيب لنا، ويكتب للجريدة مقالا. فكان هناك انفتاح على كل الناس دون خوف؛ لأننا كنا معتزين بما نحمله، ونشعر أننا شيء آخر نختلف عما هو موجود على الساحة الاجتماعية.
اختارني البنا للنظام الخاص:
كانت مصر دولة محتلة من قبل المحتل البريطاني بعد ثورة عرابي، وكانت كل خيرات مصر تُنهب من قبل هذا المحتل، فارتأى الأستاذ البنا أن يكون نظاما يقوم على التصدي لهذا المحتل عن طريق المقاومة، فكان النظام الخاص.
"النظام الخاص" بجماعة الإخوان المسلمين هو نظام عسكري أسسته الجماعة في عام 1940م؛ وهدفه إعداد نخبة منتقاة من الإخوان المسلمين للقيام بمهمات خاصة، والتدريب على العمليات العسكرية ضد العدو الخارجي، ومحو الأمية العسكرية للشعب المصري في ذلك الوقت، حيث كان كل فرد يمكنه دفع عشرين جنيها ليستطيع التخلص من الخدمة العسكرية.
والنظام الخاص، بطبيعة أهدافه، كان تنظيما سريا مدربا على استخدام الأسلحة المختلفة، وقد أنشئ من أجل:
1- محاربة الإنجليز في مصر.
2- محاربة الصهيونية في فلسطين.
لذلك كان لا بد من السرية حتى لا ينكشف أمره، ويصبح عرضة للقضاء عليه؛ لأن الإنجليز لن يسمحوا بقيام أي تنظيم مدرب مسلح للقضاء عليهم.
أثناء وجودي في لقاء الخميس، اختارني الأستاذ البنا للانضمام لهذا النظام. والنظام الخاص كانت له أهداف سامية أُنشئ من أجلها، ولم يكن من أهدافه قتل الأبرياء أو المخالفين للإخوان.
أدرك الأستاذ البنا أن المفاوضات مع المحتل لا تؤتي ثمارها، وأن الحل الوحيد هو المقاومة، فبحث مع عدد من إخوانه في إنشاء تنظيم عسكري يعمل على التصدي للمحتل، سواء الإنجليزي بالقطر المصري أو الصهيوني بفلسطين، وتم تكليف محمود عبد الحليم بهيكلة هذا النظام، وكان يعاونه (كما عرفنا) الأستاذ صالح عشماوي، والدكتور محمود عساف، والأستاذ عبد العزيز جلال، والشيخ أحمد شريت، وقد عمدوا إلى وضع شروط صعبة لاختيار الأفراد المنتمين لهذا النظام (وكان معظمهم من الشباب).
تم اختيار خمسة لقيادة النظام، حتى لا ينفرد أحدهم بالقرار دون مشورة، فكان: عبد الرحمن السندي، ومصطفى مشهور، ومحمود الصباغ، وأحمد زكي حسن، وأحمد حسنين، كما كان هناك نظام خاص في الجيش يرأسه الصاغ محمود لبيب، ويعاونه عبد المنعم عبد الرؤوف، كما كان هناك نظام خاص في قسم الوحدات يرأسه الصاغ صلاح شادي.
لم يكن النظام الخاص التشكيل العسكري الوحيد الموجود على الساحة آنذاك، بل سبقه تشكيلات عسكرية كثيرة تابعة للأحزاب والهيئات. فكان هناك عناصر القمصان الخضراء، وعناصر القمصان الزرقاء، كما كانت هناك جماعة حسين توفيق التي اغتالت الوزير القبطي الوفدي أمين عثمان، وكان في هذه المجموعة الرئيس السابق أنور السادات.
ماذا أراد البنا منه:
ولقد كنا نستشعر أن الله فرض الجهاد على كل مسلم فريضة لازمة جازمة لا مناص منها ولا مفر، ورغّب فيها أعظم الترغيب، وأجزل ثواب المجاهدين والشهداء، فلم يلحقهم في مثوبتهم إلا من عمل بمثل عملهم، ومن اقتدى بهم في جهادهم، ومنحهم من الامتيازات الروحية والعلمية في الدنيا والآخرة ما لم يمنحها سواهم، وجعل دماءهم الطاهرة الزكية صك النصر في الدنيا، وعنوان الفوز والفلاح في العقبى.
وكنا نستشعر قول الله تعالى "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدا عَلَيْهِ حَقّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (التوبة: 111).
وقد كتب الأستاذ البنا في ختام رسالة الجهاد: "أيها الإخوان: إن الأمة التي تحسن صناعة الموت، وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة يهب لها الله الحياة العزيزة في الدنيا، والنعيم الخالد في الآخرة، وما الوهم الذي أذلنا إلا حب الدنيا، وكراهية الموت. فأعدوا أنفسكم لعمل عظيم، واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة. واعلموا أن الموت لا بد منه، وأنه لا يكون إلا مرة واحدة، فإن جعلتموها في سبيل الله كان ذلك ربح الدنيا، وثواب الآخرة، وما يصيبكم إلا ما كتب الله لكم، وتدبروا جيدا قول الله تبارك وتعالى (ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَة نُّعَاسا يَغْشَى طَائِفَة مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران: 154]، فاعملوا للموتة الكريمة تظفروا بالسعادة الكاملة. رزقنا الله وإياكم كرامة الاستشهاد في سبيله".
كنا نحضر الكتائب التربوية يوم الخميس، والكتيبة عند الإخوان اجتماع مجموعة مختارة من الإخوان يبلغون الأربعين عددا فى دار من دور الإخوان (شعبة أو المركز العام أو بيت مناسب من بيوت الإخوان)، وكان يحضره الأستاذ المرشد العام.
ثم كان يبدأ حديثه بذكر إخائنا، وهذا الحب الذي بيننا في الله، وما يضفيه علينا من متعة وإيناس في الدنيا، وثواب وعطاء في الآخرة. وبعد ذلك يستفيض في معان روحية دفاقة، ويغوص في كتاب الله تبارك وتعالى، يستخرج منه المعاني كما يستخرج الغواص اللؤلؤ من أعماق البحار. وكان يرافقني من السكاكيني، أحمد عادل كمال، وحنفي الأبيض، وغيرهما.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (5)
هل قتلنا الخازندار والنقراشي؟
لقد سيقت تهم كثيرة لا أساس لها من الصحة؛ ضد شباب النظام الخاص، كقتل بطرس غالي، وأحمد ماهر، وأمين عثمان. ومع ذلك فشباب الإخوان بشر يشعرون بالأسى، ويحيون بما يحيا به وطنهم، ولذا كانت لديهم حماسة شديدة، خاصة ضد المستعمر وأعوانه.
لكن هذه التهم باطلة، ولم يقم بها أحد من شباب الإخوان أو الإخوان. فبطرس غالي قتل قبل نشأة الإخوان بعشرات السنين، فكيف يقتله شباب الإخوان؟ فهو قد قتل عام 1910م، وجماعة الإخوان نشأت عام 1928م. وأما مقتل أحمد ماهر باشا، فقد قبض على المتهم، وهو من الحزب الوطني الجديد، وقد دافع عنه الأستاذ فتحي رضوان، حتى إنه حينما قبض على الأستاذ البنا، تم الإفرج عنه فورا لعدم ثبوت أية أدلة على الإخوان.
أما أمين عثمان، فاتهام الإخوان بقتله ضرب من السفه؛ لأن قارئ التاريخ، أو المستمع إلى خطب السادات، يعلم تمام اليقين كم كان السادات يتباهي بأنه شارك في قتل أمين عثمان ضمن مجموعة حسين توفيق.
أما قتل الخازندار والنقراشي فهى تصرفات فردية، لا تحسب على الجماعة، ومبادئها، وأهدافها، كما لا تحسب على التنظيم الخاص كله. فمن الظلم أن نعمم تصرفات حصلت من شباب في ظروف ضاغطة على جماعة كاملة انتشرت في ربوع مصر والعالم.
كان أحمد الخازندار رئيسا لمحكمة استئناف الإسكندرية عام 1946م حينما ألقى القبض على بعض شباب حزب مصر الفتاة؛ بعدما ألقوا بقنابل على النادي الإنجليزي بالإسكندرية في عيد الكريسماس. وعلى الرغم من عدم وجود إصابات، إلا أنهم قدموا للمحاكمة أمام الخازندار، وصدر الحكم ضد الشباب الوطنى بأقصى عقوبة. ونظر الخازندار بك أيضا في قضية أخرى شهيرة؛ اتهم فيها المقاول حسن قناوى بقتل سبعة من الصغار بعد ممارسة الشذوذ الجنسي معهم. وكانت من القضايا التي أثارت الرأي العام. وصدر الحكم ضد قناوى بالحبس سبع سنوات، فكان حكما محيرا، بل مثيرا للشك في نفوسنا نحن الشباب: إن كان قناوى بريئا فكيف يحكم عليه، وإذا كان مذنبا فكيف يقتصر الحكم على سبع سنوات في إزهاق سبعة أنفس لدوافع غير كريمة؟!
في عام 1947م، حاول الإخوان في عيد الميلاد أن يبثوا الرعب في قلوب الجنود والضباط البريطانيين الذين كانوا يعيثون في الأرض فسادا، فاتفق النظام الخاص أن يقوم أفراده بإلقاء قنابل على النادي الإنجليزي بالقاهرة، ولكن قام مجهول بإلقاء القنابل على النادي، وفر هاربا قبل أن ينفذ أفراد النظام الخاص خطتهم، وقام البوليس بتمشيط المكان، وقبض على الأخوين محمود نفيس حمدي وحسين عبد السميع أثناء سيرهما في شارع عبد الخالق ثروت، وعثر في جيب أحدهما على قنبلة، فألقي القبض عليهما، وقدما للمحاكمة أمام أحمد الخازندار - الذي كان قد نقل من الإسكندرية إلى القاهرة - وكان المحامي الذي دافع عن الأخوين هو الأستاذ فتحي رضوان (رئيس الحزب الوطني الجديد)، الذي عمد بدوره إلى نفي الاتهام، مفترضا أنه إن ثبت، فهذا بدافع وطني ضد جنود المحتل. غير أن الخازندار رفض هذا الكلام، وقال: لا تقل "جنود محتلون، لكنهم جنود حلفاء بموجب معاهدة 1936م".
وصدرت الأحكام، حيث حكم على حسين عبد السميع بالحبس ثلاث سنوات، وعلى عبد المنعم عبد العال بالسجن خمس سنوات في القضية الثانية، فكانت صدمة للجميع بهذا الحكم الجائر، وهذا ما دفع السندي لأن يتخذ قرارا فرديا بقتل الخازندار، دون الرجوع لمجلس القيادة أو مجلس شورى النظام أو المرشد العام، وهو ما جعل المرشد العام يطلب التحقيق معه في هذه التصرفات التي تتنافى مع مبادئ الجماعة، ومنهجها، وخطها المتوازن في الفهم الصحيح للإسلام.
أنا والنظام الخاص وفلسطين:
كان كثيراً ما يقوم النظام الخاص بأعمال تدريب لأفراده في الجبال والصحراء، ليصنع منهم رجالا مجاهدين، قادرين على مواجهة المستعمر البريطاني. وكنا نتعلم الطبوغرافيا، وسواقة السيارات، والسباحة، واستخدام جميع أنواع الأسلحة، وجميع حركات الدفاع عن النفس (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)، وهذا ساعد كثيرا من متطوعي الإخوان في حرب فلسطين على عمل المناورات العسكرية، وتكبيد الصهاينة الهزائم المتتالية، كما أنها ساعدت شباب الإخوان في حرب القنال.
كانت القضية الفلسطينية محل تقدير واهتمام من الأستاذ البنا والإخوان المسلمين، فلم يبرز فقط دورهم في حرب فلسطين، لكن كان دورهم منذ نشأة الإخوان المسلمين؛ فقد كان الأستاذ البنا يتحدث عنها فيقول: "فلسطين تحتل من نفوسنا موضعا روحيا وقدسيا فوق المعنى الوطني المجرد؛ إذ تهب علينا منها نسمات بيت المقدس المباركة، وبركات النبيين والصديقين، ومهد السيد المسيح عليه السلام، وفي كل ذلك ما ينعش النفوس، ويغذى الأرواح".
بدأ الإمام البنا اهتمامه بالقضية منذ عام 1931م، عندما أرسل رسالة إلى مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني؛ يثني على جهوده ومواقفه العظيمة تجاه القضية الفلسطينية، كما حث أعضاء المؤتمر الإسلامي الأول على العمل بجد لقضية فلسطين.
واستطاعت اللجنة العربية العليا لفلسطين أن تسجل المآسي التي يتعرض لها شعب فلسطين على يد الإنجليز، وكونت منها مادة خصبة لكتيب أسمته: "النار والدمار في فلسطين الشهيدة"، وأرسلت هذه المادة إلى الإخوان المسلمين، حيث طُبع هذا الكتيب ليلا، وفي سرية تامة في مطبعة الإخوان المسلمين، كما أصدر الإخوان عددا خاصا من المجلة بمناسبة أسبوع فلسطين.
ولقد عمد الإخوان المسلمون إلى تصعيد المواجهة السياسية والاقتصادية مع يهود مصر المؤيدين للصهاينة، حيث اتسم موقفهم إزاء الصراع العربي الصهيوني في فلسطين بعدم الوضوح.
عملياتنا ضد اليهود:
حينما أعلن الإنجليز الانسحاب من فلسطين سعى الأستاذ البنا، ومحمد أمين الحسيني، وعبد الرحمن عزام، أمين جامعة الدول العربية لتكوين كتائب متطوعين من الإخوان، وقد شارك بعضنا في هذه الكتائب، كما ساهمنا في تدريب البعض بمعاونة كثير من ضباط الجيش الشرفاء.
كان دور معظم شباب النظام الخاص هو جمع الأسلحة من مخلفات الحرب العالمية الثانية، وتنظيفها، وإرسالها للجنة العليا لنصرة فلسطين التي ترسلها بدورها إلى المجاهدين.
وقد أنشأ الأستاذ البنا بالتعاون مع أمين الحسيني، وجامعة الدول العربية، معسكرات التدريب، رغم أن النقراشي باشا كان متعنتا في هذا الأمر كثيرا. وتحركت للإخوان كتيبتان، الأولى كان على رأسها المجاهدون محمد فرغلي، وكامل الشريف، ويوسف طلعت، والثانية اتجهت إلى قطنا في سوريا، وانضوت تحت قيادة الدكتور مصطفى السباعي، وكان دوري في مجال تدريب المتطوعين، وإعداد المعسكرات.
لم يكن جهادنا ضد اليهود في فلسطين فقط، بل كان داخل مصر أيضا، ممثلا في مؤسساتهم الاقتصادية. فقد كان اليهود مسيطرين على الاقتصاد المصري، فكانت هناك شركة "الإعلانات الشرقية"، "إركو"، "شاملا"، و"شيكوريل"، وكلهم يهود يساندون الصهاينة في بغيهم على فلسطين، وقد تم نسف شيكوريل، وإركو، وشركة الإعلانات الشرقية.
وفي 16 تموز/ يوليو، ألقت طائرة إسرائيلية - حلقت في سماء القاهرة - قنابلها على أحد الأحياء الفقيرة - حي البراموني - قرب قصر عابدين، فهدمت منازل كثيرة، وقتلت عددا من السكان. وكان الرد الحاسم على هذا الإجرام في 19 تموز/ يوليو؛ بنسف محلي شيكوريل وأوريكو، خاصة أنه تأكد لنا أن هذه المحلات ستار لجمع التبرعات لمساعدة الصهاينة في فلسطين.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (6)
في قلب فلسطين
قام النظام الخاص بجمع الكثير من الأسلحة من الصحراء الغربية، ومخلفات الحرب العالمية الثانية، وقمنا بتجهيزها، وتزويد المجاهدين المتجهين إلى فلسطين بها، وكنت واحدا ممن عمل على ذلك.
حضر إلى العريش الإخوة الشيخ محمد فرغلي، عضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين، (أعدمه جمال عبد الناصر عام 1954)، والصاغ محمود لبيب، قائد عام جوالة الإخوان المسلمين وعضو مكتب الإرشاد، والأستاذ محمود عبده، قائد متطوعي الإخوان المسلمين في بئر سبع، ونصحوا المقدم أركان حرب أحمد عبد العزيز؛ بأن تدخل الكتيبتان فلسطين عند الحدود عبر السكة الحديد مطفئين أنوار السيارات، حتى لا تشعر القوات الإنجليزية بهم؛ فتعرض قوات المتطوعين للخطر. وتم تنفيذ العبور بمجهود شاق، وصمت تام عبر رفح المصرية الفلسطينية، ثم انطلقت قواتنا المحملة بالسيارات متجهة صوب خان يونس.
بدأت أول معركة للفوج الأول من "الإخوان المسلمون" المتمركز بمعسكر "البريج" بغزة، تحت قيادة الشيخ "محمد فرغلي"، ومعه الإخوة: "كامل الشريف"، و"يوسف طلعت"، و"حسن عبد الغني"، و"حسن دوح"، و"محمد سليم"، و"نجيب جويفل"، وغيرهم ضد اليهود في مستعمرة "كفار ديروم" جنوبي "دير البلح".
هاجم "الإخوان" المستعمرة في الساعة الثانية صباح يوم السبت 10/4/1948م، ونجحوا في المرور خلال حقول الألغام عبر ممرات أعدوها طوال الأسبوع الذي سبق المعركة، واجتازوا عوائق الأسلاك الشائكة.. كل هذا تمَّ بدقة وسرعة، دون أن ينتبه حراس المستعمرة لما يجري حولهم، ولم يفيقوا إلا على صوت انفجار هائل أطاح بأحد مراكز الحراسة، ثم بدأت المعركة داخل الخنادق، وعلى الأبراج والدشم. وجرح قائد السرية الشهيد "يوسف طلعت"، وتقرر إخلاؤه من الميدان، وتولّى قيادتها الأخ المجاهد "كامل الشريف".
ولما اشتد الضغط على اليهود في فلسطين، وكذلك داخل مصر أيضا، تمت المؤامرة الكبرى بين سفراء فرنسا وأمريكا وبريطانيا في اجتماعهم في فايد، وأصدر النقراشي قرارا بحل جماعة الإخوان المسلمين في 8 كانون الأول/ ديسمبر 1948، وسيق الإخوان أفواجا أفواجا إلى المعتقلات، ودماؤهم لم تجف بعد في فلسطين.
مع ذلك، استمر الإخوان في جهودهم الساعية لتوفير الدعم لمجاهدي فلسطين، والعناية بمشكلاتهم الأخرى التي تفاقمت جراء تزايد أعداد اللاجئين والمشردين من ديارهم وممتلكاتهم. وقد أدى هذا النشاط المكثف الذي بذله الإخوان؛ إلى إزعاج السلطات المصرية، والدوائر الاستعمارية، فقامت الحكومة المصرية برئاسة النقراشي باشا - آنذاك - أولا بمنع الإمدادات التموينية عن مجاهدي الإخوان، وثانيا إصدار أوامر باعتقال مجاهديهم في ساحات القتال.
انتهت حرب فلسطين بوقوع الجيش المصري في حصار الفالوجا، والذي سطر فيه أخونا معروف الحضري؛ بطولات نادرة، وتضحيات جمة لمساعدتهم، إلى أن عقدت معاهدة رودس في آذار/ مارس 1949م، وعاد الجيش المحاصر وضباطه.
وما زلت أتذكر ما قاله اللواء أحمد المواوي، أول قائد عام لحملة فلسطين: إن الإخوان سبقوا الجيوش النظامية، وأن القوات المسلحة كانت تعتمد على الإخوان كقوة حقيقية، وأن روحهم المعنوية كانت عالية.
مقتل النقراشي:
بعد قرار حل الجماعة في 8 كانون الأول/ ديسمبر 1948م، والقبض على قادتها، طلب النقراشي من أحمد فؤاد صادق؛ القبض على كل المجاهدين الإخوان أثناء الحرب (إلا أنه رفض)، وبذلت محاولات مستميتة لفصل الإمام حسن البنا عن أفراد الجماعة. في هذه الأثناء، تحرك عدد من شباب الإخوان، وخططوا دون علم أحد من الإخوان لقتل النقراشي، ردا على الأفعال التي قام بها نحو مصر ثم الإخوان. وبالفعل تمكن عبد المجيد أحمد حسن من دخول وزارة الداخلية بملابس ضابط، وقتل النقراشي في كانون الأول/ ديسمبر 1948م، وألقي القبض عليه. ووقتها شعرنا أن الإمام البنا في خطر، لكننا سرعان ما اعتقلنا وزج بنا في السجون دون تهمة، سوى أننا من الإخوان. وفي شباط/ فبراير 1949م، علمنا باستشهاد الأستاذ حسن البنا أثناء خروجه من جمعية الشبان المسلمين، وترك في القصر العيني حتى نزف دماءه دون أن يسعفه أحد.
السيارة الجيب والوقوع في الفخ:
خلال الحرب في فلسطين، وقعت حادثة السيارة الجيب التي كشفت تنظيم النظام الخاص، وقبض على العديد من قيادته، وقدموا إلى المحاكمة. وحاول البوليس السياسي والنيابة إلصاق التهم بالإخوان، غير أنهما لم يستطيعا، حتى إن المحكمة حكمت بنبل أهداف جماعة الإخوان المسلمين، وذكرت أن بعض الشباب حاد عن فهم هذه الأهداف النبيلة. وحُكم على عدد منهم بالسجن ثلاث سنوات، وتم تبرئة الباقين. صحيح أنه لم يتم القبض عليّ في هذه القضية، بسبب طبيعة هيكل النظام الخاص العنقودي الذي قطع الصلة بين الأفراد، لكن كان لدي موعد مع المجهول.
رحلة إلى المجهول:
بعد مقتل النقراشي، حورب الإخوان بضراوة، وقبض عليَّ في 29 كانون الأول/ ديسمبر 1948. وظننت أني سأتهم في هذه القضية؛ لمعرفتي الوثيقة بعبد المجيد وأحمد فؤاد، والأخير كان ضابطا وقد قتلوه وهم يطاردونه في بنها؛ لأنهم اعتبروه مشاركا لعبد المجيد في مقتل النقراشي، ولكني فوجئت بأنهم لم يحققوا معي في هذه القضية، وأرسلوني إلى معتقل الهايكستب، ومن ثم إلى معسكر الطور.
كان معتقل الهايكستب (معتقلا شبه خاص) لا يعتقل فيه إلا أبناء الباشاوات، وأبناء أصحاب النفوذ، وكان اليهود المعتقلون يسكنون العنبر المجاور لنا، وكان معي هناك - على ما أذكر - الأخ كمال فريد، ابن فريد حلمي باشا، ومحمد الطوخي، ابن إبراهيم دسوقي باشا. ثم قام عبد المجيد أحمد حسن، المسؤول عن المعتقل، بفصل ذلك كله، نصارى ومسلمين! وبدأوا يحضرون إخواننا المعتقلين من الأقاليم، أما باقي الإخوان فكانوا معتقلين في معتقل الطور.
كنا بسجن جبل الطور حوالي 400 طالبا، وكان معنا الشيخ القرضاوي، والشيخ الغزالي، والشيخ سيد سابق، والأستاذ سيد عبد الحميد، والأخ طاهر المنير. وكان رمضان في سجن الطور مختلفا وجميلا، حيث التفرغ للقرآن والقيام. وخلال هذه الفترة كانت هناك منحة ربانية في آخر رمضان؛ بإقالة وزارة إبراهيم عبد الهادي، ثم بعد ذلك ذهبنا إلى سجن قنا. وأتذكر أننا كنا حريصين خلال هذا الشهر على أن نعد أفضل الطعام لكل المساجين، من الإخوان وغيرهم، كما كنا نقيم احتفالات ضخمة للمساجين في الأعياد، بل إننا كنا نقدم لهم الكعك والبسكويت خلال عيد الفطر.
وقد كان معتقل الطور فيما مضى مكانا يتوقف فيه حُجَّاج البواخر لإجراء الكشف الطبي بعد عودتهم من الحج، في ما يسمى "الحجر الصحي"، فتم تحويل هذا المكان إلى معتقل للإخوان.
كان يبدأ يومنا قبل الفجر بأكثر من ساعة، حيث يستيقظ الإخوة تباعا استعدادا لصلاة الفجر، وقيام الليل. وما زلت أذكر أحد الإخوة كان يمر على العنابر في السحر، وينشد بصوت ندي رخيم:
يا نائما مستغرقا في المنامْ ... قم فاذكر الحيّ الذي لا ينامْ
مولاك يدعوك إلى ذكره ... وأنت مشغول بطيب المنامْ
وحين نسمع صوته ننهض من نومنا لنتوضأ، ويصلي من شاء منا ما يتيسر له، أو يتلو كتاب الله تعالى، أو يذكر الله كثيرا.. فكانت العنابر إذا مررت عليها قبل الفجر وجدتها تدوي بالذكر وتلاوة القرآن كدوي النحل. وما إن يؤذن الفجر، حتى يهرع الجميع إلى المسجد لصلاة ركعتين قبل صلاة الفرض، ثم يتقدم الشيخ الغزالي ليصلي بنا.
وبعد صلاة الفجر وختام الصلاة؛ نقرأ المأثورات، ثم نجتمع في حلقات دراسة مع المشايخ حول بعض الموضوعات الدينية والعلمية، ثم يبدأ نشاط آخر، هو النشاط الرياضي. وكنت أقود النشاط الرياضي، حيث نقوم بعمل التمرينات التي يسمونها "التمرينات السويدية"، ثم تمرينات الركض (الجري) والوثب والزحف، وغيرها. نستمر في ذلك صباح كل يوم نحو ساعة، ثم ننصرف لتناول الفطور، ثم نستكمل برنامجنا طوال اليوم.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (7)
عملتها يا عاكف!
أذكر أنني كنت أجلس مع شخص يدعى "ريمون دويك" - وكان يهوديّا شيوعيّا مات قريبا في فرنسا - وابنه كان سفيرا للكيان الصهيوني في مصر بعد اتفاقية كامب ديفيد بفترة، ودخل إخواننا من الشرقية يرتدون "اللبد والبلغ"، فقال لي هذا اليهودي: مسيو عاكف هل هؤلاء إخوان؟ فقلت نعم: فقال لي: لن تهزموا أبدا؛ لأنه رأى أننا متوغلون في الريف المصري.
ومما أذكره من الحوادث الطريفة، عندما حدثت الهدنة الأولى،أنه أحب اليهود أن يعملوا حفلا يحضرون فيه الخمر ويشربون ويرقصون بمناسبة الهدنة ونحن دماؤنا لم تجف بعد، فاتفقنا فيما بيننا أننا لا بد أن نكدر عليهم هذا الحفل. وبالفعل أحضرنا زجاجات المياه الغازية وملأناها بالرمال، وشربوا هم الخمر وبدأوا يرقصون على الموسيقى، فأطفأنا الكهرباء وضربناهم بالزجاجات من خارج الباب. وصنع لنا الأخ كمال فريد شايا بلبن، وجلس كل منا على سريره وظلوا هم يضربون في بعضهم، ثم أضأنا النور وجلسنا نشرب الشاي واللبن. وكان المأمور صعيديّا فقال لي: عملتها يا عاكف، وبعد أسبوع تم ترحيلنا إلى الطور، وكانت فترة طيبة تعلمنا فيها كثيرا.
رحلة عذاب:
كتبت صحيفة الكتلة التابعة للأستاذ مكرم عبيد؛ عن المعاناة التي كنا نعيش فيها بقولها: "افتتحت الحكومة الإبراهيمية منفى الطور، ولا نبالغ إذا قلنا إنها اتجهت في أساليبها في هذا المعتقل نفس الاتجاهات التي كان النازيون يعاملون بها أعداءهم السياسيين في معسكرات "بلسين" و"يوخنفيالد". ولقد فرضت الحكومة على المعتقلين في هذا المنفى أن يناموا على ألواح خشبية في حجرات مزدحمة؛ سقوفها مشققة، بحيث تسمح للمطر أن يتساقط على سكانها في أي لحظة. وعينت متعهدا للطعام كان يتقاضى عن الفرد الواحد خمسة قروش يوميا، وكان في العقد المبرم بين الحكومة والمتعهد ما ينص على أن يتناول المعتقلون كميات من خبز ودقة فقط. وقد أدى ذلك إلى اعتماد المعتقلين القادرين؛ على الأغذية المحفوظ الخالية من أي فيتامينات ومن عناصر التغذية الكاملة، ما أدى إلى تدهور صحة كثير من المعتقلين.. ولم تكتف الحكومة بأنها لم تترك بيتا إلا أخذت خير من فيه من الرجال لتقذف بهم إلى حجرات التعذيب، ولكن وصل البلاء إلى حد تكميم أفواه من بقي خارج السجون والأسر من الأحرار، وشهرت سلاح الأحكام العرفية البغيضة في وجه كل من تحدثه نفسه بالاحتجاج، أو حتى بتقديم النصيحة.
وأتذكر اللواء عباس عسكر، قائد معسكر الطور، فور وصولنا إلى هناك؛ قال لنا: "يا أولادي! كنت أظن الإخوان مجموعة من الرعاع مثلما أفهمتني الداخلية، غير أني وجدت فيكم الصحفي والأديب وأستاذ الجامعة والعالم الديني وحامل الدكتوراه والمهندس.. وغير ذلك. لهذا فلتعلموا أني معتقل مثلكم، وهم لم يرسلوني إلى هنا برضا مني، بل غصبا عني".
غير أن الحكمدار عباس ضاق؛ ذرعا بمحاسبة المسؤولين له، فجرد حملات التفتيش على الحزاءات، وبدأ بأول حزاء، دخله ومعه قوة من "بلوكات" النظام والهجانة، ومعهم يوم لكل حزاء، إلى أن جاء دورنا. وفي صبيحة هذا اليوم، شغلت وزميلي "عزت" بكيفية إخفاء مذكراتي، فأحضرت علبة "بويه" ووضعت داخلها أوراق المذكرات، ووضعت بطاطين في مواجهة جندي الحراسة على الأسلاك الشائكة، وقمت بحفر الأرض بعمق متر تقريبا متجها بالحفر إلى خارج الأسلاك الشائكة، ثم وضعت العلبة في قاع الحفرة خارج منطقة الحزاء، وأهلت عليه الرمال. وقدم الحكمدار في قوته يرغي ويزبد ويتوعد، وقام ضباطه وجنوده بالتفتيش حجرة حجرة، إلى أن وصل إلى المصلى، وحان وقت أذان الظهر، وكانوا قد أحضروا كرسيا بجوار المصلى جلس عليه، وفي محاذاته وعلى بعد أمتار منه انطلق صوت الأخ المؤذن بالأذان، وكأنها صاعقة نزلت على أم رأسه، فأمر جنوده الهجانة بإسكات المؤذن.. فاستمر يؤذن، فضربوه بالكرابيج، فظل يؤذن وهو يبكي من شدة الضرب، وهنا تأثر الضباط بالمنظر وامتنعوا عن ضربه حمية لدينهم، واتجهوا نحو الحكمدار بعيون عاتبة، فخشي من تطور الموقف ضده، فأمر جنوده بإيقاف التفتيش والانسحاب من الحزاء، ثم عاد إلى مكتبه.
وفي الصباح توجه بنا الشيخ محمد الغزالي إلى باب المعتقل، وأخذ يردد هتافات عدائية ضد الحكومة والحكمدار، فإذا بالجنود في موقع مبنى الإدارة يتجمهرون ويرددون نفس الهتافات، ويهجمون على الحكمدار، فيحطمون مكتبه وينهالون عليه ضربا، لولا تدخل الضباط الذين أنقذوه من بين أيديهم. وأُبلغت القاهرة باللاسلكي، واعتصم الجنود بمبنى الإدارة، وعلمنا بعد ذلك أن سبب المظاهرة هو تأثر رجال الهجانة بالأخ المؤذن الباكي، وتذمر جنود بلوكات النظام من سوء التغذية واستئثار الضباط بالطعام.. وكلٌ يبكي على ليلاه.
فوجئنا في آخر النهار؛ بوصول طائرة تحمل طاقما جديدا من الضباط ومعهم حكمدار جديد للمعتقل، وعادت بالحكمدار عباس عسكر وضباطه، وجاءت بعدها الباخرة عايدة تحمل قوة من الجنود، وعادت بالجنود المتمردين، حيث أحيلوا إلى مجلس تأديب.
ولقد كوّن الإخوان لجنة للتواصل مع إدارة المعتقل؛ من مصطفى مؤمن، وأحمد عبد العزيز جلال، وأنور الجندي، وأحمد أنس الحجاجي، ومحمد البنا (شقيق الإمام الشهيد ومدير مجلة الشؤون الاجتماعية)، ومحمود عساف.
رسبت في الامتحان:
لم نمكث طويلاً في جبل الطور، وأذكر جيدا بعد صيام رمضان، وفي ليلة العيد، جاءنا خبر إقالة الملك لوزارة إبراهيم عبد الهادي، وتعيين حسين سري رئيسا للوزارة. وكانت هذه هدية الملك للشعب. وبدأ الإفراج عن المعتقلين، ونقلونا مرة أخرى للهايكستب. وفترة الهايكستب كانت تقريبا في نهاية العام، أي في تشرين الثاني/ نوفمبر أو كانون الأول/ ديسمبر 1949، فقررت الحكومة عمل اختبارات للطلبة الذين كانوا في المعتقل، وأحضروا لجانا من المدارس والجامعات لتعقد الامتحانات داخل المعتقل. فحضر الشيخ المهندس - والد الممثل فؤاد المهندس - ليمتحن طلاب دار العلوم، وحضر الدكتور إبراهيم فرج ليمتحن طلاب كلية العلوم، وكان يسكن بجواري في العباسية فوق عبد الحكيم عامر. أما أنا، فلأنني كنت طالبا في التربية الرياضية، فقد رفض عميد المعهد وقال إن "المعهد عملي ولا يجوز أن نقوم بامتحانه نظريا". وقد قضينا في الهايكستب فترة طيبة جدا حتى بدأت الإفراجات عنا، وكنت أنا من آخر الناس الذين خرجوا، فخرجت في كانون الثاني/ يناير عام 1950، ورجعت للمعهد وقد ضاعت علي هذه السنة.
كنت رئيساً لاتحاد الطلبة، كما كنت قبل دخول المعتقل، وكان لي أحد الزملاء يدعى حلمي إبراهيم - كان أصغر طالب في الدفعة وهو الآن دكتور في كاليفورنيا - وله قريب كان مدير مكتب طه حسين، وزير التربية والتعليم آنذاك، وفوجئت بوصول خطاب من الوزير للمعهد بعقد اختبار خاص لي لأنني لم أمتحن، فأرسل لي العميد وطلب رأيي في ذلك، وقال: "تحب أن تدخل الامتحان أم ترغب في تأجيله، لأننا نتوقع لك أن تكون من المتفوقين ونريدك معنا في المعهد؟"، ووافقت على أداء الامتحان. وكان ذلك في شهر آذار/ مارس.
ومن الطريف، أنني كنت أمتحن في مادة علم النفس والتربية في مكتب العميد، فأحضر لي أحد الأساتذة كتبا وقال لي: "انقل منها ما شئت"، فرفضت وقلت له: "لا يا دكتور إما أن أنجح بمجهودي وبعلمي وإلا فلا داعي لنجاحي"، ورفضت الغش.. وظهرت النتيجة في 5 نيسان/ أبريل 1950 ونجحت، ثم دخلت الامتحانات التالية في 5 أيار/ مايو من نفس العام، وتخرجت.. وكانت المواجهة مع البوليس السياسي بخصوص التعيين.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (8)
انا شخصياً أرفض كلمة أي حزب يمثل الإخوان المسلمين، وأقول إن الإخوان "يئة إسلامية جامعة" وليست حزبا، والحزب جزء يخرج منها يحمل عبء جزء من منهجها.. وعندما تأزمت الأمور في المهنيين، وكان يشرف عليها د. عبد المنعم أبو الفتوح، طُلب مني أن أترك الطلاب وأشرف على المهنيين.( 8)
وجها لوجه مع البوليس السياسي:
تخرجت في الجامعة، وكان ترتيبي السادس على الدفعة، ومن حقي أن أعَيّن في القاهرة، ولكن البوليس السياسي رفض تعييني في القاهرة. وكان مدير التربية الرياضية في ذلك الوقت -ويدعى علي حافظ- صديقا عزيزا، فأخبرني بأن البوليس السياسي رفض تعييني في القاهرة، وقال لي: اختر أي محافظة أخرى، فاخترت طنطا، على أساس أنني أستطيع السفر كل يوم.
بعد تعييني بطنطا، فكرت في الالتحاق بكلية الحقوق، التي كانت تشترط أن تكون معي شهادة توجيهي أدبي، وأنا شهادتي توجيهي علمي. وبعد حصولي على توجيهي أدبي، كان شرط الالتحاق بكلية الحقوق موافقة المدير المباشر، وإذا بناظر المدرسة في طنطا الثانوية يرفض رفضا قاطعا، قائلا: أنا لا أستطيع الاستغناء عنك لدقيقة واحدة. ولكن جاءني الفرج على يد الدكتور فؤاد جلال، أستاذ التربية، وهو من الأساتذة الذين أكن لهم الحب والاحترام، حيث أرسل لي يخبرني بأن منظمة اليونسكو أنشأت مدرسة داخلية في "سرس الليان" مخصصة للفقراء؛ لتكون نموذجا لتخريج مدرسي التعليم الأساسي. وقال: نريدك معنا في اليونسكو؛ لأنني أرى أنك أفضل من يستطيع أن يشرف على المدرسة. فوافقت، وطلبت منه في المقابل أن يوافق على التحاقي بالجامعة، فرحب بذلك، ووافق. وبالفعل التحقت بكلية الحقوق، بجانب عملي في سرس الليان.
مدرب الفدائيين:
ظللنا في المعتقل على الرغم من أننا طلبة، حتى تمت إقالة وزارة إبراهيم عبد الهادي، وخرجنا بعد ما يقرب من العام، ودخلنا الامتحانات؛ لأنني كنت طالبا بكلية الحقوق بجامعة إبراهيم باشا -عين شمس حاليا- وتواصلت مع إخواني حتى صدر قرار من المحكمة بإلغاء قرار حل الإخوان، وعودتها مرة أخرى، واسترجاع ممتلكاتها. ومع ذلك، ماطل سراج باشا في تنفيذ الحكم، وكان آنذاك وزيرا للداخلية، إلا أننا نفذنا حكم المحكمة، وافتتحنا المركز العام.
في هذا العام أيضا، تم انتخاب المستشار حسن الهضيبي مرشدا عاما لجماعة الإخوان المسلمين، وكان أول ما قال: "لا سرية في الدعوة"؛ لذا أصبح النظام الخاص نظاما علنيا؛ ما أغضب بعض قادة النظام القدماء.
في عام 1951م، استجابت الحكومة لإرادة الشعب، وألغت معاهدة 1936م، ولا أنسى حين وقف مصطفى النحاس في مجلس النواب، وقال: "باسم مصر وقعتُ معاهدة 1936 م، وباسم مصر أطالبكم اليوم بإلغائها". فهذا موقف وطني منه، وكذلك كان فؤاد سراج الدين، وزير الداخلية، عنده وطنية في كثير من المواقف.
ومن هذا اليوم، انطلق الشباب يجهزون لحرب عصابات، وقام المصريون بملحمة كبيرة وقوية بأن أضربوا عن العمل في المعسكرات البريطانية.
ومن ثم كان دور شباب الجامعة. وكنت آنذاك طالبا بكلية الحقوق جامعة إبراهيم باشا -عين شمس حاليا- فأنشأت معسكرا للتدريب داخل كلية الهندسة بالجامعة.
كان حلمي مراد، رئيس اتحاد الطلبة في جامعة إبراهيم باشا، لا يزال شابا صغيرا، جاء لتوه من فرنسا، فوجئت به يرسل إليَّ هو وبعض الطلبة، بأنهم يريدون أن ننشئ معسكرات في الجامعة، ونتدرب على السلاح لنحارب الإنجليز. واختارني الاتحاد لأكون رئيس معسكرات جامعة إبراهيم باشا، فأخذتُ الإذن والتوجيه من الإخوان، ثم وضعت خطة، وبرنامج المعسكر بنفسي.
وقام برنامج التدريب على هدفين أساسيين؛ الأول: محو الأمية العسكرية لدى الشعب المصري، وطلبة الجامعات، والثاني: أن يسير التدريب في برنامج جاد، بحيث لا يمسك سلاحا إلا الشخص الجاد الذي ينجح في كل الاختبارات الرياضية العنيفة والمصارعة، مع الصبر والالتزام الكامل بشروط الجندية خُلُقا وقيما. وقد نصبت خيمة في قلب الجامعة، ووضعنا فيها بعض الأسلحة، وبدأنا التدريب وفق البرنامج الموضوع.
وكانت تقام معسكرات تربوية للطلاب بالتنسيق بين قسم التربية الرياضية وقسم الطلاب في الإخوان، ويتم إعداده للطلاب بما يتناسب معهم. وظللنا نعمل حتى خرجنا أفواجا كثيرة، دون أن يشعر بنا أحد غير بعض الأساتذة، ومنهم دكتور مصطفى كمال حلمي، وكان مدرس كيمياء في كلية الهندسة، ودكتور حسن مرعي، وكان نعم الرجل، ودكتور عثمان خليل، عميد كلية الحقوق. وكثير من الأساتذة كانوا يشجعوننا، وعلى رأس هؤلاء جميعا الدكتور سعيد النجار، وكان مدرسا بكلية الطب، ويكاد يكون معي خطوة بخطوة.
في يوم من الأيام، فوجئتُ بالدكتور عثمان خليل، عميد كلية الحقوق، يخبرني بأن مدير الجامعة، الدكتور محمد كامل حسين، يريد أن يقوم بافتتاح المعسكر على شاكلة معسكر جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة)، فقلت له: يا عثمان بك، نحن خارجون عن القانون، ونعمل في حمى حرم الجامعة، ولا نستطيع أن نقوم بذلك خارج الحرم الجامعي، وأنتم لكم صفة رسمية، فهل تشاركوننا هذه المسؤولية؟ فصمت ولم يرد عليّ بكلمة. وجاءني الدكتور حسن مرعي، وقال لي الكلام ذاته، فأجبته بالرد نفسه. وجاءني قائد الحرس أيضا، وكان برتبة عقيد، فقلت له الكلام السابق ذاته، فلم يحر جوابا.. إلى أن أرسل في طلبي الدكتور محمد كامل حسين، مدير الجامعة، وكان رجلا عالما ومهذبا، فذهبت إليه في مكتبه، واستقبلني منذ دخلت من الباب حتى أجلسني بجانبه، وكان الدكتور نظيف وكيل الجامعة موجودا في المكتب ذاته، فكرر عليّ الطلب، بأن يقوم بافتتاح المعسكر بنفسه، ورددت عليه بردي على السابقين، ولست أنسى ما قاله ما حييت، قال لي: "شرف عظيم يا بني أن أشارككم جهادكم".
عندما سمعت ذلك سررت كثيراً، وأعددت حفلاً لافتتاح المعسكر بالذخيرة الحية، لم تشهد الجامعة مثله من قبل. كنا شبابا متحمسين، وليس لنا ثقة في أهل الحكم والإدارة، فأحببت أن أؤمن نفسي، فأحضرت مدفعا، وقبل أن أقدم لكلمة الدكتور محمد كامل حسين قلت: قبل أن نستمع إلى كلمة الدكتور محمد كامل حسين، فلنستمع إليه وهو يفتتح المعسكر بطلقات الرصاص. وكنت قد دعوت صحفيين، فالتقطوا له الصور وهو يمسك بالمدفع، ونشرت الصور في الصفحات الأولى في الصحف في اليوم التالي.
أما مصادر الأسلحة، فقد كنا نحصل عليها أحيانا من الجيش، وأحيانا نشتريها من أماكن متفرقة. وباعتبارنا في النظام الخاص، فقد كانت لدينا دراية بأماكن هذه الأسلحة المتناثرة في الصحراء الغربية، وكنا نعتمد على التبرعات في شراء هذه الأسلحة. أذكر أن أحد الأفراد من دمنهور حضر إلى الجامعة، وتبرع بـ500 جنيه للفدائيين، وطالب بشراء مستلزمات هؤلاء المجاهدين، واستحلفني بالله ألا أذكر اسمه، وأن يكون الأمر لله.
كانت ميزانية اتحاد الطلبة آنذاك حوالي ثلاثة آلاف جنيه، فحضرت معهم مرة -ولم أكن عضوا في الاتحاد- وطلبت منهم تحويل أموال الاتحاد للمجاهدين لتدريبهم وتسليحهم، وكانت تجلس بجواري أسماء فهمي -صاحبة المدارس المشهورة- لكن لم يوافق أحد على هذا الاقتراح، بيد أن أسماء قالت: أطلب رفع الجلسة. وأثناء ذلك التقتْ بكل واحد على حدة تقنعه بالأمر، وفوجئت في الجلسة الثانية بموافقة الجميع على تحويل أموال الاتحاد للمجاهدين.
وحينما أعلنت عن فتح باب التدريب، انضم إلينا ما يقرب من 1000 طالب، لكنني لم أعط سلاحا لأحد إلا بعد اجتياز جميع الاختبارات.
وضعت جدولا للمحافظة على العبادات والصلوات؛ حتى لا تسقط منا، بل كنت أحرص على حضور العلماء؛ لغرس معاني الجهاد الحق في نفوس الطلاب.
كان معسكر جامعة الأزهر يشرف عليه الأخ أحمد العسال، والدكتور يوسف القرضاوي، والأستاذ عبد الله العقيل. أما معسكر عين شمس، فكنت أشرف عليه، وكان معي المرحوم الأخ الدكتور سعيد النجار، والدكتور وائل شاهين، والمرحوم الأخ حسن عبد الغني المحامي.
نشط مدربو الجامعات في التدريب نشاطا فاق كل وصف، حتى إنهم دربوا على استعمال جميع الأسلحة والمفرقعات، وحرب العصابات، وتكونت الكتائب القتالية، وتحدد لها مواعيد التحرك، ودخول المعركة.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (9)
جامعة القاهرة ساحة حرب
كانت كتيبة جامعة القاهرة تتقدم الكتائب إلى معركة النضال. وفي أحد الأيام، التقى الأستاذ حسن دوح مع مدير الجامعة، المرحوم الدكتور عبد الوهاب مورو باشا، وكان اللقاء بمكتبة بعيدة عن الجامعة، وكان الرجل هادئا تلمح في عينه صدق الوطنية.. وخلال اللقاء، أسدى إليه نصائحه كأب وقائد للجامعة؛ بضرورة الحرص على تأدية الواجب الوطني المنوط بطالب الجامعة، مع الحرص على سلامة الأفراد حتى يؤدوا واجبهم الوطني. وتبرع الرجل بمبلغ كبير من ماله الخاص، ووعد بأن مجلس الجامعة سيخصص مبلغا يكفي لشراء السلاح والتموين والملابس. والتقيت به، وقمنا بالتنسيق بين جامعة القاهرة وجامعة عين شمس (إبراهيم باشا سابقا).
استمر العمل بجدية، وكان للإخوان معسكرات أخرى في السنيطة بالشرقية، والتل الكبير، والقنطرة، وبورسعيد، فكانت الجامعة ترسل العناصر التي تستطيع أن تفعل شيئا إلى هذه المعسكرات. وقد خرجت أعداد كبيرة من الإخوان في الجامعة، ثم ذهبوا للمعسكرات المتخصصة في المناطق الأخرى شرقا. وكانت هذه المعسكرات مكانا للتدريب على العمليات الفدائية من نسف المخازن والقطارات، وحرب العصابات، وأعمال بطولية أخرى، وكان هناك إخوان آخرون مهمتهم أن يمدونا بالسلاح والمتفجرات من بقايا الحرب العالمية الثانية.
قمنا بعمليات كثيرة زلزلت المحتلين، وكانت تأتي علينا أوقات لا ننام فيها من زحمة العمل، وأذكر من العمليات الكبيرة التي قمنا بها مثلا نسف قطار القنطرة وبورسعيد، ونسف مخازن أبو سلطان، وكذلك المعركة الشديدة التي استشهد فيها عمر شاهين وأحمد المنيسي في التل الكبير، وقد أحدث استشهادهم دويا كبيرا.
حرب العصابات:
كان الإخوان بمنطقة الإسماعيلية يقومون بعملياتهم الفدائية ضد جنود الاحتلال، من خطف لقادتهم، ونسف لطرق قوافلهم، ومهاجمة معسكراتهم. وكان يقود هذا التنظيم الشهيدان الشيخ محمد فرغلي ويوسف طلعت، حتى إن الإنجليز رصدوا مكافأة سخية لمن يرشد عن الشيخ فرغلي. وقد شارك في هذه العمليات الإخوان كامل الشريف، والمرحوم محمد سليم، حيث كانا يساعدان المرحوم الشيخ فرغلي في قيادته.
وفي منطقة القنطرة، كانت هناك مجموعة أخرى من الفدائيين من متطوعي الإخوان، أذكر منهم الدكتور عصام الشربيني، وفتحي البوز، وإسماعيل محمد إسماعيل، ويحيى عبد الحليم، وعبد الرحمن البنان، وعبد المحسن الهواري، وفوزي فارس، وعلي نعمان، وسعيد سلامة، وعميرة محسن، ومحمود جاويش، وأغلبهم من المجاهدين في حرب فلسطين.
لم يكن شباب الجامعات وحدهم في الميدان يزلزلون عرش المحتل، بل شارك في الجهاد كثير من المصريين على رأسهم الإخوان الذين شاركوا في حرب فلسطين، حيث قاموا ببطولات رائعة، مثل الأخ عبد الرحمن البنان، وأبو الفتوح عفيفي، وعلي نعمان، ومحمد سليم، وكامل الشريف، حيث قام عبد الرحمن البنان بنسف القطار القادم من بورسعيد. وكانت آية من الآيات؛ حيث لغم الطريق، وجلس بجوار اللغم حتى يطمئن أنه انفجر، وكانت المسافة بينه وبين اللغم لا تزيد على 50 مترا، وانفجر اللغم، وانشطر القطار، وانهمرت على عبد الرحمن الرصاصات من كل جانب، ونجاه الله بأعجوبة من موت محقق، حتى إن الإذاعات الغربية أذاعت أن الفدائي الذي قام بالعملية لقي حتفه برصاص الجنود الإنجليز.
في مجلس الشيوخ
حرّك الأثر المحسوس لكفاحنا مجلس الشيوخ، فقرر أن يشكل لجنة (شكلية) لمساعدتنا، وكانت تتكون من صالح حرب باشا، وفتوح باشا، وشريف باشا، وكانوا لواءات سابقين في الجيش، فبدأت أجتمع معهم، وكنت أسير ومعي حارسان، وهما الأخ كامل طايع، من قنا، وكان طالبا في كلية الحقوق، والمرحوم محمد عجوة، وكان طالبا في كلية الهندسة، وكانا يسيران معي في كل مكان مثل "البودي جارد"؛ لأنني كنت – في نظر المحتل - من المطلوب القبض عليهم أو قتلهم. فعندما كنت أحضر الاجتماعات مع هؤلاء الباشوات، كان حُراسي يقفون على الباب. فمرة يكون الاجتماع في "جروبي"، ومرة يكون في غيرها من الأماكن الفخمة، وأنا غير معتاد على دخول هذه الأماكن. وقد تكررت اجتماعاتي معهم، وكنا نذهب ونأكل الحلوى، ونعود كما ذهبنا دون أن نفعل شيئا، ولما ضقتُ ذرعا بهذا قلت لهم: أنا آسف، لن أستطيع الاستمرار في حضور مثل هذه الاجتماعات، فإذا كنتم تريدون إعانتنا، فنحن نحتاج لمال وسلاح، ولا نحتاج إلى رجال، ولا إلى أحد يقوم بتدريبنا، فلدينا الكثير من الرجال، ولدينا مدربون على أعلى مستوى يمكن أن يصل إليه مدرب، فإذا كنتم تستطيعون أن تمدونا بمال أو سلاح، فلا مانع من أن أحضر. فقالوا لي: لا يا بني نحن ليس لدينا مال ولا سلاح، وأقصى ما يمكن أن نمدكم به مدربون، فشكرتهم وتركتهم. وفوجئتُ بالدكتور محمد كامل حسين مدير الجامعة يرسل إليَّ قائلا: يا عاكف ماذا فعلت في اللجنة التي شكَّلها مجلس الشيوخ، فأخبرته بما حدث من كوني أذهب فيضيع وقتي، وكل ما نقوم به أكل الحلوى والرجوع دون أن ننجز شيئا، وأنا وقتي ثمين، فقال لي في حكمةٍ لا أنساها أبدا: "خليك ورا الخنزير يمكن تاخد منه شعرة". فأصبح هذا مثلا لم أنسه طوال حياتي، وهو لم يرد تشبيههم بذلك، ولكن أراد أن يقول لي: لا تمل؛ فربما تجد من ورائهم فائدة، وعدت لأجتمع بهم، ولكن لم أصل معهم لشيء في النهاية.
على خط النار:
اشتعل الموقف تماما حينما هاجم الجيش البريطاني محافظة الإسماعيلية، وتصدت لهم قوات الشرطة بسلاحها المحدود في شجاعة نادرة. وتدخل شعب الإسماعيلية، وأوقف هذا الغزو البريطاني، واستشهد عدد كبير من العساكر المصريين. وقامت المظاهرات في جامعة القاهرة، وحضرت مؤتمرا ضخما بها لمساندة قوات البوليس في الإسماعيلية. وفي نفس اليوم، كنت مدعوّا لافتتاح معسكر جامعة الإسكندرية - فاروق الأول في ذلك الوقت - حيث انتفضت الإسكندرية، واهتز الثغر المكلوم، وتقدم طلبة الجامعة بأول خطوة وافتتحوا معسكرهم يوم 25 كانون الثاني/ يناير. وقد دعاني مدير الجامعة لافتتاح المعسكر، فشاهدت روعة النظام، ودقة الحركة في حرم الجامعة. فقد بدأت الجامعة عملها بتشكيل لجنة للإشراف على التدريب؛ كان من أعضائها الدكتور علي فتحي، عميد كلية الهندسة، والدكتور رشوان محفوظ، أستاذ العيون، والدكتور محيي الخرادلي، أستاذ بكلية الطب، واشتركت معهم مجموعة من الطلبة. وكان عدد الطلبة الذين يتدربون على السلاح داخل الجامعة لا يقل عن 2000، عدا المترددين من المعاهد العليا. علاوة على ذلك، نجحت كلية العلوم بالجامعة في اختراع أنواع من المتفجرات والقنابل التي استعملت في تدريب الطلبة. وقد بعثت الجامعة بأول كتيبة لها إلى أبو حماد قوامها 12 طالبا، وشاركتْ بجهد مشكور في العمليات الحربية.
كانت الثورة الشعبية المسلحة تتقدم بخطوات سريعة، وتتصاعد بقوة، لدرجة أن الحكومة كانت أضعف من تقدير أبعادها ومستقبلها، ونحن كذلك أيضا. وكنا إذا سئلنا عن مدى قدرتنا على مواجهة الإنجليز بأسلحتنا، ورجالنا، وقوانا المحدودة، نقول: إننا لسنا جيشا، ولكننا إرادة حرة، والإرادة القوية الحرة لا يمكن أن تُهزم مهما كان أعداؤها.
كان سلاحي لا يفارقني طيلة الوقت، وكان الأمر في الجامعة مألوفا أن ترى هذا الوضع للحالة التي تمر بها البلاد، وبقيت كذلك حتى بعث إلي الضابط كمال الدين حسين، وقال: الحقني يا عاكف، قبض عليّ بشنط السلاح.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (10)
الحقني يا عاكف:
بعد انتهائي من المؤتمر، توجهت إلى طريق اسكندرية الصحراوي لافتتاح المعسكر،. وفي طريق عودتي من الإسكندرية، وتحديدا في "الرست هاوس"، قالوا لي إن القاهرة احترقت، ولم أكن أعلم، فلقد قمت بحضور مؤتمر جامعة القاهرة في الصباح، وذهبت من الجيزة إلى الإسكندرية، وافتتحنا المعسكر، وعدت في الليل أو في منتصف الليل. فأسرعت إلى القاهرة، ودخلت من ناحية كرداسة، فوجدت كل شيء بشارع الهرم محترقا (وكان مشهورا بكثرة الملاهي الليلية)، ودخلت على ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا)، وكان فيه أفخم أماكن لبيع السيارات الأمريكية، وكان كله محترقا. فذهبت بسرعة للمعسكر كي أطمئن عليه، فوجدت كمال الدين حسين يقول لي: الحقني يا عاكف.. فقد كان ما يزال ضابطا، وبيته كان مملوءا بالسلاح، فقمت بتحويل السلاح من عنده، وأمَّنت المعسكر.
شنطة سلاح:
حظي الفدائيون بالتضامن والتأييد من كل فئات المجتمع، من ذلك ما وجدناه من قضاة مصر. فقد كنا نخطط لتفجير قطار الإنجليز في بورسعيد - الذي سبق ذكره - وكنا نحتاج لديناميت لهذا الغرض، وكان المكلف بذلك أحد إخوان الإسكندرية (الأخ خطاب)، فأحضر ثلاث حقائب لهذه المهمة، فيها حوالي 300 كيلوغرام، في قطار من مرسي مطروح، فأمسكوا به في محطة القاهرة.. فماذا يفعل؟ فقال له الأستاذ عبد القادر عودة: يا بني قل إن هذه الحقائب تخص محمد مهدي عاكف، قائد معسكرات الجامعة. وبالفعل قال إنها تخصني، وأصبحت قضية أمام محكمة عابدين. ولم يقبض علي إلا يوم المحاكمة، ووضعت في قفص الاتهام، ووقف الأستاذ عبد القادر عودة، فلم يتكلم سوي عشر دقائق، وبعد ذلك رفعت الجلسة، وخرج القضاة، وحكمت المحكمة ببراءة المتهمين؛ لنبل الغاية، وسلامة الهدف.
الجيش معنا
شاركنا أيضاً بعض ضباط الجيش، أمثال جمال عبد الناصر، وكمال الدين حسين، وعبد الحكيم عامر. وكثير من الضباط كانوا يشترون لنا السلاح، ويدربوننا عليه. وكان هناك تعاون، وعلاقة طيبة بيننا وبينهم في ذلك الوقت. فقد زار جمال عبد الناصر عددا من معسكرات تدريب الطلاب الخاصة بالإخوان في الإسكندرية ودمياط، حتى إنه دهش من حجم هذه المعسكرات. كما كان عبد الناصر على علم بأن الإخوان يستخدمون الحرم الجامعي كمواقع تدريب عسكرية، حيث استخدموا الذخيرة الحية في بعض الأحيان. ونتيجة لذلك، تم فرض قيودا على الطلاب وإجراءات أمنية عند مدخل الجامعات، حينما أصبح وزيرا للداخلية (بعد نجاح ثورة 23 يوليو).
بطولة شعب:
ومن المواقف التي تدل على عراقة هذا الشعب، أن أحد الوفديين من عائلة الوكيل؛ حضر ليتبرع بمبلغ، وأصر على ألا يذكر اسمه، وكان المبلغ حوالي 500 أو 600 جنيها، وكان مبلغا كبيرا جدا في ذلك الوقت. ولم تكن النساء أقل من الرجال في التضحية في سبيل تحرير الوطن، فنجد إحدي السيدات اسمها قوت القلوب الدمرداشية (وكان لها ابن في كلية الطب)، كانت ترسل إليّ سيارة لاستعمالي الخاص، والسيارات في عام 1951 كانت قليلة جدا. فأرسلت أقول لها: هي للمعسكر أم لاستعمالي الشخصي، فقالت: لا، بل لاستعمالك الخاص، فقبلت أن أستعملها على أن أردها عندما أنتهي من مهمتي، فوافقت على ذلك.
وهناك طبيب مشهور، لا أذكر اسم، كان له ابن يتدرب معنا، وكان من المتحمسين، وظل هذا الشاب يلح علي للذهاب للقتال، وعلم والده فحضر إليّ ورجاني ألا أرسله؛ لأنه ولده الوحيد، فوافقت شفقة عليه. فقال لي: سأحضر هدية للمعسكر، فأحضر سيارة برمائية كانت موجودة في ذلك الوقت تسير في المياه وعلى الأرض. أهديتها لإخوان المنصورة بعد ذلك (بعد انتهاء المعارك)، وبعد استئذان من أهداها. وكثيرة هي تلك النماذج الطيبة من الناس.
المسيحيون ومعركة التحرير:
شارك كذلك المسيحيون في تقديم ما يستطيعون من عون لنا، وكانت السيارة التي أتحرك بها يملكها شخص مسيحي، وكانت سيارة ماركة فورد من أفخم ما يمكن. وكان يصر على أن يقوم بنفسه بتوصيلي للمكان الذي أريد الذهاب إليه، فكانت نماذج كريمة حقا، وذلك قبل أن تهديني السيدة قوت القلوب؛ السيارة التي أعدتها إليها بعد انتهاء المعارك.
الصدام مع الشيوعيين:
على الرغم من هذا الإجماع الشعبي على مساندتنا، إلا أن الأمور لم تكن تسير دائما بسلاسة ويسر، بل كنا نواجه أحيانا بعض الصعوبات ممن يحبون الاصطياد في الماء العكر. فقد حدث - مثلا - في بداية الخمسينيات، ومع اشتداد معارك الفدائيين في القناة ضد الإنجليز، أن حاول الشيوعيون إثارة الاضطراب في الجامعة، وأثناء معسكر تدريب الطلاب. فقاموا بمظاهرات، واعتدى الطلبة بعضهم على بعض، وأغلقت جامعة القاهرة. وسرت إشاعات كثيرة بحرق جامعة إبراهيم (عين شمس)، فأرسل إليّ الدكتور محمد كامل حسين (مدير جامعة إبراهيم) ليعرف مني حقيقة الموقف في الجامعة، قبل أن يتخذ مجلس الجامعة قرارا بشأن الأحداث، فأخبرته بواقع الأمر، وأننا بحمد الله وفضله نسيطر على الموقف، ولا نسمح لأحد أبدا أن يعبث بالجامعة، وأخبرته أننا بحمد الله قادرون على حمايتها من أي عبث يمكن أن يقوم به هؤلاء المستهترون والمشاغبون. فما كان من الدكتور الخولي إلا أن قال: سأعد لك بيانا توقعه باسمك؛ لتوضيح الموقف، وحماية الجامعة. وكتب البيان فعلا، وكان بيانا قويا، ووضعته في لوحة أوامر قائد المعسكر. وأمرت الإخوان بالانتشار في ساحة الجامعة مع بعض أسلحتهم لحماية الجامعة من أي اعتداء.. ولكن من أراد أن يقوم بمظاهرات ومؤتمرات فلا شأن لنا به يفعل ما يشاء، كل ما علينا هو حماية المباني والمعامل من أي عبث أو تخريب.
أين السلاح يا عاكف؟:
لقد كان موقف الشيوعيين سيئا للغاية، ويخلو من أي لون من ألوان الوطنية في ذلك الوقت العصيب. ولم يقتصر اصطيادهم في الماء العكر على هذا، بل حاولوا تشويه ذلك الجهاد الذي قام به الطلاب. فبعد قيام الثورة، وفي أول انتخابات طلابية، جاء الشيوعيون في وقت مضطرب، وكتبوا منشورات في الجامعة يهاجمون الإخوان، وملؤوها بالشائعات والأكاذيب عليّ. ومنها: أين السلاح يا عاكف؟ وأين كذا وأين كذا؟ فجاء إلي الإخوان مسرعين ليخبرونني بذلك، فقلت لهم: أدعو لي الطلاب لمؤتمر عام في القاعة الكبرى بالجامعة.. وكنت في ذلك الوقت مدرسا بفؤاد الأول الثانوية التي تقع بجانب الجامعة.
وبالفعل كان مؤتمرا ضخما جدا، وخرج هذا ليتكلم، وهذا ليتكلم، وعندما صعدت صمتوا، فلم يكونوا قد رأوني منذ عام تقريبا، فقمت بتحيتهم والسلام عليهم، ودعوت الله لهم بالنجاح، وببساطة شديدة قلت لهم: ما كنت أتوقع أبدا أن هذا العمل العظيم الشريف الذي سجله التاريخ لجامعة إبراهيم في مقاومة المحتل الغاصب وإعلاء كلمة الحق؛ أن يكون سبيلا للمهاترات القذرة لانتخابات طلابية.. أين من تحدث عن هذا العمل البطولي الذي قام به طلبة جامعة إبراهيم؟ وأنا لن أرد عليهم، ولكن سأترك الرد للجنة التي شكلها الاتحاد العام، وشكلتها الجامعة للإشراف على المعسكر، وعلى أمواله، والمكونة من فلان وفلان من أساتذة الجامعة. ثم أخرجت الخطاب الذي كانت اللجنة قد أرسلته إليّ في ختام أعمال المعسكر، وقلت هذا خطاب من هذه اللجنة، وحياء مني (لأنه يذكرني بالخير) وضعته في جيبي، ولم أعلنه للناس. وبمجرد أن قرأت عليهم الخطاب، ظلت القاعة تصفق تصفيقا حارا. وحصل الإخوان على الانتخابات بنسبة 100 في المئة في ذلك العام.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (11)
احترقت القاهرة:
كانت الأحداث متلاحقة. فقد كنت مشغولا بتجهيز بعض السلاح للمجاهدين، وإعداد دفعة أخرى للقيام بحرب عصابات ضد الإنجليز، لكن فوجئت بإخوان بالإسماعيلية يخبرونني بما حدث في الإسماعيلية، بين الإنجليز وقوات الشرطة، حينما رفضت تسليم أسلحتها، وإخلاء مبنى المحافظة للقوات البريطانية. ودارت بينهم معركة، أسفرت على وقوع شهداء من الجانب المصري. وارتبك المشهد، خاصة أنني في حاجة لتوصيل السلاح والمتفجرات للمجاهدين في الإسماعيلية. واستعنت ببعض الإخوة الذين لهم معرفة جيدة بالطرق، ونقلنا الأسلحة، لكن كانت تنتظرنا مفاجأة، حينما وصلنا القاهرة، حيث شاهدتها تحترق كلها، وظننت أن المحتل قام بعمل عدائي. فالتقيت بقادة النظام الخاص الذين لم يكن لديهم معلومة عن أسباب هذا الحريق، ولا من يقف خلفه.
كانت الأحكام العرفية مفروضة، والحكومة تبحث عمن أحرق القاهرة، والمظاهرات تجوب شوارع القاهرة تطالب بمزيد من قتال ضد الإنجليز، والملك فاروق يدعو إلى مائدته جمعا من ضباط الجيش.. أضرم مجهولون النار في بعض أماكن القاهرة، فأثاروا ثائرة الجماهير التي اندفعت تخرب وتسرق وتقتل.. وقبض على كثيرين، وأعلنت الأحكام العرفية، ثم أقيلت وزارة الرئيس مصطفى النحاس، وتوقفت تقريبا عمليات القتال بقناة السويس، ومنع التجول في القاهرة ليلا، ونزلت قوات من الجيش إلى الشوارع.
قضاة في قلب الحرب:
في السابع والعشرين من كانون الثاني/ يناير 1952، أعلنت حالة الطوارئ، وحظر التجول بالقاهرة بعد السادسة مساء. وفي هذا اليوم، كان من المقرر نقل كمية ضخمة من الديناميت إلى منطقة القنال لبعض العمليات، خاصة لنسف قطار بورسعيد- القنطرة. لم أجد أمامي إلا الاستعانة بأحد ضباط الجيش، وكان بكباشي اسمه "الكاشف"، وآخر مستشار يدعى فتحي عوض، وأخذتهما معي في سيارة الديناميت هذه؛ لأنه كان هناك حظر تجول، فإذا اعترضني أحد يقوم الضابط والمستشار بتسيير الأمر.
وظللنا نجول مصر الجديدة بحثا عن محطة بنزين لنملأ السيارة، فلم نجد محطة واحدة، حتى أتى علينا موعد حظر التجول، فقال لنا المستشار فتحي عوض: أحد أقاربي يسكن قريبا من هنا، فذهبنا وتركنا السيارة، وكان نوعها "فوكس هول" (سيارة إنجليزية عريقة)، وكانت ملك البكباشي (وكانت مملوءة بالديناميت) وصعدنا إلى المنزل وقضينا الليلة عند قريب المستشار فتحي عوض.
وفي هذه الليلة، أقيلت وزارة مصطفى النحاس، وأعلنت حالة الطوارئ، وكان الأمر خطيرا بالنسبة لنا أن نتحرك بسيارة مملوءة بالديناميت، ولكننا قمنا في الصباح، وأدينا مهمتنا بالتمام، وتم إرسال الديناميت للقنال تمهيدا لتنفيذ العملية.
وانتهت الحرب وبدأت الثورة
عندما جاء علي ماهر رئيسا للوزارة، طلب منا أن نوقف العمليات في القناة، وكان في هذا الوقت ما زال أمامنا عملية قطار بورسعيد والقنطرة، فقلت له: أنا لن أوقف العمليات. فقال لي: نأخذ حكما بيننا، فوافقت، فقال لي: الأستاذ الهضيبي؟ فوافقت على ذلك، وظللت أعطِّل الأمر حتى تمت العملية، وتم نسف القطار وقتل 400 جندي إنجليزي.
وبعدها، صدر الأمر لنا من الأستاذ الهضيبي بأن نتوقف، فتوقفنا عن العمليات، باستثناء معسكر الإسكندرية الذي رفض قائده الدكتور محب الدين محجري أن يمتثل لهذا الأمر، فقاطعناه، فتوقف رغما عنه؛ لأننا لم نعد نساعده. بعدها بستة أشهر تقريبا، قامت الثورة، فقمت بتسليم المعسكر إلى الصاغ كمال الدين حسين، وكان مشرفا على الحرس الوطني في ذلك الوقت.
بعدما انتهت الحرب بحريق القاهرة، وإقالة حكومة النحاس باشا في 26 كانون الثاني/ يناير 1952م، بدأت المشاورات بين الإخوان والضباط الأحرار، وعقدت الاجتماعات الكثيرة بينهم، وبالفعل جاءتنا الأوامر بمساعدة الضباط الأحرار في ثورتهم، وتأمين المنشآت، والتصدي للإنجليز إذا حاولوا التحرك لإنقاذ الملك.
وكلفت بمجموعة لتأمين مداخل القاهرة، والتصدي لأي تحرك قد يفسد فرحة الانتصار. ورأيت تحركات عربات الجيش في الوقت الذي أخبرني به قادة النظام الخاص، ولم أر في المكان المكلف به أية تحركات غير تحركات الجيش المصري.
نجحت الثورة، لكن نكث عبد الناصر بالوعود التي وعدها للإخوان، بإطلاق الحريات وعودة الجيش إلى ثكناته، وإجراء انتخابات حرة.
هل كان عبد الناصر من الإخوان؟:
لكن دعونا نعود للخلف بعض الشيء ونتساءل: هل كان عبد الناصر في الإخوان المسلمين؟
من المؤكد، وما أعرفه، أن الصاغ محمود لبيب كان مسؤولا من قبل الإخوان بمتابعة التنظيم الخاص في وحدات الجيش، وكان يعاونه عبد المنعم عبد الرؤوف، وأبو المكارم عبد الحي، ثم انضم جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين، حيث استطاعا أن يجذبا عددا من أقرانهما في الجيش للالتحاق بالنظام الخاص، مثل حسين الشافعي، وخالد محي الدين، وغيرهما، حيث أقسموا على المصحف والمسدس. وقد تأكدت من ذلك من الصديق كمال الدين حسين؛ لأنني كنت في ذلك الوقت مسؤولا لقسم الطلبة بجماعة الإخوان، وكان كمال الدين حسين مسؤولا عن التعليم، حيث كانوا يجتمعون قبل الثورة في منزل حسني عبد الباقي، وكان اسمهم تنظيم وحدات الجيش، قبل أن يغيروا الاسم، ويسموا أنفسهم الضباط الأحرار، خاصة بعدما حدثت مشكلة مع عبد المنعم عبد الرؤوف، وتم فصله من التنظيم لرغبته في أن يظل التنظيم إسلاميا، لكنهم رفضوا.
وما أعرفه عن اتفاقات تمت بين رجال الثورة والإخوان؛ هو قسمهم على المصحف بأن يعيدوا الحريات، ويطبقوا شرع الله إذا نجحت الثورة وتقلدوا مقاليد الحكم، وكان حاضرا في هذا الاجتماع؛ حسن العشماوي، وفريد عبد الخالق، وحسني عبد الباقي، وقادة الإخوان، بالإضافة لرجال الثورة.
الإخوان ودورهم في الثورة:
حرسنا الثورة عن طريق التصدي لمحاولات الإنجليز إذا أرادوا مساندة الملك، ولذا وقفنا على طرق الإسماعيلية والسويس نترقب أي تحرك للإنجليز، في حين كانت هناك مجموعات مسؤولة عن تأمين البلد، وحماية المنشآت. لكن الإخوان المسلمون عموما هم من قاموا بهذه الحراسات، وليس التنظيم الخاص فقط؛ لأنه كان قد انكشف أمره، وكذلك كان عدد أفراده قليلا، ولذا كانت جموع الإخوان هي من نزلت لمساندة الثورة.
لكن لي رأي آخر: هذه الثورة لم يقم بها رجال الجيش والإخوان فقط، بل الشعب بأكمله؛ لأنه رضي بها وحماها بعد ذلك. وما كانت انقلابا بالمعنى المعروف، لكن تحرك الجيش بمعاونة الإخوان ورضي الشعب بطرد الملك، وتقبل حكم العسكر الذي سانده الإسلاميون.
وكان الشعب يستشعر فساد الملك في فترة حكمه الأخيرة، ولذا ضاق به ذرعا، وتمنى الخلاص منه.
رفضت مقابلة الملك:
ومن الأمور التي حدثت معي شخصيا أثناء تدريبي للفدائيين في الجامعة، أن اتصل بي يوسف رشاد يطلبني لمقابلة الملك، فرفضت، خوفا من أن "يلبسني" تهمة؛ لأنني كنت طالبا، فكيف بطالب يذهب لمقابلة الملك؟ وأخبرته أنه يوجد مرشد عام للإخوان، فإذا أراد مقابلة أحد، فليطلب المرشد العام، وليس طالبا في الجامعة. وحدث هذا الأمر لحسن دوح قائد معسكرات جامعة فؤاد أيضا، فرفض.
وبدأ الصدام:
حاول كمال الدين حسين أن يستغل طلاب الإخوان ضد الشيوعيين، لكنني رفضت. وكان الوسيط بين رجال الجيش والإخوان هو الأستاذ عبد القادر عودة.
كنا نرى بين الحين والآخر، وفي كل حفلة، ضابطا صغيرا يأتي باسم مندوب القيادة، فتكلمت مع عبد الناصر في هذا الشأن، كما تكلمت معه حول غاية قطار الرحمة الذي انطلق بعدد كبير من الممثلات والممثلين من القاهرة للصعيد يجمع الأموال، وقابلته وقلت: لماذا لا نفكر في سمو الهدف والتنفيذ.. هل سنجمع المال بهذه الطريقة التي تخالف الشرع؟
وطلب مني توفيق عابد، مسؤول تدريب الطلاب في الجامعة، أن أنضم إليهم في هيئة التحرير وتربية الشباب، فرفضت، وقلت له: أنا مسؤول أكبر قسم في جماعة الإخوان، فهل أتخلى عنه، وأذهب لهيئة التحرير؟
بدأت العلاقة تسوء بيننا وبين جمال عبد الناصر، حتى أننا صدمنا فيه؛ لأنه تربى وسطنا، وكان واحدا منا، لكنه نكص على عقبيه فيما وعد وفيما قاله، وبدأ الخلاف يدب وسط الإخوان.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (12)
فتنة النظام الخاص:
كان محمد نجيب شخصية متزنة ورائعة، وتعاونا معه من أجل مصر؛ لأننا كنا نشعر بأنه زعيم للبلاد. ولذا حاول عبد الناصر نشر بذور الفرقة بين صفوف الإخوان؛ فعمل على استمالة عدد من الإخوان، خاصة حينما اشتدت الأزمة بين المرشد العام وقادة النظام الخاص، بعدما صرح المرشد العام بأنه لا سرية في الدعوة بعد اليوم. وعلى إثر ذلك، اعترض عدد من قادة النظام الخاص الذين حاولوا جعل النظام الخاص كعهد الإمام البنا. ولذا صدر من الهيئة التأسيسية قرار بفصل عدد من الإخوة، وهم عبد الرحمن السندي، ومحمود الصباغ، وأحمد زكي حسن، وأحمد عادل كمال، غير أن هؤلاء الإخوة لم يرضوا بما حدث، وعمدوا إلى الاعتراض على ذلك، وتضامن معهم عدد من الإخوة، كالأستاذ صالح عشماوي، وعبد العزيز جلال، ومحمد الغزالي.
حاصرنا بيت المرشد:
اجتمع بعض الإخوان بالنظام الخاص، واتفقوا على الذهاب إلى بيت المرشد العام بالروضة لسؤاله عن أسباب القرار، وصلى الإخوان المتفقون العصر في مسجد الروضة، ثم صعدوا إلى مسكن الأستاذ الهضيبي المقابل له. وجرى الحديث بصورة غير لائقة من قبل الشباب، وخرج بعضهم عن طور الأدب؛ لعدم اقتناعهم بما يجرى، وبعدم تقديم أي تبرير لهذا القرار، فطلب بعضهم من المرشد تقديم استقالته، لكن بعض الحاضرين من هؤلاء الإخوان آثر ألا تجري المناقشة على تلك الصورة، فانتقلوا جميعا إلى دار المركز العام للإخوان بالحلمية. وهناك طلبوا من أي مسؤول في الجماعة أن يحضر للتفاهم معهم، والإجابة عن أسئلتهم حول قرار الفصل. ولقد ذكر أ. أحمد عادل كمال أني كنت من هذه المجموعة، لكن هذا الأمر غير صحيح، فأنا لم أذهب لبيت الأستاذ الهضيبي، ولم أشارك هؤلاء؛ لأنني باختصار كنت ضد ما يقومون به، وملتزما بمنهجية الجماعة التي تربيت عليها.
بعدما فض الإخوة وقفتهم في بيت المرشد العام، واتجهوا إلى المركز العام، انضم إليهم الأستاذ صالح عشماوي، لكن عددا من الإخوة استطاعوا التدخل، وفضوا الأمر، وعقدت محاكمة للأستاذ صالح عشماوي، ومحمد الغزالي، وعبد العزيز جلال. وعلى إثرها، قررت الهيئة التأسيسية فصل هؤلاء الإخوة؛ لتجاوزهم في هذا الموضوع.
عقب جلسة الهيئة التأسيسية، قام المركز العام - قسم نشر الدعوة - بطبع رسالة بعنوان "حتى يعلم الإخوان – القول الفصل"، تضم قرار الاتهام الذي قدّم به مكتب الإرشاد الثلاثة المطلوب التحقيق معهم.
كانت معرفتي بعبد الناصر، وتعاملي معه في مواقف كثيرة، وراء يقيني بأن عبد الناصر له يد فيما يجري داخل الجماعة. ليس هذا فحسب، بل كان يحرك بعض أطراف الفتنة لتحدث هذا الانشقاق في الصف.
كان لهذه الفتنة تأثير كبير على الدعوة وعلى الأفراد، خاصة في مثل هذه الظروف. وزاد الأمر توترا استشهاد الأخ السيد فايز، في ظروف لا أتصورها إلا من باب سكب البنزين على النار لتزداد اشتعالا، والسؤال عن المستفيد من الإقبال على هذا الفعل المجرم. غير أني لم أكن في مكان يؤهلني للاطلاع على خفايا الأمور ومستجداتها، لكن استشهاده ترك أثرا عظيما في نفسي لمعرفتي به، وتعاملي معه؛ فقد كان ذا خلق رفيع، يحب دينه ودعوته، وكان نعم القائد للنظام الخاص في الفترة التي أعقبت الفتنة. رحمه الله رحمة واسعة، وألحقنا به على خير.
زيارة نواب صفوي واشتعال الموقف:
في هذا الجو المشحون، حاولنا - في قسم الطلاب - الخروج بالطلاب من التفكير فيما يحدث، وقمنا بعمل العديد من الاحتفالات، لكننا فوجئنا بمن يريد أن يشعلها نارا، مما زاد يقيني بأن عبد الناصر لن يترك الجماعة تهنأ، خاصة أنه يراها العدو الأكبر له.
حرص جمال عبد الناصر على سرعة تصفية كل الشارع المصري من جميع السياسيين، بمحاكمات عسكرية تحت مسميات مختلفة، وتنتهي هذه المحاكمات إلى السجن أو الاعتقال، والتشريد، ومصادرة الأموال، ولا بأس أحيانا بالتشويه والطعن، وإساءة السمعة، لذلك أصدر قرارا بحل الأحزاب أواخر عام 1953م، واستثنى الإخوان من ذلك.
في الثاني عشر من كانون الثاني/ يناير عام 1954م، أثناء الاحتفال بذكرى الشهيد عمر شاهين وأحمد المنيسى، اصطدم الإخوان بمجموعة من الطلاب الذين يمثلون القطاع الشبابي في التنظيم السياسي الذي ترعاه الحكومة، هيئة التحرير (التي كانت الحزب الجديد الذي أنشأه عبد الناصر؛ ليستغنى به عن المساندة الشعبية للإخوان) داخل حرم جامعة القاهرة، وكان التلاميذ قد أحضروا إلى الجامعة شاحنات حكومية، ومعهم مكبرات الصوت، ليفسدوا على الإخوان احتفالهم، بإحداث بعض الشغب، لينفرط العقد، وينقسم الناس، ويتشاغلوا بفض النزاع، فينفض الحفل.
استضاف طلبة الإخوان الزعيم الإيراني الشهير نواب صفوى (زعيم "فدائيان إسلام" الإيراني، وأحد المعارضين لطغيان الشاه) الذي ألقى خطبة وسط صيحات الإخوان الذين تعالت هتافاتهم بشعارهم التقليدي "الله أكبر ولله الحمد". وقتها هاجم شباب هيئة التحرير الاحتفال، فلم يجد شباب الإخوان بدا من صد الهجوم، والرد عليه، ودفع ذلك الأخ محمود أبو شلوع وغيره؛ لأن يقوموا بحرق سيارة لشباب هيئة التحرير اقتحمت الجامعة.
خرج نواب صفوي من الجامعة، واتجه للمركز العام، حيث ألقى محاضرة لقاء الثلاثاء كذلك، في حين أغلقت الجامعة أبوابها بعد تلك الأحداث التي جرت..
أمر بالاعتقال:
بعد انتهاء المحاضرة، عدت إلى منزلي، فوجدت المستشار فتحي عوض بانتظاري (وكان مدير مكتب الرئيس محمد نجيب)، وأخبرني أن مجلس الثورة حل جماعة الإخوان المسلمين في اجتماعه اليوم، ومطلوب القبض على 12 أخا قبل الساعة الثالثة صباحا، وأنا منهم، ثم صحبني معه إلى منزله، وكان مجاورا لمنزلنا. وفي الثالثة صباحا هاجمت منزلي قوة من البوليس الحربي والبوليس السياسي، وقاموا بتفتيش المنزل تفتيشا دقيقا، وكنت أنظر إليهم من منزل المستشار فتحي عوض. ومن ستر الله عليَّ أن الحجرة التي كنت أضع فيها الأسلحة التي تسلمتها من عبد الرحمن السندي، لأستخدامها في حرب الإنجليز، لم يدخلوها ولم يفتشوها؛ فقد أعماهم الله عنها.
وفي صباح يوم الأربعاء، ذهبت إلى جريدة "البلاغ" بعد أن اشتراها الإخوان، وكان بها الأستاذ سيد قطب، وكان مكتبي بجانبه، حيث كنت محررا في تلك الجريدة، وذهبت إلى عبد القادر عودة، وإبراهيم الطيب، ويوسف طلعت، وأخبرتهم بما حدث. ولم يكن قد تم إذاعة أي شيء أو نشر القرار في الجرائد إلا يوم الجمعة التالي، على الرغم من القبض على الأستاذ حسن الهضيبي بالفعل، مع العشرة الباقين، ووضع بعض الإخوان في السجن الحربي، وتم فتح معتقل العامرية، وكنت أنا رقم 12، وكنت الهارب الوحيد. وطلب مني الأستاذ عبد القادر عودة والأخ يوسف طلعت؛ أن أقوم بزيارة وجه بحري، وأبلغ الإخوان ليأخذوا حذرهم. وفعلا قمت بزيارة جميع المكاتب الإدارية في وجه بحري والإسكندرية والغربية ودمنهور والمنصورة، وكانت آخر محطة لي في شبين الكوم، وكان يوم الجمعة الذي نشرت فيه الصحافة قرار حل الإخوان. وفي هذه الفترة التي هربت فيها منذ صدور قرار الحل حتى سلمت نفسي بناء على طلب الأستاذ عمر التلمساني والدكتور كمال خليفة؛ مرت بي أحداث طريفة تدل على أصالة الرجال من مصر وغير مصر.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (13)
رحلة هروب:
كان الهروب في ذلك الوقت مشكلة كبيرة، لا يقوى عليها إلا القليل. أثناء هروبي، وأنا أقود سيارتي - التي كنت أغيرها بين الحين والآخر - فوجئت بسيارة ضخمة تطاردني، ثم وقفت أمامي، وإذا بالذي يقودها ابن المهندس محمد حسن، صاحب مدينة محمد حسن بالهرم، وكان تلميذا عندي بمدرسة فؤاد الأول، ودعاني لمنزله لتناول الغداء، وقال إنني أعرف ما يراد بك، فاتبعني.. وسرت بسيارتي خلفه، حتى أدخل سيارتي الكراج، ودخلت عنده، وقمت بتغيير ملابسي والاستحمام، ثم تناولنا الغداء واسترحت لبعض الوقت. وقبل الانصراف، وجدت جميع ملابسي قد غسلت، وقاموا بكيها، فحمدت الله وانصرفت.
ومن الأحداث التي وقعت معي، أنني كنت أغير سيارتي بين الحين والآخر لدواع أمنية - كما قلت - وكانت سيارتي ماركة فولكس فاجن. وفي يوم من الأيام، قابلت الأخ محمود حسن، شقيق الشهيد صلاح حسن، وطلب مني أن أكلفه بأي عمل، فقلت له: تعال معي واركب السيارة الفولكس؛ لأنني أحضرت سيارة أخرى من الإسماعيلية، وسر خلفي حتى نضعها في كراج بالفجالة. وفي هذا اليوم، أخبرني يوسف طلعت بأن كل أجهزة الحكومة تبحث عني وعن سيارتي. وفوجئت، وهو يسير خلفي، بأن أوقفه كونستبل يركب موتوسيكل - وهو كأمين الشرطة اليوم - وطلب من الأخ محمود حسن أن يتبعه إلى قسم الأزبكية، فما كان مني إلا أن أوقفت سيارتي بعيدا عنه، وذهبت إليه وقلت له: اذهب معه حتى أحضر لك الرخصة الخاصة بك من القسم، وحينما ذهبوا إلى القسم ولم يجدوه محمد عاكف، قالوا له: أين محمد عاكف؟
قال: هو الذي قال لي أمام الكونستبل اذهب معه إلى القسم حتى أحضر لك الرخصة.
طبعاً، ذهبت إلى السجن الحربي فيما بعد، ووجدته هناك. وهو من المجاهدين القلائل الذين أعتز بأخوتهم حتى اليوم.
في بيت السفير:
وفي مرة أخرى، وأنا مطارد أيضا لا أستطيع دخول أي منزل، ولا الذهاب لأي مكان، قابلت ابن السفير السوري - وكان من عائلة الأتاسي، وكان معي في معهد التربية ويعرفني جيدا - فقال لي: إنني أعرف ما حدث، ونحن سنسافر لأسوان، ثم أعطاني مفتاح الفيلا، ومفتاح السيارة، وظللت لمدة عشرة أيام وأنا أقيم في فيلا السفير، وأتنقل بسيارة السفير.
في تلك الأثناء، كان بيني وبين الأستاذ عمر التلمساني والدكتور كمال خليفة؛ مراسلة، حيث لم يكونا معتقلين. وكان حلقة الوصل بيننا شابٌ ظريفٌ جدا من عائلة الهضيبي، فوجئت به في يوم من الأيام يحضر ويقول لي: الأستاذ عمر والدكتور كمال خليفة يريدانك لأمر ضروري، وحددت الموعد والمكان وقابلتهما، فقالا لي: إن الملك سعود سيحضر، ويريد حل الموضوع بصورة ودية، ولكن عبد الناصر مصرٌّ على أن تقوم بتسليم نفسك أنت ويوسف طلعت، إضافة إلى هؤلاء المعتقلين، فقلت لهم: ما تريدونه سأفعله بدون مناقشة، فقالا لي: لا بد أن تقوم بتسليم نفسك.
مظاهرات آذار/ مارس:
بعد حل الجماعة، واعتقال قادة الإخوان، عمد عبد الناصر ورفاقه لتضييق الخناق على محمد نجيب؛ مما دفعه للتنحي.
وانقسم الجيش إلى فرقتين: فريق يؤيد محمد نجيب، وتزعم هذا الفريق ضباطا من سلاح المدرعات، وفريق آخر يؤيد جمال عبد الناصر من سلاحي المدفعية والمشاة.
وكاد هذا النزاع أن يؤدي إلى حرب أهلية تقتل فيها قوات مصر المسلحة، ولكن جمال عبد الناصر استجاب للفريق المؤيد لمحمد نجيب؛ نظرا لاندلاع المظاهرات الشعبية من أسوان للإسكندرية تطالب بعودة نجيب، وتبين لعبد الناصر أن نجيب يتمتع بشعبية كبيرة في مصر والسودان، حيث قامت مظاهرات مماثلة في السودان الشقيق تطالب أيضا بعودة نجيب، فأدى ذلك لاندلاع المظاهرات، سواء في الجيش أو من الشعب، للمطالبة بعودة نجيب للحكم، والإفراج عن الإخوان المسلمين.
عاد محمد نجيب للحكم، وأفرج عن الإخوان، وزار عبد الناصر وصلاح سالم المرشد العام في منزله بالمنيل، وكان ذلك في آذار/ مارس 1954م.
حوار مع المرشد:
تمثل الهيئة التأسيسية مجلس الشورى للإخوان المسلمين، وكان الأستاذ البنا يقوم بتعيين أعضائها حسب مصلحة الإخوان، وكان رأيها استشاريا غير ملزم، حتى عام 1947م، حينما تغير القانون الأساسي للإخوان المسلمين، وأصبح رأي الهيئة التأسيسية ملزما للمرشد العام.
وكان اجتماعها دوريا كل سنتين، أو حسب طلب الأستاذ المرشد، كما كان هناك لجنة تسمى لجنة العضوية، مكونة من خمسة أفراد، تقوم بفحص المرشحين لعضوية الهيئة، أو تقوم بالتحقيق مع أعضاء الهيئة إذا لزم الأمر.
وفي كانون الثاني/ يناير 1954، وأثناء وجودنا في السجن، فكرنا كيف نطور الجهاز الإداري للإخوان، وعلى رأسه الهيئة التأسيسية، وطالبنا الأستاذ الهضيبي بوجوب حل الهيئة التأسيسية والدعوة إلى هيئة تأسيسية جديدة. وحينما خرجنا، أحببت أن أذكر الأستاذ الهضيبي بما اتفقنا عليه ونحن في السجن الحربي، فقال لي: لا. ليس هذا هو الأسلوب الأمثل. الأسلوب الأمثل أن تقوم الهيئة التأسيسية نفسها بحل نفسها، وتدعو هي نفسها لانتخابات جديدة. وبهذا يتضح عمق فكر الأستاذ الهضيبي، ورسوخ معالم العمل الصحيح في مؤسسات الإخوان المسلمين، والمحافظة على قانونيات الجماعة.
وتمت انتخابات بالفعل على مستوى الجمهورية، ولكن للأسف لم تجتمع الهيئة التأسيسية الجديدة، حيث ألقي القبض على أعضائها. وبعد عودة جماعة الإخوان في السبعينيات، واستكمال هيئاتها الإدارية وتنظيماتها، وضعت لائحة مؤقتة تمت على أساسها انتخابات المكاتب الإدارية ومجالس الشورى في الأقاليم، ومجلس الشورى العام الذي قام بانتخاب أعضاء مكتب الإرشاد العام.
واعتقد الجميع أن الحياة النيابية ستعود، وفي نفس اليوم بدأ عبد الناصر بتنفيذ خطته، وفوجئت القاهرة بتوقف جميع وسائل النقل فيها في الساعة الواحدة ظهرا، ما عدا الترام، بعد أن استطاع أن يستميل إليه صاوي أحمد صاوي، رئيس اتحاد نقابات عمال النقل، ليعلن إضرابا شاملا لمطالب خاصة، ثم بدأت الإذاعة تذيع إضراب العمال؛ بسبب قرارات عودة الحياة النيابية للبلاد، ورغبتهم في الإبقاء على مجلس الثورة.
وخرجت جريدتا الأهرام والأخبار تؤيدان هذا الاتجاه، وتطالبان ببقاء مجلس الثورة، بينما انفردت جريدة المصري بالوقوف ضد ذلك الاتجاه، محاولة الكشف عن المؤامرة التي تدبر للقضاء على الحياة النيابية الدستورية الطبيعية للبلاد، وبدأت المظاهرات تشتد - وهي المظاهرات التي كان يدبرها البوليس الحربي - وكانت تطالب بعدم عودة الحياة النيابية.
كنت مشغولا بأعمال النظام الخاص والتدريبات، سواء في الصحراء أو في غيرها، وكنا تحت عين الحكومة، غير أنني لم أكن مطمئنا يوما لهؤلاء العسكر.
نظام الفصائل ومساعدة الدول العربية في تحرير أرضها
كان الإخوان المسلمون منذ عهد الإمام البنا قبلة العالم الإسلامي، وملتقى زعمائه، وقادة التحرير فيه. وفي الوقت الذي كان العالم الإسلامي يرزح كله تقريبا تحت نير الاستعمار (إنجليزي أو فرنسي)، كان زعماء التحرير في تلك البلاد لا يجدون ملجأ إلا عند الإخوان المسلمين. فكثيرا ما امتلأ المركز العام للإخوان بأمثال سوكارنو، والحبيب بورقيبة، وعلال الفاسي، والإبراهيمي، ومحيي الدين القليبي، وغيرهم كثير وكان الإخوان من جانبهم؛ يقدمون كل ما يستطيعون من مساعدة لهم. وكان النظام الخاص في الإخوان يقوم بدور مهم في مد يد العون للأشقاء الذين يسعون للتحرر، وقد أعددت نظاما للفصائل تمت الموافقة عليه.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (14)
مشروع الفصائل:
بعد فصل السندي ورفاقه، كان موضوع النظام الخاص قد انتهى. وبعد خروجنا من المعتقل في كانون الثاني/ يناير 1954، وبناء على رغبة الإخوان في أن يظل التدريب للإخوان وإعدادهم للجهاد موضع اهتمام، كلفني الأستاذ الهضيبي بوضع مشروع لتحقيق هذه الغاية. فوضعت مشروع الفصائل، وقدمته إليه، فكلفني في 25 أيار/ مايو 1954 بتنفيذ ذلك المشروع، وعينني مسؤولا عن التدريب، وإعداد الإخوان على مستوى القطر. وكانت متابعتي مباشرة من الشهيد يوسف طلعت والأستاذ حسن الهضيبي، في حين كان يعاونني في تدريب الفصائل جهاز كبير. كان المسؤولون عن المكاتب الإدارية على علم بالخطة وبالعمل، وكان معي - لا يفارقني - عبد المنعم عبد الرؤوف، وكان رجلا عظيما سهلا، وجنديا تتجسد فيه كل معاني الجندية، وكان يعاونني في كثير من الأمور.
وبالفعل، بدأنا في تنفيذ مشروع الفصائل، حيث يقضي النظام أن تكون في كل شعبة فصيلة تضم 37 إلى 40 فردا على الأكثر.. تعرف سلاحها، وتتدرب عليه، بحيث تكون جاهزة إذا قيل لها "حي على الجهاد".
استوحيت هذه الفكرة من تاريخ الجيوش العربية الإسلامية، حيث لم يكن هناك جيش، بل يكفي أن يقال "حي على الجهاد" فيخرج الجميع للجهاد بسلاحه. كما وجدت في سويسرا الأمر كذلك، فلا يوجد هناك جيش سويسري. وكذلك في الكيان الصهيوني كل واحد يتدرب، ويعلم فصيلته وكتيبته، ونوع السلاح الذي يستعمله، ثم يتدرب كل عام لحوالي أسبوعين أو شهر.. وهكذا.
لم يكن نظام الفصائل سريا في ذلك الوقت، بل كان اختيار الإخوان في الفصائل مفتوحا ومتاحا للاشتراك بلا قيود، ولذلك عند محاكمتي قالوا لي: الفصائل جهاز سري. فقلت لمن يحاكمني: أنت ضابط جيش وعسكري، فهل تعرف أن النظام السري يتكون من فصائل والفصيلة تتكون من حوالي 37 شخصا، يعرفون بعضهم بعضا، فهل تسمي هذا نظاما سريا؟! فالنظام السري عبارة عن مجموعات قليلة عنقودية، لا يعرف بعضها بعضا، كما كنا من قبل في النظام الخاص، حيث كنا نتخاطب بالأرقام وليس بالأسماء. أما نظام الفصائل، فكان علني النشأة والهدف؛ بأن يكون كل الشعب جاهزا ومستعدا للجهاد، ومساعدة الشعوب العربية في تحرير أراضيها. ولم يتحول نظام الفصائل للسرية؛ إلا بعد أن بدأت الحكومة في البطش بالإخوان بطشا شديدا، بداية آب/ أغسطس من العام ذاته.
كان التدريب في البداية يستوعب مجموعات الإخوان، ويحقق لنا ما نريد، وكنا في الوقت ذاته نعقد معسكرات خاصة نقوم فيها بتدريب الفصائل على ما لم يسع وقت التدريب استكماله. وفي غضون شهرين (من أيار/ مايو حتى قبض عليّ)، قمنا بحمد الله بعمل كبير، حتى أصبح في كل منطقة فصيلة، مع أن إعداد الفصيلة كان يحتاج لمجهود شاق، وتدريبات وثقافة عامة، ومعرفة كل فصيلة بل كل فرد لمهمته.
كنا نريد تجهيز الفصائل تماما في أسرع وقت؛ فقد كانت قلوبنا وعقولنا تتابع معارك الجزائر، وكان محيي الدين القليبي من زعماء الجزائر المحكوم عليهم بالإعدام، فقمنا بتهريبه لمصر، وكان يعيش معي، ويحضر إلينا شبابا رائعا كنا نقوم بتدريبهم.
بدأ الإخوان الإعداد الفعلي لخوض معركة الجزائر. وعندما ذكر الأستاذ الهضيبي لحسين الشافعي ذلك الأمر، سخر منه حسين الشافعي، بل صرح للجرائد بأن حسن الهضيبي يريد أن يحارب في الجزائر، ولا يريد أن يحارب في القناة.. وكان ذلك كذب وتضليل باتهام الإخوان بأنهم لا يريدون أن يحاربوا في القنال، على الرغم من أن دماءهم ما تزال تنزف على أرض القنال بعد حرب 1951م.. فإن لم نكن نحن الذين حاربنا الإنجليز في القناة فمن حاربهم؟! هناك أشخاص يعشقون التضليل والكذب، ونحن لا نملك إلا أن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وعلى صعيد التنفيذ، وفي الوقت الذي شارفنا فيه على التحرك لمساعدة إخواننا في الجزائر، بدأت الحكومة تبطش بالإخوان، وكان موقفا في غاية السوء، وكأن هؤلاء الحكام أرادوا عمدا منعنا من أداء واجبنا نحو مصر والعالم الإسلامي. ومع أن الإخوان في ذلك الوقت كانوا مدربين ضد أي محتل، لكنهم كانوا يهدفون للسلام مع حكومات بلدانهم؛ لأنهم ما قاموا في يوم من الأيام بعمل ضد الحكومة.. حتى في أحلك الظروف عندما اشتدت حملة علينا الحكومة، ورأى بعض الشباب أن عبد الناصر يسعى لأن يقضى على الإخوان، فيجب أن نعجل بالقضاء عليه وإزاحته من السلطة، كان موقفا رائعا من المستشار حسن الهضيبي حينما هب غاضبا وقال: "لا أتحمل دم أحد".
لكن ما كنا نضع في أذهاننا أننا نتدرب من أجل أن نقضي على أحد في بلادنا، لكن هذا العمل كان فقط لاستكمال تدريب الإخوان، ولتلبية داعي الجهاد في العالم، وليس في مصر ضد الإنجليز فقط.
ولهذا أتحدى أن يقول قائل: إن الإخوان استخدموا السلاح الذي بأيديهم ضد أي مصري، أو يخرج دليلا فعليا على ذلك، وليس مجرد تصريحات.
لقد كنت أدخل على رئيس الوزارة والسلاح في جيبي، وكنت أقابل حتى عبد الناصر والسلاح في جيبي، وكان لدينا في أيام الجامعة أسلحة، فلم يحدث أن استخدم أحد من الإخوان ذلك السلاح ضد الشعب أو ضد الحكومة، بل كان هذا السلاح وذلك التدريب لإعداد هذه الأمة لمواجهة المحتلين الذين احتلوا أرضنا زهاء سبعين سنة في مصر، وما يقرب من مائة سنة في الجزائر.. فهذا هو الشعور الذي تربى عليه الإخوان؛ بأننا مسؤولون عن كل بلد يقال فيه لا إله إلا الله، محمد رسول الله. بيد أن هذا المعنى كان غائبا عن حكوماتنا الماضية والحالية. وعندما تم القبض على يوسف طلعت، ووجدوا معه السلاح قال لهم: إنني لم أضرب به أعدائي، أفأضرب به إخواني من الجيش المصري والعساكر المصرية؟ لماذا؟ وإذا كان بيني وبين عبد الناصر شيء فلا شيء بيني وبين هؤلاء العساكر حتى أضربهم!
إن أمر الدماء عندنا له حرمة كبيرة، ونحن نربي شبابنا على أساس احترام الإنسان أيا كان، ولا نظلم أحدا أو نجور عليه لمجرد أنه مخالف لنا. وكما ذكرت، فإن مسيحيا كان يقود لي السيارة أثناء المعسكرات قبل الثورة، وكان يقول لي: أنا على العهد، وهذا ببركة الإخوان.
هذا، وقد قمت على هذه الفصائل حتى علمت أن عبد المنعم عبد الرؤوف هرب من السجن، وكُلفت بمعاونته على الهروب.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (15)
هروب عبد المنعم عبد الرؤوف
كان مقر البوليس الحربي وقتها في محطة مصر - رمسيس حاليا - وكان فيه سجن، وفي اليوم الذي قمت فيه بتسليم نفسي لهم، لا تتصور كيف قامت الدنيا لذلك الأمر.. وحدثت ضوضاء كبيرة، ووجدت هناك كل الضباط من الإخوان في ذلك الوقت؛ معتقلين، ومنهم عبد المنعم عبد الرؤوف، وأبو المكارم عبد الحي، وعبد الكريم عطية. ثم أخذوني لوزارة الداخلية، وكانوا معي في غاية الأدب والاحترام، ثم ذهبوا بي إلى السجن الحربي، وكانوا أيضا في غاية الأدب والاحترام، وهناك وجدت الأستاذ الهضيبي والإخوة الكرام.
وكان الأستاذ الهضيبي خائفا جدا من أن يقوم بعض الإخوان من أعضاء المكتب خارج السجن بتصرفات غير مسؤولة، أو أن يقدموا تنازلات للحكومة، فقلت له: يا فضيلة المرشد، أنا أحب أن أطمئنك أن الجميع في غاية الرجولة والالتزام، ولم يقبل أي واحد منهم - وعلى رأسهم عبد القادر عودة - أن يتفاوض مع الحكومة في غيبتك، فارتح واطمأن. ولم يطل الوقت بنا في السجن الحربي فقط 20 أو 25 يوما، وخرجنا جميعا في شهر آذار/ مارس عدا ضباط الإخوان، وبعدها فوجئنا بهروب اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف من المحاكمة العسكرية (وكان قائدا لكتيبة في الجيش بفلسطين في ذلك الوقت) وكان إنسانا فاضلا، وعانى كثيرا؛ إلا أنه استطاع الهرب منهم في الطريق إلى المحكمة، فأخذته وظل معي، واستأجرت له فيلا في الهرم، وبيتا آخر في شبرا، وبيتا في إمبابة، بالإضافة إلى بيتنا في العزبة. وظل يتنقل بين تلك الأماكن، وكان معنا المرحوم أحمد عيد من خيرة المعاونين لي؛ في خدمة عبد المنعم عبد الرؤوف عند الهرب، وظل يعيش معي حتى قبض عليّ في أواخر شهر تموز/ يوليو 1954. وعلمت بعد حادث المنشية في تشرين الأول/ أكتوبر 1954 أنه تمكن من الهرب، هو وأبو المكارم عبد الحي، إلى خارج مصر.
أخذت عبد المنعم عبد الرؤوف خلفي على الدراجة البخارية، وانطلقنا على طريق روض الفرج إلى كوبري أبو العلا، ودخلنا إلى حي الزمالك متجهين إلى كوبري الزمالك، ومنه اتجهنا إلى ميدان الجيزة، فشارع الهرم، حتى وصلنا أمام إحدى الفيلات.
كان الطريق من شارع الهرم إلى الفيلا من طرقات الدرجة الثالثة، كثير المنحنيات، مظلما، تكثر فيه الكلاب لكثرة ما به من أراضٍ زراعية، وفيلات جميلة متناثرة، لذلك كان صوت محرك الدراجة البخارية واهتزازها أثناء السير يختلط مع نباح الكلاب، فيحدث ضجة مزعجة. وعند وصولنا إلى الفيلا، استقبلتنا زوجة البواب وكلابها عند المدخل الحديدي، وصعدنا نحن الاثنين إلى سطح الفيلا.
وتتكون هذه الفيلا من طابق واحد أرضي وسطح فسيح بغرفة مع دورة مياه بملحقاتها. وجدت في هذه الغرفة ستة مخادع مريحة، والمطبخ معد بكافة ما يلزمه من أدوات.
كانت هذه الفيلا تتمتع بكثير من المميزات الصحية من شمس، وهواء عليل، وروائح زكية، ومناظر خلابة، ومميزات عسكرية، إذ تشرف على جميع التحركات على طريق الهرم، وتطل على جميع الدور المجاورة والأراضي المزروعة القريبة. ولها بابان، كل منهما متصل بطريق فرعي يؤدي إلى شارع الهرم، فكانت مناسبة لكل الاحتمالات.
هنداوي دوير:
في وسط هذا الظلام المتلاطم، فكر بعض الإخوان في اتخاذ موقف ضد عبد الناصر جراء ما يقوم به ضد الإخوان. وحينما نما ذلك إلى علم المستشار حسن الهضيبي، خشي أن ينجر بعض الإخوان للعنف، فرفض ذلك، وعنّف من يحاول أن يحول دعوة الإخوان إلى دعوة عنف.
في هذه الأثناء اعتقلت في أول آب/ أغسطس عام 1954م، بعدما عاد المرشد العام من رحلته بالخارج، وحدث لي العجب العجاب في الفترة التي سبقت حادثة المنشية. في السجن، سمعت عن المنشية وما حدث فيها، وعلمت ببعض الأحاديث منها.
شخصيا، كنتُ أرى هنداوي دوير شخصا متحمسا، لكن حماسه في كثير من الأمور في الاتجاه الخطأ. فقد كان - مثلا - متحمسا لقتل عبد الناصر بسبب ما اقترفه ضد الأمة، وحينما عرض النظام الخاص عليّ ذلك ليرافقني في مهمة تهريب عبد المنعم عبد الرؤوف، رفضت بشدة، حتى إنني لم أتعامل معه بعد ذلك؛ لأنني خشيت أن يكون حاله كحال المتحمسين، فيستغل حماسه في عمل شيء يجر على الجماعة الضرر الكثير.
سوف أفتح المطار بالقوة:
قام المرشد العام بجولة في السعودية وسوريا ولبنان في شهر تموز/ يوليو 1954م، وكانت الأزمة بيننا وبين مجلس قيادة الثورة قد استفحلت؛ بسبب اعتراض الإخوان على معاهدة الجلاء بهذه الصورة، حتى إن المرشد العام كتب نقدا لهذه المعاهدة، ونشرته صحيفة بيروتية فقال:
1- كان من المفترض أن ينتهي أجل معاهدة 1936 بعد أقل من عامين، وإذ ذاك.. كان على بريطانيا أن تجلو عن القاعدة، وأن تتركها دون أساس قانوني يمكنها من العودة إليها فيما بعد. أما المعاهدة الجديدة، فتمنحها هذا الحق؛ باشتمالها على مادة تسمح بإعادة تشغيل القاعدة في حالة حدوث أي اعتداء على أي دولة عربية أو على تركيا.
2- المادة التي تسمح بإعادة تنشيط القاعدة في حالة الاعتداء على تركيا؛ تربط مصر والدول العربية بتركيا، وبالتالي تربطهم جميعا بالمعسكر الغربي.
3- الفقرة التي تسمح لبريطانيا بصيانة القواعد الجوية تمثل تهديدا لمصر، وهي على المدى الطويل أداة لدوام السيطرة.
4- المدنيون الذين ستناط بهم المساعدة في تشغيل المعدات؛ هم بطبيعة الحال شخصيات عسكرية في ثياب مدنية.
5- جددت الاتفاقية أجل معاهدة 1936 لفترة خمس سنوات أخرى، وسمحت بإجراء تشاور لمراجعة الموقف عند انتهاء فترة العمل بها، وهي نفس النوع من البنود التي تكفل في الواقع الاستمرار الدائم لمعاهدة 1936.
وقد طالب المرشد العام بأن أي اتفاقية بين مصر وحكومة أجنبية ينبغي أن تعرض على برلمان منتخب بإرادة حرة، يمثل إرادة الشعب المصري، وعلى صحافة متحررة من الرقابة، وتملك حرية المناقشة.
جلس الإخوان يفكرون: هل يعود المستشار الهضيبي أم يبقى في الخارج؟ لكن الجميع اتفقوا على عودته، فعاد في 22 آب/ أغسطس من نفس العام. وفي أثناء ذلك، نما إلى علم الإخوان أن المرشد العام مستهدف بالاغتيال، وفكر الإخوان بالذهاب للمطار، لكن لعدم الرغبة في الصدام مع النظام، اتفق الإخوان على انتظار المرشد العام في المركز العام، وكلفوني بالتوجه إلى المطار لاستقبال المستشار الهضيبي. وحينما اتجهت لمطار ألماظة (بصحبة الدكتور محمد خميس حميدة)، وجدت المطار قد تحول إلى ثكنة عسكرية من كثرة ما فيه من القوات، ووجدت أعدادا كبيرة من إخوان الأقاليم الذين لم يصلهم ما تم الاتفاق عليه من قادة الإخوان، وكنت قد أعددت سيارة غير سيارة المرشد، واستقبلناه، وركب السيارة بجوار الدكتور خميس، وركبت أنا في الأمام، لكنني فوجئت بمن يقول إن عربية المرشد العام هي التي ستخرج فقط من المطار، فوقفت وقلت: عربية المرشد العام ستكون آخر سيارة تخرج من المطار. فجاء مدير أمن القاهرة، أحمد صالح، وأخبرته بأنه قد تبقت دقيقتان، وإن لم يخرج الجميع، فأنا سأفتح البوابة بالقوة، ففتحوا البوابة، وقلت لجموع الإخوان: "لا تتوقفوا لأي سبب". حتى وصلنا إلى المركز العام، ووجدنا الأعداد الغفيرة في انتظارنا، وكان هذا هو السبب الرئيسي في الحكم عليّ بالإعدام، وليس ما قمت به نحو عبد المنعم عبد الرؤوف.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (16)
بداية رحلة طويلة:
تم القبض عليّ في 1 آب/ أغسطس 1954 قبل حادث المنشية، وكنت الوحيد في السجن الحربي من الإخوان. وخلال تلك الفترة وما بعدها، جربوا معي كل طرق التعذيب، حتى تورَّم جسدي من شدة التعذيب، وتحرك فيه الدود. وكانوا أثناء التعذيب يقولون لي: سواء اعترفت أم لم تعترف؛ إعدام. فكان هذا يزيدني إصرارا على احتقارهم من شدة التعذيب، وأقول في نفسي: سوف أقول لهم أي شيء حتى أنقذ نفسي من التعذيب. ومن ستر الله عليّ، أنه حينما كانت تأتيني فترة الضعف هذه؛ لا يطرق بابي أحد، فأظل حتى تنتهي، سواء بقيت عشر دقائق أو ربع الساعة.. فلا يطرق بابي أحد. وحينما أمتلئ بالإصرار والقوة، يأخذونني للتعذيب، فأقول لهم: اضربوا أيها الكلاب، وهذه حادثة لا أنساها.
وحادثة أخرى، أنني وأنا نائم في أحد الأيام، استيقظت على صوت غريب يوقظني ويقول لي: المعركة الكبرى يوم الخميس. وفي يوم الخميس كنت صائما، وكانت صحتي قد ساءت جدا من شدة التعذيب، من آب/ أغسطس حتى يوم 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1954.
ولا أنسى أبدا حين طلبوني في مأمورية خارج السجن، فارتديت ملابسي وارتديت المعطف؛ فالجو كان باردا جدا، وقد نحل جسمي، واشتد هزاله، وفوجئت بسيارة فخمة تنتظرني، وسيارة بوليس حربي أمامي، وسيارة بوليس حربي خلفي. ولم يأت في ذهني أنني ذاهب للتعذيب، بل ظننت أني سأذهب لأحد ممن أعرفهم، مثل جمال عبد الناصر مثلا أو عبد الحكيم عامر أو كمال حسين، فظننت أن أيا منهم يريدني في شيء.
دخلت إلى مجلس قيادة الثورة كما كنت أذهب من قبل، وفي الصالون الذي كنت أجلس فيه جلست، وكنت وأنا جالس أرى أشباحا وأسمع أصواتا مزعجة، وكنت يومها صائما كما ذكرت، وفجأة دخل عليّ على صبري، وهو يرتدي فانلة بدون أكمام، وشعره أشعث، وصلاح الشيشتاوي (ضابط البوليس الذي صار محافظ القاهرة فيما بعد)، وأنا أعرفهما جيدا.. وقالا لي: لا أحد يملأ عينك يا سي عاكف.. ولا أكتمك أني من شدة التعذيب كنت أحتقرهم تماما، سواء علي صبري، أو صلاح الشيشتاوي، أو صلاح نصر، وغيرهم. وقلت لهم: والله بالفعل لا أحد يملأ عيني. وكان يوما عصيبا، أخذوني في السلخانة (حجرة المداولة)، وخلعوا عني ملابسي، وأرادوا أن يخلعوا عني القطعة الداخلية السفلى لتظهر عورتي، فدفعتهم بيدي بقوة رغم أنني كنت ضعيفا، ولم أشعر بشيء بعد ذلك إلا وأنا في السجن الحربي. وكل ما أذكره عن سلخانة التعذيب أنني رأيت أحمد عيد، وهو ملقى تحت الدش، وعلي الفيومي منفوخا! ورأيت أحمد صالح داود، وكان من رجال أمن الدولة، يأخذني على نقالة ذاهبا بي للسجن الحربي.
ثم أذاعت الإذاعات العالمية أني قد قتلت، ولذلك كان الإخوان كلما أراد أحد منهم أن يخفي شيئا ولا يستطيع الإجابة؛ فيقول كل شيء عند عاكف.
فمثلا، كانت مسؤولية السيد عبد الله الريس عن توزيع السلاح قاصرة على بعض المناطق دون الأخرى، فذكر محمود الحواتكي، رئيس فصيلة الجيزة، أن المسؤول الأول والأخير عن السلاح والتدريب كان محمد مهدي عاكف، وأنه ضابط اتصال فني يتبع يوسف طلعت، وأن المفروض أن يكون الاتصال به وحده. كما ذكر أن الاتصال بالسيد الريس كان محظورا. وقال إن محمد مهدي عاكف كان يزور بعض الجماعات في الجيزة وفي أماكن أخرى، كما ذكر يحيى سعيد أن عبد المنعم عبد الرؤوف تولى التدريب أيضا في معسكر كرادسة قبل مهاجمته.
وقال إسماعيل عارف إن نظام الاتصال بين يوسف طلعت وإبراهيم الطيب، ورؤساء الفصائل، كان يتم عن طريق ضباط اتصال فنيين يتبعون يوسف طلعت رئيس الجهاز، ومنهم: إسماعيل عارف، ومهدي عاكف، وكان هناك ضباط اتصال إداريون منهم: محمد عبد المعز، وحسين شعبان، فوجدت نفسي أمام اتهامات لا حصر لها فأيقنت بالإعدام.
في أحضان يهود لافون:
كانت ذراعي وساقي مشلولتين، لا أستطيع أن أحركهما، وكان الذي يطعمني يهودي يدعى روبير (وكان بعض اليهود مسجونين معنا). وكان روبير يحضر لينظف الزنزانة، ويطعمني بسرعة ويسقيني بعض الماء، ويخرج مسرعا. وروبير هذا هو الذي أخذه اليهود مقابل خمسة آلاف مصري في عام 1967، وكان محكوما عليه بأشغال شاقة مؤبدة.
اعترف على الهضيبي:
مرت الأيام، ثم حملوني على النقالة، وذهبوا بي مرة أخرى، وتجمع علي الزبانية حتى أقول إن الأستاذ الهضيبي كان هو الذي يأمر بالقتل، فقلت لهم: قولوا عني كل ما تريدون، ولكن لن أقول شيئا على غيري، فهذا مستحيل، ولن تصلوا إليه. وقلت لهم، وأنا نائم، ويداي متدليتان: لو أن أحدكم رجل حقا، فليخرج المسدس، ويطلق عليّ الرصاص. فأخرج صلاح الشيشتاوي مسدسه ثم قال لي: لا، هذه الرصاصة خسارة فيك، ولكننا سنقضي عليك ببطء ونلقي بك في النيل. عند ذلك نادى عليهم شخص ما فتركوني وخرجوا مسرعين، وأنا لا أستطيع الحركة.
وجاء عسكري يرتدي زي البحرية، فنظر لي، وقال: سيدي محمد! وأنا لا أعرفه. وكنت أريد أن أشرب، فذهب وأحضر لي ماء وطعاما من طعامهم، إلا أنني لا أستطيع أن أمسك بشيء، فأخذني ذلك الجندي على صدره وأطعمني. وبعدها ظللت ملقى على النقالة حتى الساعة الحادية عشرة ليلا، فحملوني ونقلوني إلى السجن الحربي. ويبدو أنهم وجدوا أشخاصا آخرين يقولون (من شدة التعذيب) ما يريدونه على الأستاذ الهضيبي.
ذكر لي الأستاذ التلمساني في أحد الأيام، ونحن بالواحات، أنه تنامى إليه خلال تلك الأيام أنني كنت أعذب في السجن الحربي تعذيبا وحشيا، وأنه (الأستاذ التلمساني) كان بعد صلاة العصر في أحد الأيام في دكان الحاج محمد جودة، وتحدث إلى أحد الضباط الأحرار في هذه المسألة، ولعله السيد محمد عبد الرحمن نصير، ولكنه أقسم بصلاته وبالمصحف الذي كان يحمله؛ أن عاكفا لا يعذبه أحد في السجن الحربي، "وكدت (كما يقول الأستاذ التلمساني) أصدق، لولا ما رأيته من حال عاكف عندما اعتقلوني في السجن الحربي في آخر شباط/ فبراير 1954م. فقد كانت حالتي يرثى لها، ولكني حمدت الله أن الرجل لم يكن يبدو عليه أي مظهر من مظاهر الفزع أو الجزع".
أمام المحكمة:
تم القبض عليّ قبل حادث المنشية، لكني قُدمت إلى المحاكمة بعد حادث المنشية أمام الدائرة الأولى التي رأسها اللواء صلاح حتاتة.
ففي أول تشرين الثاني/ نوفمبر، أصدر مجلس الثورة قرارا بتشكيل محكمة مخصوصة، سميت بعد ذلك بمحكمة الشعب، وكان أمر تشكيلها بموجب المرسوم التالي:
تشكيل محكمة مخصوصة وإجراءاتها.. بعد الاطلاع على المادة 7 من الدستور المؤقت قرر مجلس قيادة الثورة:
إنشاء مكتب بمقر قيادة الثورة للتحقيق والادعاء، يلحق به نواب عسكريون وأعضاء من النيابة العامة، ويتولى رئاسته البكباشي أركان حرب زكريا محيي الدين، عضو مجلس قيادة الثورة، وعضوية كل من البكباشي محمد التابعي، نائب أحكام، والبكباشي إبراهيم سامي جاد الحق، نائب أحكام، والبكباشي سيد سيد جاد، نائب أحكام، والأستاذ عبد الرحمن صالح عضو النيابة، ويتولون التحقيق ورفع الدعوى بالادعاء بالجلسة، في الأفعال التي تختص هذه المحكمة بنظرها، ولهم حق الأمر بالقبض على المتهمين وحبسهم احتياطيا، ولا يجوز المعارضة في هذا الأمر.. وكان المحامي الموكل بالدفاع عني، لم يقرأ هذا القانون، حتى بعدما لبست البدلة الحمراء.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (17)
أنا شخصيا أرفض كلمة أي حزب يمثل الإخوان المسلمين، وأقول إن الإخوان "يئة إسلامية جامعة" وليست حزبا، والحزب جزء يخرج منها يحمل عبء جزء من منهجها.. وعندما تأزمت الأمور في المهنيين، وكان يشرف عليها د. عبد المنعم أبو الفتوح، طُلب مني أن أترك الطلاب وأشرف على المهنيين.( 17)
حكمت المحكمة حضوريا بالإعدام شنقا
ذهبت للسجن الحربي، وظللت فيه حتى ذهبنا للمحكمة. وكانت بالطبع محكمة هزلية، فلا يوجد في القاعة غير شابة صحفية ظلت تبكي، والمحامي الذي أرسله لي والدي - وكان محاميا مشهورا جدا - وظل يقول: يا قضاة الشعب، إن موكلي لا تهمة عليه إلا تهريب اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف، وهذه جنحة عقوبتها السجن ستة أشهر. فقال له رئيس المحكمة: ألم تقرأ القانون الجديد يا أستاذ؟ من يقوم بتهريب أحد من المطلوبين للعدالة يحكم عليه بالإعدام (مادة 2)، يطبق بأثر رجعي!! فجلس المحامي ولم يتكلم، وصدر الحكم بإعدامي شنقا، كما حكم على 11 آخرين من الإخوان بالإعدام، منهم سعد حجاج وعلي نويتو، وآخرين، وحصل عديد من الإخوان على حكم بالبراءة، لكنهم ظلوا في السجون، ولم يخرج منهم أحد.
بالبدلة الحمراء:
ذهبوا بنا إلى حجرة الإعدام، ولم يكن فيها شيء، حتى الجوارب أخذوها، وأخذوا كل ملابسي، حتى المناديل، ولم يكن مسموحا لنا بشيء إلا بشيكولاتة، وسرعان ما أعدموا الستة الأوائل رضي الله عنهم وأرضاهم. والإخوة الكرام الستة الذين تم إعدامهم في 8 كانون الأول/ ديسمبر سنة 1954م هم: الأستاذ عبد القادر عودة، والشيخ محمد فرغلي، والأستاذ يوسف طلعت، والأستاذ إبراهيم الطيب، والأستاذ هنداوي دوير، والأخ الفاضل محمود عبد اللطيف. وكنت أنا السابع، إلا أنني فوجئت وأنا داخل غرفة الإعدام بحمزة البسيوني يقول لي: تعال هناك مكالمة هاتفية لك، فخرجت، فوجدت علي صبري وصلاح الشيشتاوي جالسَيْن، وأعطاني الهاتف على المكتب، فوجدت محدثي هو مدير البوليس الحربي وكان اسمه أحمد أنور، وحدثته بشدة وعدم اكتراث؛ لأنه فعل بي الكثير بالإضافة أنني سأُعدم، فمم أخاف..؟!! وماذا سيفعلون بي بعد ذلك..؟!! فقال لي: كلم والدتك ستقول لك أخبارا سارة. ولأول مرة تنزل الدموع من عيني، ووجدت بالفعل والدتي معي على الخط، فقالت لي: ليس هناك إعدام يا محمد، وفلان وفلان وفلان قد حضروا وألغي الإعدام. وعلمت أنه بعد إعدام الستة الأوائل قلبت الدنيا رأسا على عقب، وحضر رئيس وزراء سوريا ورئيس وزراء باكستان وولي عهد السعودية، حضروا جميعا وألغى مجلس الثورة الإعدامات وحوَّلها إلى "تأبيدة". وأنا لم أصدق، وقلت لنفسي في البداية: ربما هذه هي زيارة الإعدام؛ لأن كل واحد له زيارة قبل إعدامه، وكنت أريد أن أستفز الاثنين اللذين كانا يقولان لي: سواء قلت أو لم تقل فهو إعدام. لكن بعد أن أنهيت المكالمة قالا لي: ما الأمر؟ فقلت لهما: ليس هناك إعدام. فوقفا مذهولين، وخرجت، وكان العنبر كله إعدامات، ومنهم صلاح شادي والشناوي وعلي نويتو وسعد حجاج وصلاح عبد المعطي، ومجموعة كبيرة.. فوقفت في العنبر وقلت لهم: يا إخوانا ليس هناك إعدام، وهذه هي الشيكولاتة. كنت أتحدث وقتها وأنا غير مطمئن، فكل ما هنالك أنه خبر أتى لي من والدتي.
وبالفعل، في اليوم التالي أحضر حمزة البسيوني الجريدة، وفيها في الصفحة الأولى إلغاء الإعدام. ونقلونا من عنبر الإعدام وألحقونا ببقية الإخوان. وفرح الإخوان فرحا شديدا، حيث خفَّف الخبر من صدمة إعدام ستة من خيرة الإخوان. ظللت غير مصدق نفسي أنني نجوت من الإعدام. وبعدها بحوالي عشرة أو 15 يوما ذهبوا بنا إلى ليمان طرة.
وخرجنا من الجحيم:
ليمان طرة.. سجن بناه الإنجليز عام 1886م كسجن على النظام الإنجليزي، بعد احتلالهم مصر بقليل، في ضاحية طرة الملاصقة للقاهرة على كورنيش النيل. وهو كان أكبر سجون مصر على الإطلاق حتى بداية التسعينيات من القرن العشرين.
ذهبنا إلى الليمان لنترك ذلك الجحيم الذي كنا نعيش فيه في السجن الحربي، وتم ترحيلنا إلى ليمان طرة يوم 16 كانون الأول/ ديسمبر 1954م، ولم يكن عددنا كبيرا في البداية، (حوالي 50 أو 60 أخا، ثم بعد ذلك أصبحنا 200). وفي البداية، كان يجول في أذهاننا أننا سنذهب لمكان غير مريح؛ لأن إخواننا كانوا من قبل في السجون مثل ليمان طرة وليمان أبو زعبل، وسمعنا منهم أهوال من الحياة القاسية هناك، ولكننا كنا نعتبرها على أية حال أهون من السجن الحربي الذي لا يوجد فيه قانون ولا نظام ولا أخلاق، فعلى الأقل هذا السجن له لوائح وقوانين.
في مدخل الليمان، جُردنا من ملابسنا العادية، وقدم لنا الضابط المختص بدلات سوداء من صنع السجن؛ كانت ممزقة لا تستر أكثر من عورة الإنسان. وكذلك أمر الضابط بخلع الأحذية، فدخلنا الليمان حفاة، ووزعنا في عنبر رقم واحد على زنازين متفرقة؟ كان حظي السعيد بوجودي مع فضيلة المرشد والأستاذ عبد العزيز عطية، وسعدت بخدمتهما، والقيام على معاونتهما، وهما في هذه السن المتقدمة. ومن أكرم المشاهد التي رأيتها في الليمان، هو استقبال النزلاء للإخوان استقبالا كريما، وقد قدم نزلاء الليمان إلى الإخوان وفضيلة المرشد أكسية جديدة، بدلا من ملابس السجن التي وزعت عليهم، وهي ممزقة ومهلهلة، وغير لائقة، فجزى الله هؤلاء النزلاء الكرام خير الجزاء.
مع أرباب المخدرات:
في الليمان فوجئنا بأنهم يحضرون لنا ملابس مهلهلة، ووضعوا في خصرنا وأرجلنا سلاسل من الحديد الثقيل، وأحكموا إغلاقها علينا، ثم صعدوا بنا إلى العنابر والزنازين، وكنا قد أعددنا أنفسنا لهذه الحياة القاسية.
كان الناس يسمعون الكثير عن الإخوان والمحاكمات من الجرائد، وكانت الجرائد تشيع عني كثيرا جدا، وفوجئت بأن أهل بلدي من الدقهلية من نزلاء الليمان (جنائيين) يقومون بعمل حفل كبير لي ويدعونني إليه. وأنا بالطبع لا أعلم شيئا، وكما يقولون عندنا "كاركيه".. وذهبنا لهذا الحفل. وقبل أن أدخله، أحضر لي بعض الأشخاص من بلدي بدلة فخمة جدا، وعلمت بعد ذلك أنها بثلاثين قرشا. وكسروا لي الحديد الثقيل الذي قيدت به، ووضعوا لي حديدا أستطيع أن أحله وأرتديه بمفردي.. وأصبحت عمدة بثلاثين قرشا وعمة كبيرة. وعندما ذهبت، وجدت كل ما يخطر على البال من الطعام في وقت لم نكن نأكل سوى الفول المسوس والعدس المليء بالحصى الذي لا يؤكل. وبعد أن تناولت الغداء، قاموا بعمل الجوزة، ورأيت الحشيش لأول مرة في حياتي وكدت أصاب بالدوار من رائحته، فخرجت مهرولا وأنا أقول: حشيش بعد الإعدام حشيش، فلم يقوموا بها مرة ثانية في وجودي.
مسؤول لليمان:
وفي ليمان طرة، بدأنا ننظم أنفسنا تنظيما دقيقا، وجاءنا المرشد بعد عدة أيام هو والأستاذ عبد العزيز عطية والدكتور كمال خليفة والأستاذ صالح أبو رقيق، وناداني الأستاذ الهضيبي وعينني مسؤولا عن الإخوان في الليمان، وقال لي: الأستاذ صالح صلة بينك وبين الإخوان في المكتب. ثم بعد شهر تقريبا، نقلوا الأستاذ الهضيبي والأستاذ عبد العزيز عطية من السجن؛ نظرا لكبر سنهما الذي تجاوز الستين سنة، فكان من المقرر ألا يبقى أحد تجاوز الستين سنة في الليمان.
نظمنا أنفسنا بصورة جيدة، وبدأنا نتعامل مع الحياة داخل الليمان بـ"أن كل شيء ممنوع".. السكر ممنوع، والشاي ممنوع، ودورات المياة مفتوحة على بعضها، وفي منتهى القذارة. فبدأنا نتعامل مع الواقع ونحافظ على أنفسنا، ونتعامل مع التجار الذين يحضرون لنا الشاي والسكر. وكان الطعام رديئا وسيئا للغاية، فكان الفول مثلا نقول عليه سوس بالفول، وليس فول بالسوس، والعدس رائحته كريهة، والخضار.. وكنا نقوم بإعداد أهم الأصناف حتى تكون صالحة نوعا ما لتناولها، فكان شيئا فوق التصور، ولكننا تعاملنا معه، وعشنا بجانب بعضنا حياة طيبة ومنظمة. والإخوان كانوا على درجة عالية من الرجولة والصبر، حتى فوجئت بنقلنا من الليمان إلى الواحات.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (18)
أخر أيام الليمان
في الليمان؛ خرجوا بنا للجبل، وكنا نسير حوالي كيلومترين من الليمان حتى الجبل والحديد في أرجلنا. وكنا مقسمين إلى فرق، وكل فرقة فيها حوالي 10 أو 15 أخا، وعدد الفرق بين الأربعين والخمسين. وكان على كل فرقة أن تقوم بتحميل عربة قطار من الحجارة. وبالطبع نحن لم نكن نستطيع تكسير حجر ولا حمله، ولكن لأننا كنا منتشرين بين الفرق، فلم تكن هناك مشكلة؛ حيث كانت كل مجموعة متفاهمة مع فرقتها، وكان المسجونون القدامى ماهرين في وضع الحجارة، بحيث تبدو عربة القطار ممتلئة بسرعة. وعلى الرغم من كل شيء فقد كانت فترة الجبل فترة طيبة، فكنا نتعبد فيها مع أننا نعمل في الشمس. وفي نهاية النهار نعود، ولا يشعر بنا أحد، ولا يقوم أحد بعمل مشاكل.
وكنت مسؤول الجبل للإخوان، وليس لكل الجبل، فرئيس الجبل من المساجين الذين كانت كلمتهم ماضية عند المأمور، فلا بد أن يكون رجلا مر عليه 15 عاما في الليمان. ولكن كنت أنا رئيس الجبل لمئتين من الإخوان الموجودين، وكان لي عِمّة كبيرة ومكانة بين المسجونين. وذات مرة أحب رئيس الجبل الكبير أن يسيطر على الإخوان، فقال: ممنوع النظارات، ممنوع الصلاة، وذلك لأن الإخوان كانوا يرتدون النظارات الشمسية، حيث أن تراب الجبل شديد السوء على العيون، وفي وقت الظهر نقيم الصلاة ونصلي. فعندما قال ذلك أمسكت به ودفعته للحائط بقوة - وكان هو أطول مني ولكني أقوى منه- وقلت له: اسمع، إن سمعت صوتك تذكر الإخوان بعد ذلك سأدفنك هنا، وحضر الناس ليخلصونا. وبعد ذلك خافوا لأنني كنت قويّا وصوتي جهوري، وحضروا مساء في الليمان ليعتذروا لنا، وحضر هذا الرجل واعتذر لي، وسارت الأمور على ما يرام.
كان أغلب الإخوان في فرقة تكسير الحجارة؛ مقيدين بحبل. وكانوا يقومون بمهمة تكسير الحجر خير قيام، وكان بعضهم يرتل القرآن، والبعض الآخر ينشد الأناشيد الحماسية، استعلاء على الصعاب، واستهانة بهذه الأعمال الشاقة، فكانوا موضع التقدير والاحترام من النزلاء، ومن بعض الموظفين بالسجن.
ومما هو جدير بالذكر؛ أنني كنت أشترك مع النزلاء في لعبة العصي (التحطيب). وكنت أضع على رأسي عمامة كبيرة كرجال الصعيد، وقد رآني فضيلة المرشد وأنا في هذه الحلقة أتحرك يمينا وشمالا معتزا بهذه اللعبة التي لا يزاولها إلا الشجعان من الرجال، فما كان من فضيلة المرشد - رحمه الله - إلا أن طلب مني إحضار عمامة كبيرة تشبها بنزلاء السجن، وقد امتثلت لرغبته، وأخذ العمامة ووضعها على رأسه بطريقة خاصة؛ كشفت عن حقيقته رجلا مكافحا صلبا يهزأ بالأحداث مهما كان ثقلها، ويلين بالحق في سبيل الحق. وهكذا كانت هذه الفترة الأولى في حياة السجون.
وأذكر أن إدارة السجن قيدت الإخوان بقيد من حديد يُربط طرفه بوسط الجسم، ويوضع طرفه الآخر في الأرجل، وذلك حتى لا يستطيع الأخ الجري أو الهرب. وهذا تقليد قديم يتبع مع عتاة المسجونين، وأكابر المجرمين. أما الآن فقد صار ليمان طرة ليس مجرد سجن فقط، ولكنه صار منطقة سجون فيها عدة سجون مثل الليمان نفسه، وسجن مزرعة طرة، وملحق مزرعة طرة، وسجن المحكوم.. كلها عاش فيها الإخوان ونزلوا ضيوفا عليها.. "فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ" (آل عمران: 146).
رحلة إلى الواحات:
عاش الإخوان المحكوم عليهم ستة شهور في ليمان طرة؛ يقطعون الحجارة في الجبل، وهي منطقة جبال مليئة بخام الحجر الجيري الذي يستخدم في صناعة الأسمنت، حيث تنتشر في هذه المنطقة مصانع الأسمنت مثل مصنع أسمنت طرة، ومصنع أسمنت حلوان.
ثم فوجئت الحكومة بأن صحة المرشد الثاني، حسن الهضيبي، قد تدهورت، فأصدرت قرارا بحبسه في منزله في منطقة الروضة بالقاهرة، وتم ترحيل عدد من قيادات الإخوان إلى سجن الواحات الخارجة. وكان عدد الذين تم ترحيلهم حوالي 350، وتم أيضا ترحيل بعض عتاة المجرمين المتهمين في قضايا القتل. وإلى جانب هؤلاء، كان هناك بعض من الشيوعيين، وكانت الحكومة قد اعتقلت أغلب قياداتهم منذ عام 1958 عندما رفضوا أن يسيروا في ركب الثورة.
في يوم 5 رمضان (أيار/ مايو) 1955م، فوجئنا بترحيل مائة أخ إلى الواحات، وكان كلهم من الأسماء الكبيرة، وكنت واحدا منهم، وكنا قد سبقنا مجموعة الـ350 الذين جاؤوا من بعدنا. وكانت رحلة قاسية جدا، فقد ظللنا 24 ساعة في القطار، ثم عند بلد تسمى "المواصلة" عند قنا؛ انتقلنا لقطار آخر في غاية السوء، ليصل بنا إلى الواحات. ولكي نسرِّي عن أنفسنا، كنا نقضي الوقت في هتافات مدوية. ومن الطريف أن المأمور الذي كان مكلفا بتوصيلنا، واسمه الحلواني، أحضر العساكر، فكنا نهتف من جانب وهم يهتفون من الجانب الآخر!
وفي الليلة الأولى التي قضيناها في هذا السجن، أصدر مأمور السجن أمرا بتقييد الإخوان بالسلاسل الحديدية، وربط كل مجموعة بعمود الخيمة، حتى لا يستطيع أحد من الإخوان التحرك أو الهرب. لكن الإخوان رفضوا ذلك الأمر، وقرروا الوقوف ضد تنفيذه مهما كلفهم الأمر. ولما تلبد جو السجن بالتمرد على إدارته، اتصل مأمور السجن بمحافظ الواحات الخارجة، وأخبره بالوضع، فرد عليه المحافظ وقال: لا داعي لهذا الإجراء، فإن الإخوان في مكان ناء بعيد عن الوادي والعمران، فهم في صحراء شاسعة، ولو هرب أحدهم فلن يستطيع أن يهتدي لأي مكان. وقال مأمور السجن إنها أوامر صدرت إليه من وزارة الداخلية، فاتصل المحافظ بوزير الداخلية زكريا محيي الدين، وطمأنه بأنه مسؤول شخصيا عن وقوع أي حادث هروب. وانتهت المشكلة عند هذا الحد، وبعد ذلك قامت إدارة السجن بتنسيق مرافق السجن والخيام، بمعاونة الإخوان والنزلاء الآخرين.
وفي الواحات، وضعونا في مكان واسع جدا في صحراء لا ماء فيها ولا شجر.. ليس هناك إلا بعض الخيام الملقاة على الأرض. وكنا في رمضان، ولكن الإخوان كانوا بواسل بالفعل. ولا أنسى الدكتور حسين كمال الدين، والأخ عبد السميع عفيفي، والحاج محمد الشناوي، ومحمود بكري، حيث بذلوا جهدا ضخما جدا، حتى نصبنا الخيام لمئة من الإخوان. وكانت أكبر المشاكل هناك هي مشكلة المياة، فلكي نحضر ماء الشرب، كنا نسير مسافة كيلومترين لنملأ من عين تخرج من الأرض. وعشنا حياة قاسية جدا لمدة ستة أشهر، كدنا فيها أن نهلك، وتشققت شفاهنا، فما رأينا خضرة.. لكن صبرنا، وظللنا نعمل ونستغل كل شيء في هذا السجن من أجل الحياة. وكنا نتناوب السير للوصول للبئر لجلب الماء، فكانت الحياة في بدايتها صعبة جدا؛ فجاست في النفوس الآلام، وتذكر البعض الأهل والأولاد، فكانت محنة علينا أخرى. وزاد الأمر مجموعة الشيوعيين الذين كانوا معنا في السجن، حيث كانت مشكلة المياة تمثل أكبر المشاكل، حتى قام أحد الإخوة بعمل مفاجئ.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (19)
اخترعنا مضخة ماء
كان الماء يشكل مشكلة كبيرة لنا، وبدأنا في التغلب عليها، حيث كنا نذهب صفوفا بيدنا الأواني لملئها من العين مباشرة. ثم، بالتفاهم مع إدارة السجن، أمكن تدبير عدد من البراميل لملئها ودحرجتها من العين حتى الخيام. ثم تطور الأمر حتى وصلنا إلى عربة الماء التي تمر على الخيام كل صباح، ويدرس الإخوة المهندسون مشروع مد أنابيب من العين حتى السجن، ثم رفع المياه بالمضخة في صهريج، يعمل على توزيع المياة على كل خيمة عن طريق الحنفيات.
وقام أخ يسمى أحمد خضر (وكان سمكريا أو سباكا من العباسية وكان فتوة)، بالتعامل مع الأرض وزرعها، فأنتجت إنتاجا ما كنا نتخيله. وفي مدة قليلة، تحول المعسكر إلى جنة. وكانت مجموعة عناصر من الأشغال العسكرية أصدقاء لنا، فمدوا لنا مواسير مياة من العين إلى داخل المعسكر، ووضعوا لنا خزانا كبيرا، فنظل طوال اليوم نسحب من المياه ونضع في الخزان، وكل خيمة لها ربع الساعة تملأ المياة.
ومن عظمة تنظيم المعسكر وانتظام الإخوان والتزامهم، أنتجت الأرض إنتاجا؛ إذا حدثتك عنه تتعجب من قدرة الله، وأصبح عندنا ما لا يخطر على بالك من أنواع الخضراوات.
ولم نكن ننسى الإخوان الذين لم ينالوا حظا من التعليم، فكان الشيخ عبد الحميد البرديني - رحمه الله رحمة واسعة - بعد الفجر؛ يدرس للجماعة الأميين الذين يريدون الحصول على الابتدائية، وكانت خيمتي بجانب الجامع. وأذكر دائما هذه الجملة وهو يرددها: الحال دائما منصوبة، الحال دائما منصوبة!
وبدأت الحياة:
عملنا ملاعب رياضية: كرة قدم وتنس وجمباز وسلة وطائرة، وحولنا المعسكر بالفعل إلى جنة، وقسمنا الإخوان على ثلاثة أندية وهي: نادي النصر ونادي الفتح ونادي الجهاد، وعملنا اتحادا عاما. ولأول مرة كنت أشاهد انتخابات الأندية حتى نختار مجلس إدارة ونختار ممثلي النادي ورئيسهم.، وتم انتخابي رئيسا للاتحاد، وكان الأخ صلاح العطار ( وهو مهندس كبير لم أره منذ أن رحل من السجن) رئيس أحد الأندية، وكذلك صلاح شادي ومصطفى مشهور، وكان شيئا غاية في النظام والإتقان.
ومما أتذكره أيضا أنه في شهر أيار/ مايو سنة 1956، أحضروا لنا عددا من الخيام الجديدة، فكانت متنفسا للجميع، حيث زادت من حجم المعسكر. وانتقلت، وسكنت في "هايك" مع إخوة كرام، هم: عبد الحليم خفاجي، محمد سعيد المهدي، محمود زينهم، صلاح إمام.. واجتهدت في تجميل "الهايك" بالزراعة من حوله، وبتزيينه للحمام، وبحفر سراديب الأرانب.. وتبارى الجميع في تجميل هذا الحي السكني الجديد.
وذات مرة، اصطاد الأخ عبد القادر حميدة فنكين حيين، وصنع لهما بيتا يؤويهما، وكنا جميعا نذهب لهذا البيت وننظر إليهما ونطعمهما، وكانا في أدب جم ويجلسان القرفصاء، ونلقي إليهما اللحوم ونؤثرهما على أنفسنا.
وذات يوم نسي باب القفص مفتوحا، فحفرا لنفسيهما سردابا تحت الجدار، وهربا منه في الليل إلى الصحراء الواسعة.. وجن جنون عبد القادر بعد أن تبخرت أحلامه، وتهدد مركزه لدى الإدارة، ولامه المأمور والضباط. ونقصت مقرراته من اللبن واللحم، وأحدث الخبر هزة كبيرة في السجن، وتعليقات لاذعة من إخوانه؛ أقعدته داخل الزنزانة، ولم يجرؤ على السير في أرجاء السجن.. وانتهز الإخوان الفرصة، وذهبوا بعد عودتهم من الجبل؛ يعزونه في مصابه، وبعضهم علق شارة السواد على صدره، إمعانا في المزاح. واكتظت زنزانته بالإخوان، وعلى رأسهم القيثارة البشرية سعد سرور وأحمد حسين، والمجموعة معهما تردد أغنية...
هـاتي الدمـــوع يا عـين... وأبـكي عـلـي الفـنـكيـن
بعــد التـعـب مــا طال.. طاروا فـي غـمـضـة عين
ومن طرائف ما جرى، أنه أهدى ذات يوم بومة محنطة للمأمور التركي ضياء ليزين مكتبه.. وما أن خرج عبد القادر من المكتب، حتى أصيب المأمور بمغص كلوي حاد.. ولما تجمع الضباط والسجانة حوله، أمرهم بإحضار عبد القادر فورا.. فأخذوه إليه وهو منزعج، ولما دخل عليه قال له:
انزع هذه البومة فورا، واخرج من أمامي.. ألم أقل لك إنها تجلب الخراب.
فقال: يا سيادة المأمور... هذه اعتقادات باطلة، وأنت رجل متعلم... إنها مجرد طائر مثل بقية الطيور، والتشاؤم ليس من الإسلام.. وأنا أملك شخصيا بومتين في بيتي.. فضحك المأمور قائلا:
وهذا سر خراب بيتك ودخولك السجن.. فأسقط في يد عبد القادر، ولم يجد جوابا وضحكوا جميعا.
تنظيم الحياة:
لم نكن وحدنا في سجن الواحات الخارجة. فبعد أن ذهبنا إلى هناك بشهر أو شهرين، أتى نحو 50 فردا من الشيوعيين، وكانوا زعماء الشيوعيين من الأحزاب. وكنت أعرفهم جميعا، وكنت مسؤولا عن الإخوان وقتها، فكانوا إذا أرادوا شيئا يذهبون للأستاذ صالح أبو رقيق فيقول لهم: اذهبوا لعاكف، فيقولون: لا لا، إنه يكرهنا.
وكان سجناء الإخوان مسؤولين عن طهي الطعام والخبز، وكنت مسؤولا عن فرقة العجين التي تحتاج شبابا أقوياء، فكنا نستيقظ في الثالثة صباحا لنعجن. وكان التموين في السجن ثلاثة أجولة من الدقيق، فكنا نعجن جوالين تقريبا ونترك لهم جوالا، فكانوا دائما في نوبة العمل يخرجون شريف حتاتة، فكنت إذا رأيته أخرج أقف حتى يراني، وإذا رآني لا يتكلم بكلمة واحدة، فلو تركناه يتكلم لظل يتكلم عن نظرياتهم الفارغة وما سكت.. وبعد أن ننتهي العجين نستحم حفاظا على نظافتنا، مهما كانت الظروف، فكنا نستحم أحيانا بمياه مثلجة ودرجة الحرارة صفر، ونجد البراميل التي استخدمناها متجمدة في الصباح.
هجوم مضاد:
في هذا الجو الذي كنا نعيشه، ونحاول أن نتغلب على ما يجول في خواطرنا من تعب وحبس.. حتى قمنا ذات صباح فزعين على هجمة شرسة من قبل إدارة السجن، وكان على رأسها المأمور حيث بدأت النداءات تأمرنا بالخروج مسرعين إلى الفناء.
وقفنا جميعنا في انتظار قرارات المأمور الطاغية الذي أُسمعنا من قصص طغيانه ما يشيب لها الولدان.. وما هي إلا دقائق كأنها الدهر؛ حتى خرج علينا يتهاوى، وكانت عيناه جاحظتين، وكانت أبصارنا شاخصة إليه منتظرين كلمته.. ثم نطق فقال: "لقد قررت الدولة أن تستفيد من عضلاتكم لأنها يئست من صلابة عقولكم، وستقومون بشق الترع والمصارف إلى ما شاء الله حتى تستجيبوا لما نطلبه منكم"..
خيم صمت رهيب في أعقاب هذه الكلمات الحاسمة؛ لأننا أدركنا منها، بحسنا المتمرس على فهم أساليب الطغيان، شيئا أعمق من السخرة في العمل، مثلما حدث مع إخوة لنا في سجون أخرى، حيث أدركنا أنها مذبحة جديدة والاتهام الجاهز "تمرد استدعى الأمن قمعه". وأمام المصير المجهول، يكسو الوجوه ملامح الإصرار والعزم، ويشع من العيون بريق، وتقترب القلوب من الله أكثر من أي وقت مضى، ويزداد الحب والثقة بيننا، وهكذا كنا دائما في مثل هذه المواقف..
توالت النداءات الغليظة بعد توزيع أدوات العمل من فؤوس و"وكريكات" ومقاطف، وخرج طابور من البوابة الشمالية في اتجاه الصحراء الغربية، يتكون من مئتين أو يزيد من شباب الإخوان، كلهم في العقد الثالث إلا قليلا ممن هم في حكم الآباء، وكان يشاركنا هذا العمل عدد كبير من الشيوعيين. وأمام الجميع أعداد من الجنود المسلحين والحراس المدججين بالسلاح.
خرج هذا الطابور من أبواب ضخمة بعدما أشرقت الشمس بأشعتها الملتهبة، وكان معظمنا حافي القدمين.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (20)
مراحل التعذيب:
وجدنا كل شيء معدا لاستقبالنا، وذلك في جوف الصحراء في مكان مخصص للعمل. وتوقف الطابور، إلى أن تمت مراسيم توزيع العمل علينا وعلى الشيوعيين، مشفوعة بالتهديدات اللازمة إذا حدث أي تقصير في تسليم المقطوعيات المطلوبة، مقرونة بأقسى التشديدات العسكرية على الحراس ليراقبوا التنفيذ بدقة، وليمتنعوا تماما عن الحديث مع أي مسجون أو معتقل خشية أن نستميلهم لجانبنا.. وانتشر الحراس المسلحون في دائرة كبيرة حول منطقة العمل على المرتفعات الجبلية المحيطة بالموقع، ونصبت المدافع المصوبة نحونا.. لكل من تسول له نفسه الشروع في الهرب أو التفكير في التمرد.. وكان هناك تنبيه لنا وللشيوعيين معا بعدم الاختلاط ببعضنا وإلا حاق بنا أشد العقاب!!
مباراة الإخوان مع سلاح المهندسين:
سارت الحياة كالمعتاد بعد تلك المواقف القوية.. ولم يطرأ أي تغيير على برنامجنا اليومي من الجبل وإليه.. ومن تفتيش إلى تفتيش.. حتى ألفنا جو التكدير، وتمرسنا على مواجهة كل موقف صعب. لكن المأمور كيف ينام ويرتاح ويتركنا ننعم بحياتنا، فقد كانت هوايته المفضلة هي تكديرنا؛ لأنها مسألة كرامة لإدارة السجن بصفة عامة وللمأمور بصفة خاصة.. هذا ما أكده لنا المأمور فور عودتنا من الجبل معفرين بتراب الطريق، عندما جمعنا خارج الزنازين بحضور ضباط الإدارة. يومها تقاذفتنا الظنون في سبب هذا الجمع الطارئ، هل لأننا قصرنا في المقطوعيات فينوي أن يفتك بنا؟ واحتبست أنفاسنا عندما بدأ يتكلم بحساب:
"ستلعبون بعد ساعة مع فريق كرة القدم لسلاح المهندسين بالوادي الجديد.. استعدوا لأسوأ معاملة إذا انهزمتم، وإذا انتصرتم فستفتح الأبواب ويزداد العمل مع المقصف؛ لأنها مسألة كرامة في الدرجة الأولى لإدارة السجن ولي بصفة خاصة".
وانصرف على الفور بعد هذه الكلمات المعدودات. ووسط الاندهاش والتعجب، تكوّن الفريق، ولم يتدرب يوما واحدا منذ أكثر من سنتين غير التعب من العمل في الصحراء، وبذلت كل جهدي في توجيه الفريق إلى خطة اللعب. ووقف بعض الإخوة بدورهم يحملون الفريق توصياتهم بأن يستشهدوا في أرض الملعب. وتقدم الفريق إلى الملعب والإخوان وراءه صفان يتبعهم حراس السجن ،حيث جلسوا في الجهة المقابلة للمنصة التي يجلس عليها المأمور وضباط السجن وضباط سلاح المهندسين، محاطين بجنود الجيش، ومعهم المشجعون، وبأيديهم الطبل والمزامير. ولم يلبث حراس السجن أن أحضروا طابور الشيوعيين المسجونين، حيث جلسوا قريبا منا. وبدأت المباراة حامية ومثيرة، فإذا ما أحرز فريق السجن هدفا أو أدى لعبة فنية، التفت الرقيب الأول إلى الإخوة في المدرجات، وأمرهم قائلا: صفقوا... فيصفقون بشدة... إلى أن يلتفت ثانية ويقول: توقفوا... فيتوقفون...
قدت الفريق أمام فريق سلاح المهندسين، لكن حدثت أشياء ذكرها لي الأخ عبد الحليم خفاجي، حيث ذكر لي أنه "لطرافة الموقف، التزمنا، أو ألزمنا مشاعرنا، بتعليمات الرقيب في ذلك.. فإذا ما غلبتنا المشاعر عرجنا عليه قائلين: أنصفق هنا يا حضرة الصول؟ فلا يلتفت إلينا، ويكتفي بقوله: نعم صفقوا... فتنهمر أكفنا بالتصفيق وسط الضحكات كالإعصار، فإذا ما قال: توقفوا، سكنت العاصفة مرة واحدة".
وكانت النتيجة لصالح فريق السجن بثلاثة أهداف لهدف واحد لسلاح المهندسين... فانتشي المأمور والضباط، وبرَّ (المأمور) بوعده معنا لعدة أيام متتالية، قبل أن يعمد الحقد الأصفر - أي عبد العال سلومة - إلى إعادة الحياة في السجن إلى سيرتها الأولى.
مذبحة الواحات:
في أحد الأيام، فوجئنا بحملة يقودها اللواء إسماعيل همت، وكيل مصلحة السجون وصاحب الصيت الذائع في البطش والإرهاب.. حيث أخذت التجريدة (الكتيبة المسلحة) موقعها حول سور السجن.. حفرت الخنادق، وأقامت السواتر والإدارة أصبحت محمومة.. والكل يترقب وصول اللواء إسماعيل همت بنفسه على رأس أفراد الكتيبة، لتبدأ الأحداث الدامية.. فكل شيء حولنا يوحي باقتراب الكارثة. وكان هذا حال وشعور جميع الإخوان.
حضر ومعه أربعون من الكتيبة فارهي الأجسام، ومع كل واحد منهم رشاش صغير، وكلما التفت لليمين أو لليسار يعزف له البروجي فيذهب الجناحان للجهة التي التفت إليها.
جلسنا نترقب، فإذا بنا نسمع فجأة صريخا عاليا "بروجي"... ماذا حدث؟ كان لضابط المعسكر "هايك" صغيرة، وهي خيمة انفرادي في الخارج، وكان نصفها في الأرض لتكون رطبة من فوق، ووجدنا شيخ الوعظ في مصلحة السجون قد دخل علينا، وكان زميل الشيخ أحمد شريت، فقصَّ للشيخ شريت - عليه رحمة الله – كل شيء، وأن إسماعيل همت يبيّت نوايا خبيثة للإخوان، وأنه سيترك الشيوعيين والآخرين، ويضرب الرصاص على الخيام الموجود فيها الإخوان، فمن يمت يأخذه على السلك، ويقول كان يحاول الهرب. وكان مدير الوعظ بالسجون طوال الطريق يقول له: اتق الله هذا حرام، لا تفعل ذلك، فلم يرعوِ ولم يتأثر.. وقدر الله نازل، ولا بد أن يصل للواحات، ولكن الله غالب على أمره. وعندما وصل، فاجأه مغص كلوي، فظل يتقلب في الأرض ويصرخ، فانشغلوا به، وصرف الله عنّا هذا الطاغية.
علمنا بالمذبحة التي حدثت في ليمان طره، أول حزيران/ يونيو 1957م، وعلمنا أن عبد الناصر أراد تكرارها في سجن قنا والمحاريق، وكان يريدون تكرار مذبحة طره ضدنا.. وأذكر أن اسماعيل همت أخرج منا مرة - قبل أن يداهمه المرض - حوالي ستة أفراد، منهم الأستاذ عمر التلمساني والأستاذ صلاح شادي وأنا والعدوي، وأجلسنا أمامه على الأرض جلسة القرفصاء، كما هي عادة السجون، وجاء بالعساكر حولنا مدججين بالسلاح وقال لنا: لا بد أن تكتبوا تأييدا لعبد الناصر، وإن لم تكتبوا هذا التأييد سأفرغ فيكم الرصاص! فنهض الأستاذ عمر التلمساني واقفا، وقال: تقطع يدي ولا أكتب لعبد الناصر. فبهت الرجل، وتركنا ورحل بعد أن ظننا أنه سيقتلنا، لكنه خرج بمرض ونجانا الله.
في يوم من الأيام، هجمت علينا تجريدة، ونادوا علينا أن نخرج بسرعة من الزنازين بكل أمتعتنا. وما هي إلا دقائق حتى كنا جميعا في الفناء، بعد أن أخليت الزنازين تماما، وتركناها خاوية على عروشها.
استطعنا - رغم العجلة - أن نتبين الوجوه والرتب التي جردت لهذه المهمة "الوطنية" الكبرى.. وكان من بينهم العقيد البشلاوى وغيره من الضباط المزودين بالسلاح، فضلا عن رجال الشرطة العسكرية المدججين بالمدافع الصغيرة والبنادق بكاباتهم الحمراء.
لم تكن الخطورة في كل هؤلاء.. بل كانت تكمن في أقل الزوار رتبة وأكثرهم نفوذا، وهو الرائد محمود خليل، أركان حرب مصلحة السجون. ومعنى ذلك أنه على صلة مباشرة برجال الثورة، وله كلمة عليا نافذة على كل الرتب في المصلحة، حتى أن جبار المصلحة (اللواء إسماعيل همت) المشهور بإجرامه، وبطل مذبحة طرة، كان يسير في ركابه ويتلقى الأوامر منه!
أمرنا أن نتخلص على الفور من كل الملابس المدنية، ومن كل الأمتعة، وتسليم كل ما معنا، ونقف صفوفا بملابسنا الداخلية.
وحدث العدوان الثلاثي على مصر، وطلبنا من عبد العال سلومة في هذا الوقت الخروج لمحاربة المعتدين، لكنهم رفضوا، وبدأت تظهر همسات البعض لتأييد عبد الناصر، وأشعلها الضابط سلومة.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (21)
فتنة التأييد:
أثناء العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، كان من أبرز الأحداث التي وقعت في السجن أثناء الحرب؛ طرح فكرة تأييد عبد الناصر. وبدأت هذه الفكرة عندما تقدم بعض الضباط الإخوان المسجونين بعرض عن استعدادهم للقتال في صفوف الجيش المصري عند الاعتداء الثلاثي على مصر. وأخذت المباحث العامة من هذا العرض فرصة لتأييد عبد الناصر، فرسمت وخططت لها، وأخذت تضغط بشدة على أسر الإخوان في السجن وخارجه، بالوعود المعسولة تارة، وبالتهديد والاعتداء والتجويع والاعتقال والتعذيب، تارة أخرى.
وهكذا عاشت الأسر في رعب وخوف، وأفهمها ضباط المباحث أنه لا إنقاذ لكم من هذه الحالة إلا بالرجوع إلى أبنائكم في السجون وإلزامهم بضرورة تأييد الرئيس. وكان أهالي الإخوان يقولون لهم عند زيارتهم في حسرة وبكاء: البيوت خربت.. والأبناء تشردت.. والأعراض هددت، فارحمونا يرحمكم الله.. ولكن كان كثير من الإخوان قد رفضوا هذه الوسيلة الحقيرة في سبيل الإفراج عنهم. وكانت تتكرر هذه الضغوط من ضباط المباحث مرة تلو الأخرى على أسر الإخوان، وبالتهديد المخيف، واستعمال أساليب البطش والتنكيل بهم.. حتى أجبروا زوجات بعض من الإخوان على طلب الطلاق من أزواجهن. وازداد هذا البلاء، وعظمت المصيبة على الإخوان، فاضطر بعضهم إلى مجاراة ضباط المباحث، وكتبوا تأييدا رغما عنهم. وأما معظم الإخوان، فقد صبروا وصابروا ورابطوا في سبيل دعوتهم، وتحملوا صنوف الضغط والإرهاب في السجون وخارجها، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، وظلوا يتحدون الظالم في ثبات لا يعادله إلا ثبات الجبال الراسيات.
عندما حدث هذا الانقسام في سجن الواحات، انتقل المؤيدون إلى خيمٍ أخرى. ورفضت قيادات الإخوان ذلك، وأدركت أن هذه كلمة حق أُريد بها باطل، وكان منها الأساتذة: عمر التلمساني ومحمد حامد أبو النصر ومصطفى مشهور وأحمد حسنين ونصر جاد وعثمان صديق وآل شريت، ومجموعة أخرى كان عددهم يقترب من السبعين؛ تحملوا ما لم يتحمله بشر، وقضوا مدةَ السجن كاملة. وأراد الله أن يتمسَّك هؤلاء الرجال بمواقفهم ولا يتمسكوا برأي الخصوم، حتى جاءتنا الأوامر من الإخوان بأن نستعد للتضييق ولحياة أصعب، ووصلت عربات اللوري بعد منتصف الليل، وأخذت تنقلنا، وبدأت تشق عباب الصحراء متجهة بنا إلى المحاريق.
"ع المحاريق":
ونحن في سجن الواحات، فوجئنا في أحد الأيام (بعد حادث طرة الذي قتل فيه الإخوان وبعد مغادرة إسماعيل همت وهو يجر ذيل الخيبة) بأنهم ينقلوننا إلى سجن المحاريق في الواحات أيضا، وهو سجن مغلق، لكن عندما جاءت السيارات لنقل الإخوان إليه، تفجرت قريحه الأخ سعد سرور، فأبدع زجلا روّح به على إخوانه، فأخذوا ينشدونه أثناء ركوب السيارات وتوجههم إلى المحاريق. فكان مما قال:
ع المحاريق ع المحاريق... ربك بكره يفك الضيق
والله رجعنا للزنازين... أوعى تكون مهموم وحزين
شد العزم وقول يا معين... لف النمرة وياللا قوام
وأتقل واصبر ع الأيام.. وأبقى في وقت الحق جريء
كانت مأساة كبيرة جدا؛ لأنهم حرمونا من كل هذا الخير، فقد كنا نعيش "ملكي"، أما في سجن المحاريق، فكان سجنا مغلقا تماما، ويضعون في الزنزانة 25 أو 30 أخا، على الرغم من أنها لا تحتمل أكثر من عشرة. وجعلونا نرتدي زي السجن بمفرده دون أي ملابس أخرى تحته، ومنعوا عنا كل شيء.
فأنشد لنا الأخ سعد سرور:
محلاها والله الزنزانة... مزنوقة ولكن سايعانا
والقعدة فيها عجبانا... وقلوبنا سعيدة وفرحانة
النومة عل الأبراش حلوه... وبقينا مع الله في خلوة
وكتاب الله أجمل سلوى... وآياته تنور دنيانا
حديث شرس مع ضابط:
وأتذكر أيضاً أنني فوجئت في يوم من الأيام بعبد العال سلومة، وهو من ضباط السجن، ورجل من المخابرات؛ يرسلان إليَّ، وظل الإخوان ينظرون من النافذة ماذا سيحدث. وذهبت إلى المكتب، وقلت في نفسي إنني مضروب مضروب فآخذ حقي. ووقف أمامي أحد الإخوان الكرام رحمه الله، وكان قد انهار وأيد عبد الناصر من شدة التعذيب. ثم قال سلومة: إن فلانا هذا يقول إن عندك سلاحا.. فقلت له: وهل أنكر أن عندي سلاحا؟ وهل كنت أحارب اليهود والإنجليز ببيض وطماطم، أم كنت أحاربهم بسلاح؟! والذي يقف أمامك هذا كثيرا ما حمل على كتفه السلاح، فعندما رآني أتحدث بهذه القوة قال لي: أليس للإخوان أخطاء؟ فقلت له: كل حي يخطئ، ولكن أليس للإخوان أمجاد يا عبد العال بك؟ فقال لي: ومن ينكر أمجاد الإخوان المسلمين؟ فقلت له: أنا صاحب هذه الأمجاد، والذي يتخلى عن الإخوان المسلمين اليوم هو صاحب أخطائها. فقال لي: هيا اخرج هيا...
فلا أنسى أبدا كيف أنطقني الله بهذه الأجوبة المسكتة، وكيف أعطاني الفرصة مع هذا الملعون حتى اعترف هو أن الإخوان المسلمين لهم أمجاد، وأنه أصلا كان من الإخوان وتركهم. وبعد ذلك فتحوا لنا الزنازين، وأصبحنا نخرج، وجعلنا المحاريق مثلما كانت الواحات، فكنا نخرج إلى المزرعة لنزرعها. وعندما وجدوا نشاطنا، برزت لديهم فكرة أن يأخذونا لنعمل في الإصلاح الزراعي. وفعلا، كانت السيارة تأتي لتحملنا، ونذهب نحن والشيوعيون لنعمل هناك. وكانت فترة طيبة جدا، فقد حفظت نصف القرآن بالتلقي في تلك الفترة، فكنت أمسك بيد المقطف والأخ سعيد البواب كان يمسك باليد الأخرى، وحفظني نصف القرآن بهذه الطريقة. وكان خيرا كثيرا لنا، وأنجزنا في الإصلاح الزراعي إنجازا طيبا، لكنه كان في النهاية كان مهزلة بكل المقاييس، فالمشرفون علينا لم يكونوا إلا أشخاصا منتفعين.
تورتة بعيدان الكبريت:
في هذا السجن، كانت أجمل هدية يرسلها الأخ لأخيه عبر شراعات الزنازين؛ هي كسرة خبر.. ويوم احتفلنا في الزنزانة بذكر ميلاد الأخ حامد الغمراوي، كانت مفاجأة تورتة مرصعة بعيدان الكبريت التي نجح وزير تموين الزنزانة في تدبيرها...
كانت التورتة عبارة عن رغيف من الخبز مدهون بالعسل الأسمر، تقاسمناه نحن العشرة عقب الحفل بنهم وامتنان.
وحرقوا ملابسنا:
كانت نية الاستفزاز واضحة في كل أمر، وكل حركة، وكل نظرة إلينا.. وقمنا بتنفيذ ما طلب منا، وسرنا صفوفا أمام أكوام ثلاثة من البطاطين وملابس السجن الزرقاء والأبراش، وكل منا يتأبط نمرته؛ تسوقه زمجرات البشلاوى وصيحاته إلى إحدى الزنازين. وكلما ازدحمت زنزانة ملؤوا الأخرى، ثم أحكموا غلق الزنازين وانصرفوا..
وفي اليوم التالي، أضرموا النار في جميع أمتعتنا، وأتت النار على أمتعة المؤيدين أيضا من باب الخطأ.. ولم يفوّت السجانة والموظفون الفرصة، فنهبوا ما استطاعت أيديهم أن تصل إليه قبل أن تأتي عليه النار.
وهكذا خرجنا إلى الحياة البسيطة، وتخلصنا من فوارقنا الشكلية ومن كل متاع الدنيا، وهذه الحياة البسيطة لا تميز فيها لأحد على أحد في ملبس أو مأكل أو مسكن.
عشنا في سجن المحاريق حتى 2 أيار/ مايو عام 1964 م.. وكان يعيش معنا أيضا الشيوعيون في نفس السجن حتى تدخل الرئيس السوفيتي خروشوف، وأفرجت الحكومة عن الشيوعيين جميعا وقامت بترحيل الإخوان إلى سجن قنا.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (22)
نريد مرشداً جديداً
حدثت حادثة طريفة جدا. فقد قيل إن الأستاذ الهضيبي حدثت له جلطة في المخ، ومن حماسي وخوفي على الإخوان، خصوصا مع الصراعات الموجودة في الداخل والخارج، أمسكت بورقة وقلم وكتبت للأستاذ الهضيبي، وقلت له: إن الأعمار بيد الله، ولا أحد يعلم الذي سيحدث في المستقبل، فأقترح على فضيلتكم أن تختار هيئة تأسيسية مكونة من 25 فردا، بعضهم من السجن وبعضهم من الخارج، لقيادة الجماعة في غيبة فضيلتك، وكان هذا حوالي عام 1963 أو 1964م، فأرسل لي كلمتين ونصف فقط: "قولوا لعاكف لماذا أنت مستعجل؟".
في سجن قنا:
في أيار/ مايو 1964م نقلونا إلى سجن قنا وقسمونا: التأبيدة في جانب، وأصحاب الخمسة عشر عاما في جانب آخر. وكنا هناك حوالي 36 أخا، إلى أن انضم إلينا عام 1968م ما يقرب من 70 أو 80 أخا، من قضية سنة 1965 الذين نشأت فيهم بذور فكر التكفير، وبذلنا جهدا كبيرا معهم لمدة ثلاث سنوات، حتى استطعنا أن نعيدهم إلى حظيرة الإخوان ومفاهيم الإسلام الصحيحة.
لقد أرسل لنا المرشد العام نسخة من كتاب "دعاة لا قضاة"، وتدارسناه جيدا، لكنني انتقلت لسجن الليمان، فلم يكن الموضوع قد اشتدت جذوته.
وكنا نعاني، كالعادة في بداية ذهابنا إلى أي سجن، من صعوبات كثيرة، ونمر بأيام شداد ومحن. وكانت الزنازين مغلقة، لكننا تمكنا من التواصل مع المساجين، حتى أصبح لنا مكانتنا، وأصبحنا بالتدرج نخرج لنمارس الرياضة.
من الطرائف:
ومن الحوادث الطريفة التي أذكرها في سجن قنا، أنه كان هناك شخص من بورسعيد قد حضر في قضية مخدرات، وكان السجانون يضايقونه كثيرا ويضيقون عليه، وإذا جاءه طعام من زيارة يأكلونه منه، وإذا همّ بأكل طعام السجن يأكلونه منه أيضا.. فأحضر بعض الشباشب وقام بتقطيعها أجزاء صغيرة، ثم طبخها بالطماطم حتى صار كأنه طبق من اللحم الظريف، فقام السجانون بأكله وهم يتساءلون: لماذا هذا اللحم جامد كدا؟
بسيوني جمعة:
أحضروا لنا في قنا شخصا يدعى بسيوني جمعة، كان يبيع جريدة "الوقائع المصرية" نهارا، وفي المساء كان يمسك البطارية في سينما سان جيمس، وكانت ملكا لشخص يهودي. وفي إحدى المرات ذهب أمين عثمان باشا للسينما ومعه كلبه، فأمسك بسيوني جمعة بالكلب ليداعبه، فقام أمين عثمان باشا بترقيته من الدرجة الثامنة إلى الدرجة السابعة، وعندما جاء عبد الناصر عام 1956 وطرد اليهود، أراد ذلك اليهودي مالك السينما أن يفوت على عبد الناصر فرصة الاستيلاء عليها، فكتب المكتب والسينما لبسيوني جمعة. وكان بسيوني هذا قد نبغ في أعمال السينما والاستيراد والتصدير بخبرته مع ذلك اليهودي، فاستطاع في وقت وجيز، من عام 1956 حتى 1961، أن يكسب ثلاثة ملايين جنيه، فقام عبد الناصر بتأميمه ووضعه في السجن، ثم أفرج عنه بعد الاستيلاء على أمواله، فأحضر بسيوني جمعة سائقه وطاهيه وقام بعمل شركة لكل منهما. وفي عام 1965، أصبح عنده 5 ملايين جنيه، فأممه عبد الناصر مرة أخرى ووضعه في السجن. ولكنه قام بتوزيع رشى كثيرة، فيقال إنه رشاهم جميعا حتى رشى كلب السجن الحربي، وكان يخصص راتبا شهريا لحمزة البسيوني. ويبدو أن المسألة "فاحت رائحتها"، فأحيل إلى المحاكمة في قضية عرفت بقضية الرشوة الكبرى. ومن خوفهم منه، وضعوه في سجن قنا وعينوا له ضابطا ينام معه. وبالطبع، في المحاكمة صدر الحكم ببراءته؛ لأنه دفع لهم جميعا.
وذات مرة جاء أحمد صالح داود (وكان وقتها مديرا لأمن الدولة، وهو الذي نقلني من مجلس الثورة وأنا لا أتحرك وعلى وشك الموت عام 1954) لزيارة بسيوني جمعة هذا، وكنت أستعد لطابور الرياضة مرتديا زي الرياضة، وكنت أضع صافرة في رقبتي عند خروجي لألعب رياضة مع الإخوان، فقابلني أحمد صالح داود عند باب العنبر أثناء دخوله لزيارة بسيوني جمعة، فذهل عندما رآني على تلك الحال من الصمود والقوة وقال لي: ما شاء الله صحة ونشاط! فقلت له: امسك الخشب يا أحمد بك. ثم قلت له: ومالك قد سمنت وامتلأت، فقال لي: يا عاكف ألا تحب أن تصبح وزيرا مثل أصحابك (وهو يقصد عبد العزيز كامل وكمال أبو المجد)، فقلت له: إنني لا أخاف من كرباجكم حتى أصبح وزيرا، فذهل وقال لي: طيب طيب.. ومضى وتركني.
ظل الحال كذلك فترة قصيرة، ولم نكد نشم أنفاسنا حتى فوجئنا بهم يحضرون إلينا مأمورا سيئ السمعة والخلق، وكان معروفا بشدته وقسوته مع المسجونين الجنائيين. لقد كان ذلك الرجل يضرب بالنار في العنبر.
حبس انفرادي ثلاث سنوات:
وضعوا اثني عشر فردا في السجن الانفرادي، وكنت منهم، وكان صلاح شادي بجانبي لمدة ثلاث سنوات (من سنة 1965- 1967م)، لا نرى شمسا ولا قمرا، بلا خطابات من الأهل، منعزلين تماما عن الخارج، ممنوعة عنا الزيارة، وليس بالزنزانة إلا البرش والبطانية والقروانة. ثلاث سنوات كاملة، ولكن كان يكفينا القرآن الذي كان خير صحبة لنا. وكنت على الرغم من هذه القسوة، ألعب رياضة في الزنزانة.
نور وسط الظلام:
كان المسجونون لديهم رجولة نادرة، فكان يأتيني خبز وطعام من نوافذ الدور الأرضي من المسجوين، فلا أنسى قنا، ولا رجولة أهلها التي خففت عنا قسوة مأمور السجن.
وكان وكيل السجن أيضا، واسمه السيد البدوي، رجلا صالحا، على عكس المأمور. وقد قلت له ذات مرة : يا سيد بك.. إخوانك ليس لديهم ملابس! فما كان منه إلا أن حضر بالليل (حوالي الثانية عشرة أو الواحدة)، ودخل عندي الزنزانة وهو يرتدي ست فانلات فوق بعضها ويخلعها كلها عندي في الزنزانة.. أليست هذه منتهى الرجولة؟
اعتذر لعبد الناصر!:
لم ينقطع عني ذلك الحبس الانفرادي خلال السنوات الثلاث إلا في أثناء محاكمة 1965، حيث أخذوا حوالي سبعة أو ثمانية سجناء من قنا، وقاموا بترحيلنا إلى ليمان طرة.. فكنت والأستاذ عمر التلمساني، والأستاذ محمد سليم، والأستاذ عبد المنعم سليم، والأستاذ محمد العدوي، والشيخ شريت، حسبما أذكر. وكانوا يأخذون الإخوان ويهينونهم ويعذبونهم في أمن الدولة ثم يعودون، ما عدا أنا، فقد ظللت ثلاثة أشهر لم يأخذوني، ولا أدري لماذا، ثم فوجئت بهم يطلبوني، فقال لي الإخوان: هدئ نفسك، فقلت لهم: أنا عارف أنها علقة وثلاث سنوات، وأنا باقي لي تسع سنين أو عشرة.
ذهبنا إلى مكتب مدير السجن، فوجدت فؤاد علام ورئيسا له يدعى زكريا، واللواء عبد الله عمارة. وكان مدير ليمان طرة يدعى سمير حسنين، وكان تلميذي في فؤاد الأول الثانوية، وكان وجيها وألدغ.. وقد عرفته، وقلت له: هل تعمل في النيابة؟ فقال لي: لا بل في أمن الدولة، فقلت له: مرحبا! وظلوا يتحدثون معي حوالي ثلاث ساعات، والحمد لله كنت ثابتا وأخذت حقي، وكل ما كنت أريد قوله قلته، وتحديتهم في كل شيء؛ لدرجة أن فؤاد علام كان يقول لي: يا عاكف.. عبد الناصر يريد منك ورقة فقط، ليس من الضروري أن تكون تأييدا، ولكن على الأقل اعتذار. فقلت له: فؤاد بك، ظننت أنك أحضرت لي اعتذارا من عبد الناصر لا لتأخذ مني اعتذارا لعبد الناصر!
وعندما سمع عمارة هذا الكلام خرج مسرعا، ولم يستطع سماعه، فقال لي فؤاد علام: والله أفتح لك البوابة العمومية (يعني يفرج عني وأخرج من السجن). فقلت له: لا أنت ولا عبد الناصر يستطيع أن يفتح لي البوابة العمومية، والذي يستطيع أن يفتح البوابة العمومية هي السياسة العالمية وليس أنتم. وبعد ثلاث ساعات قمت دون أن يعتدي عليَّ أحد أو يقول لي كلمة واحدة، وبعدها رحَّلوني إلى قنا؛ حيث عدت إلى الحبس الانفرادي حتى نكسة 1967.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (23)
التكفير وبراءة سيد قطب:
ذكرت من قبل أنه انضم إلينا عام 1968 ما يقرب من 70 أو 80 أخا من قضية 1965، وقد نشأت في بعضهم بذور فكر التكفير. وفي الحقيقة بذلنا معهم جهدا كبيرا، فهم إخوة كرام نحبهم، ولكن تفكيرهم كان قد اضطرب من جراء الأحداث التي مروا بها، وعدم وجود من يوجههم التوجيه السليم. وظللنا من 1968 حتى 1971 نحادثهم ونحاورهم، ودارت بيننا وبين الأستاذ الهضيبي رسائل وحوارات؛ كتب على ضوئها كتاب "دعاة لا قضاة"، جمع فيه النقاط التي يثيرها أصحاب هذا الفكر، ورد عليها ردا شافيا. ثم أتى الأمر الحاسم من الإمام الهضيبي، وأرسل إلينا: "من أراد أن يلتزم بفقه الإخوان وفكرهم فأهلا به ومرحبا، ومن لم يرد ذلك فليفارقنا ويلتزم بالطريقة التي تعجبه". فالتزم جميع الإخوان تقريبا بالصف، عدا ثلاثة أو أربعة.
وبداية اتجاههم هذا الاتجاه أنهم كانوا يمتثلون بفكر سيد قطب، ويقولون إنه هو الذي يقول ذلك. والحقيقة أنهم هم الذين لم يفهموا سيد قطب، وكل ما هنالك أن الأستاذ سيد قطب بعد حادثة سجن طرة (التي قتل فيها عدد كبير من الإخوان غدرا) بدأ يكتب "في ظلال القرآن" بلهجة أخرى. وعندما وصل لسورة المائدة (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، أعطاها صورة يفهم منها أن هؤلاء الناس كفرة. ومثلما كنت أقول للإخوان: من فقه الإسلام وفقه فكر الإخوان يزداد إيمانا وعلما بكلام سيد قطب، ولكن الشخص الذي ليس له فقه سليم قائم على قواعد إسلامية صحيحة، وليس له معرفة بالشرع والحلال والحرام، وليس لديه ثقافة إسلامية واسعة، فمثل هذا الشخص الذي يكفّر الناس. ولذلك كان كلام سيد قطب يزيد الإخوان، من أصحاب الفكر والعلم، إيمانا، ولكن الآخرين الذين يأخذون القشور؛ كانوا يكفرون الناس ويقولون إن سيد قطب هو الذي يقول ذلك.
وبالنسبة لكتاب معالم في الطريق الذي اتهموا الشهيد سيد قطب بأنه كفّر فيه المجتمع، فقد قرأناه قبل أن يصدر، وبعد أن صدر وتم نشره. فقد أرسل سيد قطب إلينا ذلك الكتاب قبل طباعته، وأرسل إليّ شخصيا خطابا مخصوصا يستشيرني، فرددت عليه بعض العبارات التي يمكن أن يُشتم منها أنها تكفر الناس، فليس كل من سيقرأ الكتاب سيدرك الحدود الفاصلة بين تكفير الأفعال وتكفير الأشخاص. وهذا الكلام قبل خروج سيد قطب من السجن.
وبعد خروجه، انتشر هذا الفكر بين الجهلة، واقتنع به العديد من شباب 1965، أو أقنعوا أنفسهم به بعدما رأوا من الأفعال الشنيعة في محاربة الإسلام وأهله. وهناك أشخاص من الموجودين في السجون الذين التقوا به في السجن؛ حملوا هذه الأفكار أيضا، ولم يكن هناك متسع من الوقت ليرد سيد قطب على هؤلاء الذين تقوّلوا عليه وفهموه خطأ، لا سيما مع التضييق الشديد على الجميع داخل السجن وخارجه.
سيد قطب كما أعرفه كان على خلق قويم وعلى فهم دقيق، ولم يكن يكفر الناس. وهذا ما أكده لي الأستاذ عمر التلمساني بعدما قابله في مستشفى طرة، بعدما كتب كتاب "معالم في الطريق". وكما قلت، فقد قرأت الكتاب قبل صدوره وبعد صدوره ونشره، ولم أفهم منه أنه كان يكفر الناس، والذين اتهموه بذلك وأعدموه لا أدري ماذا أقول فيهمّ! لا أدري ماذا أقول فيمن قتل سيد قطب وعبد القادر عودة والشيخ فرغلي ويوسف طلعت.. حسبنا الله ونعم الوكيل وحسابهم عند الله!!.. لو كان عندهم ذرة من إيمان أو ضمير ما أقدموا على مثل هذه الأمور. فاختلف معي ما شئت، وإذا أردت فاحجزني عن الحياة العامة، ولكن تقتلني؟!! شتان بين هذا الموقف الجبان وبين موقف حسن الهضيبي الذي كان يقول: لا أتحمل دم إنسان.. فهذه هي الرجولة الحقيقية.
مع أمي:
مرت علينا السنون تلو السنون، والعيد تلو العيد، ولم أر والدتي لمدة 15 عاما داخل السجن، حتى جاء العيد حقا.. إن العيد في الغد.. وإن هذه الليلة هي ليلة العيد.. يا الله ما أجملها من ليلة!!.. ظلام حالك رهيب.. وزنزانة قذرة ضيقة.. وأصوات الحرس الخشنة، وسعال المساجين المستمر، وأصوات الحشرات والهوام وهي تدب وتزحف.. ومع ذلك كله غدا عيد...
وشرد ذهني بعيدا، وتخطيت جدار الزنزانة السميك، وتخطيت بذهني الأسوار والحراس، وشردت بعيدا.. مع ليلة العيد.. إنها ليلة ليست محسوبة من الأيام، فهي طيف جميل وحلم بديع، فيها تضمك الدنيا بأكملها، ويتعطر الجو وتتزين الحياة، ولكنها هنا في السجن طويلة كالحة حزينة ساهمة. وحاولت النوم، فلم أستطع، وتقلبت على فراشي الوثير الذي يتكون من "برش" ليف فوق الإسفلت.. ورطوبة الأرض برائحتها العفنة تعطر الجو..
لم أنم هذه الليلة قط.. وكيف أنام وأنا أعلم أنني قد تركت أسرتي.. أمي وإخوتي.. تركتهم جميعا لأنني فضلت وطني وديني عليهم، فكان نصيبي السجن ونصيبهم الحزن المحض والألم المرير.. كيف يقضي العيد هؤلاء المساكين؟ أمي الحبيبة وإخوتي الأعزاء، وأصدقائي الأوفياء.. لا بد وأنهم لم يناموا هذه الليلة مثلي متألمين لحالي.. لا بد وأنهم يعيشون هذه اللحظات معي كما أعيش أنا معهم.
إن الوفاء جميل.. وإن الإنسان الذي يملك حب هذه القلوب جميعا.. قلب الأم والإخوة والأصدقاء.. حقا هو السعيد حتى ولو كان في السجن.. وابتسمت ابتسامة عذبة، وغطيت وجهي، وتسرب النوم رويدا إلى عيني، فأسلمت نفسي للنوم في هذه الليلة.
ونمت، ولكن روحي حلقت هناك عند الأحبة.. سعيدة هانئة، ولكن تلك السعادة لم تكد تبدأ لتنتهي. فقد استيقظت من نومي، فرأيت الجدران ما زالت قاسية صلبة، والرائحة العفنة تتصاعد، والحشرات تسعى، والظلام الكئيب ينتشر.. لكن كلي أمل أن يأتي العيد لأقابل الأحبة الذين سيأتون إليّ ليزرونني، وستأتي أمه الحبيبة وأشقائي.
أشرقت الشمس، وأشرقت معها نفوس متلهفة، ووجوه المساجين المساكين، وأخذوا يهنئون بعضهم بعضا بالعيد.. حقا إن البشر يكسو وجوههم الفرح، ولكن الصدور تحمل ما تحمل من ألم دفين.
وجاء وقت الزيارة، فالزيارة مباحة للجميع في يوم العيد.. وحدث هرج شديد.. وانطلقت ضحكات صاخبة، وتبادل المساجين التهاني، ووزع البعض كعك العيد من السجن، وهو خبز أسود معجون بزيت قليل.. ونادى السجانون أسماء من لهم زيارة.. وأرهفت أذني، ولكن لم أسمع اسمي بين الأسماء في البداية.. وعلا وجهي الوجوم.. إنه أول عيد ألتقي فيه أهلي بعد خمسة عشرة عاما.. ترى ماذا أصابهم؟ ليتني أستطيع أن أفديهم بحياتي، ولكنها القيود.. والظلم هو الذي قيدني.
ترى ما الذي أخرهم؟!.. إنني لفي شوق شديد لرؤياهم. وانتبهت، فقد سمعت اسمي، فانطلقت سريعا لأزور أعز الناس عليّ في الوجود، وانتظرت أمام شباك كئيب مغطى بالأسلاك لضيقه، والحديد الغليظ.. ألا تبا لتلك القضبان.. ألا أستطيع أن أنتزعها لأستطيع أن أرى الأحبة ويروني؟! ودوى صوت هادئ.. إنه صوت الزائرين، وقد انطلقوا يتسابقون.. عشرات الرجال وعشرات النساء والأطفال، كل منهم ينادي بأعلى صوته على أخيه أو ابنه أو قريبه... أصوات عجيبة مختلطة، ولكنها رائعة النغم؛ لأنها تعبر عن الشوق والحب واللهفة والحنان.. ابني ولدي أخي.. أبي.. عمي.. خالي.. كل هذه الأسماء تتردد في وقت واحد من الطفل الحائر الصغير، ومن المرأة العجوز البائسة، ومن الأب العطوف، ومن الأم الرؤوم.. أصوات هادئة، ولكنها كنغم القيثارة.. وكصوت البلابل وكغناء الكروان.. وسمعت صوتا خافتا ينادي باسمي، فتلفت حولي.. ونظرت هنا وهناك، فرأيت أمي الحبيبة بوجهها الملائكي الصغير.. أماه.. انطلقت من فمي كصرخة مستغيث.. فسمعتها الأم، ولكن الأسلاك القاسية والقضبان الغليظة منعت من أن يلتحم جسدها بجسدي.. فدمعت عيناها.. عين الأم.. وأخذت تبكي بكاءً صامتا.
حاولت أن أمد يدي مرات لأضع ذلك الرأس الحبيبة على كتفي، وأمسح تلك الدموع بكفي وأقبل اليد، وأزيل عن ذلك الملاك الحبيب حزنه وألمه.. ولكن الأسلاك ردتني!
وجاهدت نفسي لأمنع تلك الدمعتين الكبيرتين من السقوط.. ولكن هيهات، فقد سقطتا تتدحرجان على وجهي.. وأحست بمرارة في حلقي، ولم أستطع إلا أن أردد تلك الكلمة الحبيبة.. أماه.. أماه.. أماه.. وأخيرا استطعت أن أتكلم وأن أملك زمام نفسي، فمسحت تلك الدمعتين الكبيرتين، وقلت لأمي: بربك لا تبكي يا أماه، فإن بكاءك يقطع قلبي ويمزق أحشائي. فمسحت الأم دموعها وابتسمت، حتى إنها جاهدت جهادا جبارا حتى تبتسم، وأخيرا أشرق ذلك الوجه الملائكي بابتسامة لترضي ابنها.. ابتسم وجهها، وفي قلبها نار تحترق. وأقبل الحارس بوجهه المقطب وشاربه الضخم وصوته الأجش؛ معلنا انتهاء الزيارة. فدمعت عيون، وغصت حلوق، واضطربت قلوب.. وودعت أمي وكأنهم ينتزعون منها فؤادها.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (24)
نكسة وطن وانفراجة مسجون:
كنا نتابع خطب عبد الناصر الرنانة، وأنه سيلقي بإسرائيل في البحر، وأن مصر تملك السلاح القوي.. واندلعت الحرب، وكنا نسمع صوت المذيع أحمد سعيد الذي كان يطالعنا بين الحين والآخر بأن قواتنا أسقطت عشرات الطائرات وأسرت مئات الإسرائيليين. لكن استيقظنا على الطامة الكبرى، وهي هزيمة ودمار جيشنا المصري في صحراء ملتهبة تحت أقدام الصهاينة.
بعد النكسة، رفعوا عني الحبس الانفرادي، وفوجئنا بأن سياسة مأمور السجن قد تغيرت، وخفت القيود نوعا ما، وأصبحنا نمارس أنشطة عديدة في الذكر وحفظ القرآن والرياضة، وكانت تأتي فرق من الخارج (من المدارس والاتحادات) لتلاعبنا في كرة القدم أو اليد أو السلة، وكنا نأخذ المركز الأول فيها، وكنا نعقد لقاءات مكثفة في الثقافة العامة.
فُرجت:
كل هذا بالإضافة إلى خدماتنا للمسجونين. وأذكر أننا كنا في كل يوم جمعة نقوم بعمل طعمية لكل المسجونين، وكانوا حوالي ألف مسجون. وكنت أنا الذي أشرف على هذه العملية، وكنا نقوم بطهي أرز رائحته كانت تجذب الناس من الخارج، من الضباط وغيرهم، ليأخذوا منه. كذلك كنا في الأعياد نقوم بعمل حفلات كبيرة جدا، ويقوم الإخوان بعمل الكعك لهم، وفي عيد الأضحى خصوصا نقوم بعمل الرقاق باللحم المفروم، حيث إن مكونات الرقاق موجودة في السجن، وإذا اشترينا نشتري أشياء يسيرة جدا. وكان الإخوان محبوبين جدا، ولهم مكانتهم في السجن، وصار لهم تأثير في جوانب متعددة.
والمواقف التي أثر فيها الإخوان تأثيرا كبيرا في السجن كثيرة جدا، وسأضرب مثلا على ذلك بشاب كان يقوم بخدمتنا، يدعى علي الجربان، وكان علي الجربان هذا خارج السجن من المجرمين الذين يخافهم الناس، وكان خطيرا لدرجة أنه كان إذا سار في محافظة قنا وعلم الحكمدار بسيره؛ يرجع خوفا منه.. فحضر للسجن، وأحب الإخوان من معاملتهم، وبدأ يصلي، ثم أصبح يصر على أن يقوم بخدمتنا. وكان الضباط الذين يأتون من الخارج لرؤية علي الجربان لا يصدقون أنه هو الذي كانوا يعرفونه.
علي الجربان مجرد نموذج، فكثيرون غيره من المسجونين تعلموا الصلاة الصحيحة وأصبحوا في غاية الأدب، وكنا نقابلهم بعد خروجنا فنجدهم على العهد أناسا طيبين. فليس كل من في السجن أشرار، بل هناك كثير من الأشخاص الطيبين، فطرتهم نقية، ويحتاجون لمن يأخذ بيدهم.
وأذكر أن أحد العمد الكبار من المسجونين أخطأ خطأ ما، فنادى عليه وكيل السجن، وكان مسيحيا - وهو يريد أن يعاقبه - فوقفت بينهما ومنعت الوكيل وصرفت المسجون. وبعدها قابلني الوكيل وشكرني، وقال: لقد كنت على وشك أن أعتدي عليه، ولو فعلت لقتلني أهله بالخارج، فقمت أنت بمنعنا، فشكرا لك على ذلك.
ولعلك تستغرب إن قلت إن تأثير الإخوان في السجن والجو الإيماني الذي أشاعوه داخل السجن بلغ درجة التأثير في ذلك المأمور الذي كان يضرب به المثل في القذارة، فقد فوجئت بذلك المأمور يبعث إليّ (وما تعودت قبل ذلك على الجلوس في حجرته، فكان يتكلم وأنا واقف).. فقال لي: تفضل اجلس، فتعجبت وجلست. فقال لي: هل يقبل الله التوبة؟ فقلت له: إلا أن تشرك به (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، فقال لي: لقد فعلت كذا وكذا، فقلت له: لا تقل لي ماذا فعلت فلا أريد سماعه، فما دمت تؤمن بالله وحده ولا تشرك به فالله يغفر الذنوب جميعا.. وتركته، فلم يصدق، وأرسل إلى صلاح شادي، وعلمت أنه رد عليه بمثل ردي بالضبط، وبعد ذلك تغيرت معاملته، وصلى وصام وقرأ القرآن، وبنى مسجدا في السجن. ولمست زوجته هذا التغيير الكبير في حياته، فكانت كلما تطهو ديكا روميا أو محشيا أو أي طعام آخر؛ ترسل لي بنصفه.
وبعد فترة أصبح ذلك المأمور مديرا للأمن في بورسعيد، وكان يرسل لي داخل السجن ويقول: أنا على العهد، وهذا ببركة الإخوان. وعشنا في سجن قنا حياة مستقرة حتى انتقلنا إلى سجن طرة بعد ذلك.
مات أبي:
ومن الأحداث المهمة التي مرت بي في سجن قنا خبر وفاة والدي - عليه رحمة الله - حيث توفي في شهر كانون الثاني/ يناير عام 1972، وصلى عليه الإخوان في جميع السجون، وأتى لي أشخاص بأعداد كبيرة من خارج قنا لتعزيتي. وقد كان رحمه الله رجلا صالحا، والإخوان يحبونه كثيرا.
مات عبد الناصر وخرج الإخوان:
في آذار/ مارس 1972 رحلنا لمزرعة طرة، وبدأنا بتنظيم النشاط. وأحبت قيادات الإخوان الموجودة هناك أن تترك لنا القيادة، ولكنا رفضنا ذلك، وقلنا لهم: كما أنتم.
وكان سني في ذلك الوقت حوالي 45 أو 46 عاما، وكان في السجن بقية من إخوان 1965م، وعشنا معهم حياة طيبة، وكان معظمهم شبابا عمرهم حوالي 20 عاما، فكنا نلعب تنس، وكرة قدم، واليد، وكنت رغم كبر سني أفوز عليهم. وكانت الرياضة تشغل جزءا كبيرا من وقتي، فكنت أجري حوالي 5 كم تقريبا في الصباح، وبعد الجري أستحمّ وأتناول إفطاري ثم أراجع القرآن، وكان الأخ عبد المنعم سليم هو الذي يسمّع لي القرآن، ثم أرتاح قليلا، وبعد العصر نخرج للعب. وكنا هناك في عنابر، وكنت أنا مسؤولا عن الطهي في عنبرنا، ومعي الأخ إمام غيث رحمه الله، وكان طباخا فوق الممتاز، فكنا نضع الطعام، ونذهب للعب، ثم نذهب لتناول العشاء، ويقومون بغسل الأواني، وبعد العشاء أستريح قليلا ثم أنام.
وكان الشباب يجتمعون حولي، فكنت أمزح وأقول إني سألت الله عز وجل أن يفرج عني، وأن يحججني وأن يزوجني.
وجاء الفرج والفرح:
وفي يوم 25 تموز/ يوليو 1974، جاء وفد من المخابرات والبوليس السياسي أو أمن الدولة، وكانوا حوالي خمسة أفراد، ودخلوا على مدير الليمان، وكان اسمه اللواء علي موسى، ثم طلبوني أنا وعلي نويتو، وقالوا لي: يا عاكف لن نفرج عنك إلا إذا كتبت لأنور السادات، فقمت دون أن أشعر وقلت لهم: اسمعوا: أبلغوا أنور السادات أن محمد عاكف يقول لك: إن الله سبحانه وتعالى خلقه حرا ولن يساوم على حريته، وإن الله خلق له عقلا والعقل أمانة، والحاكم الشريف لا يساوم مواطنيه على حريتهم ولا على آرائهم، وانصرفت.
وفوجئت في اليوم التالي بعلي موسى يحضر مسرعا ويقول لي: يا عاكف، مبروك إفراج، وكنا خمسة باقين في السجن من الإخوان، أنا وصلاح شادي، ومحمد سليم، وعلي نويتو، ومحمد العدوي.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (25)
وخرج عاكف:
خرجت من السجن، وذهبت لبلدي، وكانت أمي موجودة. ولم يمر أسبوع أو عشرة أيام حتى أرسلت لي وزارة المعارف لأتسلم عملي كمدرس، وذهبت وتقابلت مع الأستاذ نوفل، مدير عام شؤون العاملين، فتحدثنا، ورفضت أن أتسلم عملي مدرسا بعد هذا العمر. وقلت له: أنا اسمي محمد مهدي عاكف، وأبلغ السيد الوزير أنني لن أتسلم عملي إن لم أكن على قمة زملائي أدبيا وماديا، فأنا لست في حاجة للعمل لو ظلمت، بالرغم من أنني كنت وقتها في أشد الحاجة لأي شيء، ولكن ما قبلت إطلاقا أن أعود كمدرس. فأرسل لي بعدها يقول لي: لقد وضعوك في الدرجة الأولى في الأقصر، فقلت له: إنني تم القبض علي من القاهرة، وحقي أن أعود موجها أول في القاهرة.
وبالفعل، صدر القرار بتعييني موجها أول في القاهرة، وتسلمت عملي مستشارا لوكيل وزارة التعليم في مجمع التحرير بالقاهرة، ليبعدوني عن الاحتكاك بالطلاب. وجلست في مكتب فخم مكيف لمدة شهر كامل، لكن لاحظت أنه لم يدخل عليّ أحد، ولم يستشرني أحد، ولم أوقع على ورقة، وكان وكيل الوزارة زميلا لي يدعى "أبو شادي"، فقلت له: أنت تعلم أن محمد عاكف لن يكون أبدا وزيرا بلا وزارة، فإما أن يكون هناك عمل وإما أن أذهب لأعمل موجها في أي منطقة من القاهرة، فأصدر قرارا بتعيني للعمل كموجه في مصر الجديدة، حيث بقيت فيها أسبوعا.
مع الكفراوي في التعمير:
جاء الكفراوي والحاج حلمي عبد المحسن، وأخي حسن عاكف رحمه الله، ليقولوا: نريدك معنا في التعمير، وسنقوم بعمل إدارة عامة للشباب، وعارضتهم في البداية. وكنت وقتها أقيم في مصر الجديدة عند أختي، وأتقاضى 68 جنيها من عملي كموجه أول، فقالوا لي: سيكون الراتب مضاعفا، وهناك منزل وسيارة. فقلت: إذن أذهب وأتزوج، وهكذا تسلمت عملي مديرا عاما في وزارة التعمير أواخر عام 1974، ثم تزوجت.
زواج وحج:
وبالنسبة لموضوع الزواج، فقد كنت وأنا في السجن أمازح الأستاذ عمر التلمساني وأقول له: من ستوافق على الزواج مني؟ فقال لي: اسكت يا ولد.. أنت عروستك ما زالت في بطن أمها! وعندما خرجت من السجن، قلت له إنك وعدتني بأن تزوجني، فقال لي: سأذهب لأخطب لك ابنة أخي. وأعطاني موعدا يوم الأربعاء، ولكن في يوم الأحد السابق لذلك الموعد حضر إليّ اللواء كمال عبد الرازق، وكنت ذاهبا لحضور مباراة في نادي الجزيرة، فوجدته يقف ويقول لي: إني أريد أن أذهب للحج، فقلت له وما يمنعك؟ إنك مدير أمن عثمان بك، وأنا خارج لتوي من السجن، وليس معي أي شيء! فقال لي: لقد رأيت رؤيا أن أحضر لك لكي نذهب سوية للحج.
كانت ابنة خالي، الحاجة روح شرف صاحبة شركة سياحية شهيرة جدا وقتها، اسمها "جولدن تورز"، وكانت تعلم أنني خرجت بعد عشرين عاما من السجن، وأحبت أن تأخذني معها في الفوج الخارج للحج، فرفضت، وقلت لها: لا أحب أن أحج عالة على أحد. ولم أذهب، ولكن عندما حضر لي كمال عبد الرازق يريد أن يحج، وأصر أن يأخذني معه، أخذته وذهبت إليها، وقلت لها: اللواء كمال عبد الرازق يريد أن يحج، وأرجو أن يكون له مكان عندك. فقالت لي: إن يذهب محمد عاكف معه إلى الحجاز فستكون هناك تذكرتان، أما إذا لم يسافر محمد عاكف، فليس هناك تذاكر، فقلت لها: إنك تعلمين أنني خارج قريبا من السجن، وليس معي شيء! فقالت: إنني لا أريد منك شيئا، وطلبت فقط أشياء تافهة جدا أهمها جواب من الوزارة، ومع ذلك أصررت على المشاركة في النفقات، وكان ثمن التذكرة يومها 105 جنيهات، وكان في جيبي 95 جنيها فدفعتها لها، على أن أحضر لها الباقي.
كان لقائي بكمال عبد الرازق يوم الأحد، وأخذته لشركة السياحة يوم الاثنين. وفي يوم الأربعاء كنت أركب الطائرة أنا وكمال عبد الرازق، ونزلنا فوجدنا السيارات الفخمة منتظرة هناك. والمعروف عن شركة جولدن تورز أنها فخمة جدا (سبعة نجوم وليس خمسة نجوم)، لدرجة أن الكفراوي كان يحج ورآني هناك، فقال لي: هل دعاك الملك فيصل؟ وكانت حجة طيبة، وهي أول مرة أحج في حياتي وأول مرة أركب الطائرة.
اتصلت هاتفياً بمجرد عودتي من الحج بالأستاذ عمر، وقلت له: أخبرتك أني خارج إلى الحج، وأول مكالمة بعد الحج سأسألك أين العروسة؟ وكنت أطوف حول الكعبة، وأقول: "رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير"، فقال لي: لقد ذهبت لأخطبها لك، فوجدت وجهك حلوا عليها، فخُطبت لغيرك. وكان يجلس بجانبي المهندس إمام غيث، فقال لي: أخطب شقيقة الدكتور محمود عزت، فقلت له إنني أعلم أن آخر أخت له قد خطبها الدكتور عامر، فقال لي، لا بل لديه أخت صغيرة. فذهبت لخطبتها، وكانت فعلا كما قال الأستاذ عمر، فقد دخلت السجن وهي ما تزال في بطن أمها! وحقق الله لي الأمنيات الثلاث الخروج من السجن، والحج والزواج.
والحمد لله أن أكرمني بهذه الزوجة الكريمة التي عاشت معي وتحملت ظروفي، وعانت معي طوال حياتنا، وصبرت على كثرة مشاغلي وغيابي، فكانت نعم الزوجة التي وهبها الله لي.
خطوة نحو التنظيم الدولي:
في آذار/ مارس 1975، كنت قد تزوجت، وقضيت وقتاً طيباً في الإسماعيلية، ثم خرجت رئيسا لبعثة الحج في عام 1976 وبعدها حدث خلاف شديد بيني وبين رئيس جهاز التعمير في ذلك الوقت، وكان مهندسا عظيما، هو المهندس إبراهيم زكي قناوي. وأراد أن ينقلني إلى القاهرة وليس لي فيها بيت أو أي شيء، وستذهب عني كل المميزات؛ من المنزل والسيارة والراتب المضاعف، فذهبت لأبحث عن حجرة في القاهرة (حيث إنني متزوج)، فلم أجد، ففكرت جديا في السفر والبحث عن عمل آخر.
كانت من يوم أن خرجت من السجن تنهال على العقود من قطر والكويت والسعودية، وأنا أرفض ترك مصر. وخلال بعثة الحج الذي ذكرتها، قابلني الأخ كمال الهلباوي، والدكتور عبد الحميد أبو سليمان (أمين عام الندوة العالمية للشباب الإسلامي)، وطلبا مني مشاركتهما في العمل، ولكني لم أتخذ قرارا حاسما وقتها.
كانت أمي على فراش الموت، وكنت عندها عندما جاءني اتصال هاتفي من الرياض؛ يجددون لي طلبهم بمشاركتهم العمل في الندوة العالمية للشباب، فسألتها: يا أمي يطلبونني للسفر إلى الرياض، أأذهب؟ فقالت لي: اذهب. وظلت تدعو لي. وسرعان ما أرسلوا إلي التذكرة، وذهبت. ووجدت هناك العمل الشبابي العالمي على أرقى وأوسع مستوى، وكانت بداية تنفيذ خطتي التي وضعتها في السجن لنشر الدعوة في أنحاء العالم.
وضعت نصب عيني الارتقاء بالندوة العالمية للشباب الإسلامي، فوضعت الخطط التي ترتقي بالشباب، وتعاونت مع العاملين في الندوة على ذلك، وانطلقنا في عمل المعسكرات.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (26)
الندوة العالمية للشباب الإسلامي
كان أول معسكر عالمي للشباب المسلم في أبها بالسعودية، والثاني في قبرص التركية؛ وأنشأته الندوة بمساعدة المؤتمر الإسلامي وصندوق التضامن الإسلامي الذي كان يرأسه في ذلك الوقت الأخ الحبيب الدكتور عز الدين إبراهيم، وقمت بالإشراف على إنشائه واختيار مكانه. وأذكر أن رئيس قبرص الشمالية رؤوف دنكطاش؛ كان خير معين لنا على إنجاز هذا العمل الكبير، وكان صديقا عزيزا.
كانت لنا معسكرات في بلاد كثيرة، منها: قبرص والأردن والسعودية وماليزيا وبنجلاديش وباكستان وتركيا، وغرب أفريقيا ومالي، وفرنسا وبريطانيا.. وقمنا بعمل معسكرات على مستوى إسلامي متميز. وأعتقد أن معظم القيادات الإسلامية الحالية الموجود بعضها في الحكم وبعضها يقود جماعات إسلامية؛ كانت نتيجة لهذه المعسكرات الإسلامية الراقية.
كانت قمة العمل الإسلامي في تركيا في معسكر "جنق قلعة"، حيث طلب منا سليمان ديميريل (رئيس الوزراء ساعتها) أن نقوم بإعداد المعسكر وتنظيمه، فاشتركت الندوة العالمية للشباب الإسلامي ومنظمة المؤتمر الإسلامي في تنظيم المعسكر سنة 1980، بمناسبة بداية القرن الهجري الجديد (1400هـ).
ومن الأمور التي أحب أن أذكرها، أننا أثناء الإعداد لحفل الافتتاح، حضر طلعت آصال (وزير الشباب التركي آنذاك)، وقدم لنا برنامجا؛ نظرت فيه فوجدته كله رقص، فقلت له: من غير المعقول يا طلعت بك أن نحضر لنكون ممثلين لأكبر هيئتين إسلاميتين، والشباب كله إسلامي، ثم يسمح بهذا الرقص في افتتاح معسكرنا. فقال لي: لا تنس يا أستاذ عاكف أننا دولة علمانية. فقلت له: ما جئت للدولة العلمانية؟! ولكني جئت لمسلمي تركيا.. وعندما قلت ذلك، رد طلعت آصال: إن برنامج الأستاذ عاكف هو الذي سينفذ، ولم أوافق على شيء من برنامجهم سوى رقصة عثمانية بالسيوف، وهي رقصة طريفة جدا كلها رجولة فوافقت عليها.
كنا نحاول أن تكون معظم معسكراتنا بالاتفاق بين الحكومات والندوة العالمية للشباب الإسلامي، وكانت منظمة المؤتمر الإسلامي تشاركنا دائما، وكان الاتفاق مع الحكومات ومشاركتها لنا في العمل؛ يعطينا حماية وتسهيلات كثيرة، وأبرز مثال لذلك كان في تركيا وبنجلاديش.. فعندما كنا في بنجلاديش، كان الشيوعيون قد دخلوا أفغانستان والأوضاع متأزمة جدا بين الحكومة والشيوعيين. وقريبا من ذلك، عندما كنا في تركيا، كان الحزب الشيوعي يقوم بإضرابات ضخمة، فكانت الحكومة توفر لنا الحماية، وكنت - مثلا - إذا سرت في الشارع تحوطني حراسة ضخمة من سيارات وموتوسيكلات.
وأذكر أن وكيل وزارة الشباب في تركيا ويدعى بلجن؛ كان علمانيا لا يصلي، وفوجئت وأنا أنزل العلم في آخر يوم؛ أنه يبكي، وعندما سألته لم تبكِ، قال لي: لأنني سأفتقد هذا النظام وهذا الأدب الذي عشته معكم على مدى 15 يوما. فقلت له: إذا كان هذا إحساسك فلماذا لا تصلي؟ فقال لي: إن شاء الله سأصلي، فأعطيته منبها وسجادة هدية، وقلت له: ضعهما في سيارتك، وإذا سمعت الآذان فصل. وقد جاءني بعد انقلاب سنة 1980، (بعدما تم طردهم من الوزارات) ليزورني هو وطلعت آصال في جدة، وكان لقاء طيبا.
وفي مالي، عندما ذهبنا لنبحث عن مكان نقيم فيه المعسكر، أرسلونا إلى بيت الشباب، فوجدنا البيت مليئا بالمهازل الأخلاقية، فالبنات نائمات مع الشباب بصورة بشعة جدا.. الخ.. فقلت لرئيس المركز: إن هذا يخالف القانون الدولي لبيوت الشباب، فالمفروض أن يكون هناك بيت للفتيات وآخر للشباب. وأخذني وزير الشباب (وكان هو المسلم الوحيد في الوزارة)، وذهب بي إلى مدرسة تم بناؤها بواسطة المجموعة الأوروبية على أرقى مستوى، تصلح لأن تكون جامعة، ولكن القذارة بها لا تتصورها، ولكنها مكان يصلح لأن يكون معسكرا دوليا ممتازا. واستقر بنا الأمر على ذلك المكان، وكانت الحرارة هناك شديدة جدا، والمطر مستمرا، واخترنا العنابر التي سنأخذها، وقام مجموعة من الإخوان بتنظيف المكان نظافة رائعة قبل بدء المعسكر بأسبوع، لدرجة أن وزير الشباب عندما حضر ليرى المعسكر لم يصدق أن هذا هو المكان نفسه.
وفي نهاية المعسكر، كان الأولاد الشيوعيون متربصين بنا لكي يستولوا على كل ممتلكات المعسكر، فأنهيت المعسكر قبل موعده بأربع وعشرين ساعة، وأمرت كل طالب أن يأخذ الأشياء التي قمت بتسليمها له في بداية المعسكر (المرتبة والبطانية والمخدة وسائر هذه الأشياء)، فجنت وزارة الشباب، وثارت لذلك، وكانوا يريدون قتلي، وذهبوا لشكايتي إلى السفير المصري والسفير السعودي. وكان السفير السعودي رجلا عاقلا، فعندما قال لي إن الوزارة ثائرة لأنك سلمت هذه الأشياء للطلبة، بيّنت له الأمور، وقلت له: إنني صاحب الحق في ذلك، وعندي تفويض كامل من رئيس الندوة، ومن منظمة المؤتمر الإسلامي، بأن أفعل ما أشاء.. وهؤلاء الناس فقراء، وهذه الأشياء تساعدهم في حياتهم، وماذا ستفعل بها الوزارة؟! لقد كان سيأخذها اللصوص المتربصون للحصول عليها، وهم لم يؤدوا لنا أي خدمة. وعند ذلك قال لي السفير: جزاك الله خيرا، ونعم الرأي رأيك. ومن وقتها حددوا لي حرسا يسير ورائي حتى ركبت الطائرة ورحلت.
تركت الندوة العالمية:
هذه بعض الذكريات عن معسكرات الندوة العالمية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وكانت فرصة طيبة جدا امتدت من عام 1977 وحتى 1982 تقريبا.. ثم هبط فيها النشاط بعد ذلك، وكادت تنتهي تماما؛ لأن الحكومات الغربية تنبهت لها، وإذا أردنا أن نقوم بعمل معسكر في مكان ما يقابل بالرفض. وفي الحقيقة، كان أي تحرك أو نشاط عالمي يعقبه محاولة من الأعداء لإحباطه، وبقدر قدراتنا وسرعة تحركنا؛ يكون المكسب أو الخسارة.
وفي عام 1983 تركت الندوة لهذا السبب، ولأنهم بدأوا يسعودونها (أي يحولونها إلى مؤسسة سعودية). وكان الدكتور توفيق القصير أمينا عاما لها، وكان طالبا يدرس في أمريكا، وكنت أستعين به قبل أن يتخرج من الجامعة، فقلت له: يا دكتور توفيق أنا ما جئت للندوة إلا لأنها ندوة عالمية، وليست سعودية، ولكن ما دمتم تريدون أن تسعودوها، فلن أستمر معكم. وللأسف، فقد أصبحت تلك الندوة جثة هامدة؛ كل أعمالها تقريبا عبارة عن نشاطات إغاثية، أما الأنشطة التربوية الإيجابية فقد اختفت، وتركت أيضا المدارس، حيث كنت أعمل في المدارس وأتقاضى راتبي من الندوة، وليس من المدارس. وبدأت أسير في خط آخر، إلى أن ذهبت إلى ألمانيا.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (27)
سنوات في ألمانيا:
لما عزمت على ترك العمل مع محيي الدين هلال، قررت العودة إلى مصر، ولم يكن أحد يعلم. ووقتها حدث لي حادث وجُبّست رجلي، وجاءتني رسالة من الدكتور أحمد الملط بأن أقابله في الحرم، ولم يكن لدي سيارة أتوماتيك كي أقودها برجل واحدة، فاستعرت سيارة الشيخ فتحي الخولي، وذهبت لمقابلة الدكتور أحمد الملط في الحرم، وأنا على عكازي، فقال لي: الأستاذ عمر يقول لك: اذهب إلى ألمانيا؛ لأن بها مشاكل كثيرة في العمل الإسلامي، والأخ أحمد خليفة - وكان يحضر الدكتوراه - سيترك المركز ويسافر إلى شتوتجارت ليتفرغ للرسالة، وأمرني أن أبقى هناك سنتين أو ثلاثا على الأكثر. فاستجبت له مع أنني كان لي كل عام جولة في الدول الأوربية، ولم أكن أدخل ألمانيا لعلمي بما بها من مشاكل، وقلت له: سأنهي عملي هنا في رمضان (وكان هذا قبل رمضان بحوالي عشرة أيام)ـ ثم أذهب لجولتي في تركيا وقبرص، وأمر على ألمانيا، ثم أقابل بعد ذلك الأستاذ عمر بإذن الله.
في ميونخ:
وصلت إلى المركز الإسلامي في موينخ، ودرست الموقف هناك، واطلعت على حال المركز وحال الإخوان، وحددت المشكلات الموجودة وفهمت أبعادها، ووضعت أمامي بعض الأهداف للنهوض بالمركز، وكتبت تقريرا للأستاذ عمر، وهو عبارة عن ورقتين، وشرحت له الحال والمطلوب. فقال لي: كل ما طلبت أنا موافق عليه.
وكان الإخوان المسلمون قد بدأوا العمل في ألمانيا منذ فترة طويلة، عندما رحل بعض الإخوان من القاهرة إلى ألمانيا للدراسة قبل وبعد 1954م، مثل الدكتور المحجري وجمال ناصر، ثم اتسع العمل على مستوى أوسع في الخمسينيات، في ميونخ خصوصا. وتُوج العمل في نهاية الستينيات بإنشاء المراكز الإسلامية في ميونخ وفرانكفورت وبون وبرلين وفورنبرج وشتوتجارت، وكل هذه المراكز الإسلامية تخضع للجماعة الإسلامية في ألمانيا. وكانت في البداية الجماعة الإسلامية في بافاريا، ثم جعلوها الجماعة الإسلامية في ألمانيا.
وعندما استلمت المهمة في ألمانيا، وقبل البداية في مواجهة المشكلات المتراكمة، أخذت في تكوين مجلس إدارة واختيار مساعدين لي، فاستدعيت صديقا عزيزا، هو أحمد فوندانفر، وقد تعرفت عليه في معسكر قبرص 1977، وهو ألماني وكان يعمل في "إسلاميك فاونديشن" في بريطانيا.. فاستدعيته، وجعلته نائبا لي لشؤون الألمان. وكان إمام المسجد من تركيا، ويدعى مصطفى شكر، فجعلته نائبا لي لشؤون الأتراك. ووضعت في تشكيل مجلس الإدارة كل المديرين السابقين للمركز، مثل عبد الحليم خفاجي، والسيد القشاط، وأحمد خليفة، وجمال ناصر، وهم الذين عملوا في المركز من قبل. ولم أكن أعرف الألمانية، فكنت أتعامل باللغة الانجليزية مع أحمد فندانفر، وباللغة العربية مع مصطفى شكر، وبدأت العمل لحل المشاكل تباعا، وسأتحدث عن بعضها.
أذكر أنني قلت للإخوان في ألمانيا إنه لكي أعالج المشاكل، فإن الأخ الذي يريد أن يعمل للإسلام ولا يريد أن يعمل معكم فاتركوه وما يريد.. لم تقفون منه هذا الموقف، وتقولون إنه يفسد صفنا؟ فإن كان صفكم صالحا، فما الذي سيفسده؟! أنتم المفسدون وليس هو! وكنت لا أحب أن يقال إما الإخوان وإما لا، فالإخوان يحملون رسالة، ومن يحب أن يعمل للإسلام خارج الإخوان؛ فلندعه يعمل، ونحن نحبه ونصادقه. وذكرت لهم البيان الذي أصدره الإمام الهضيبي بفصل قمم الإخوان المسلمين (السندي ومن معه والغزالي ومن معه) والذي رفع من قدرهم، فكان يقول فيه: هؤلاء الإخوة الكرام الذين لم يستطيعوا أن يتوافقوا معنا في سياسة الإخوان المسلمين وأحبوا أن يخدموا الإسلام بأسلوبهم الخاص، فندعو لهم بالتوفيق.
وبدأت بإيجاد صلة بيني وبين الأخ عصام العطار، ولم يكن عصام العطار يعرفني، لكنه يسمع عني كذا وكذا فقط، ولم يرني ولم أره من قبل، ولم تكن لي به علاقة غير قليل من العلاقات الاجتماعية الإنسانية البسيطة، حيث كنت أهنئه في المناسبات وأسأل عنه إذا مرض، وهو كذلك، وليس بيني وبينه إلا التلفون. وبعد فترة، قابلته في سويسرا لأول مرة، فهو لم يشاهد غير صورتي، وأنا لم أشاهد إلا صورته. فعندما رآني تعلق بي، وظل يقبلني (وهو تقريبا أكبر مني سنا)، وبعدها تفاهمنا، وقال لي: كلنا إخوان مسلمون، ولكن الآن لي جمعية ولها مجلس إدارة، ولها مسؤولون، فإذا كان اسمي "إخوان مسلمين" أو كان لي اسم آخر، فلن يؤثر ذلك على علاقتنا. ثم توطدت علاقتي به، وجعلت الأستاذ المرشد يرسل له وهو يرسل للأستاذ المرشد، وأصبحت العلاقات طيبة. أليس هذا أفضل من الصدامات؟!
ولا أكتمكم سرا، فقد قاسيت كثيرا جدا من العرب، سواء كانوا سوريين أو عراقيين أو مصريين أم فلسطينيين، فلم يكن تعاملهم على المستوى الأخلاقي ولا الإسلامي المطلوب، وكانت مشاكلهم مع المركز لا تنتهي. وبقدر ما كانت ألمانيا ذكرياتها طيبة وإنجازاتها ممتازة، كانت قاسية علي جدا من الناحية النفسية، نتيجة ما عانيته من إخواننا (الإخوان المسلمين) الموجودين هناك، أو عموم العرب والشرقيين، فلم يكن أكثرهم على المستوى المطلوب.
الصدام مع الحكومة الألمانية:
بمناسبة المدرسة، فقد كان نظام التعليم في ألمانيا كله مجانا حتى الجامعة، فكانت المدارس الخاصة إذا وصل عدد تلاميذ الفصل 24 تلميذا، تقوم الحكومة الألمانية بالإنفاق على هذا الفصل كله. ولأن عدد تلاميذ كل فصل بالمدرسة كان أقل من ذلك، فقد كانت الحكومة تقوم بدفع نسبتها فقط.
وبعد تبديل ناظر المدرسة، دخلنا مع الحكومة في مشكلة وضع المناهج العربية بالمدرسة، حيث إن الحكومة الألمانية كانت قد اتفقت مع الحكومة التركية العلمانية على أن المناهج العربية الإسلامية التي تدرس في مدارسنا لا بد أن يؤخذ عليها موافقة من الحكومة التركية العلمانية. وكان وضعا شاذا، فقمنا بالاعتراض، وقلنا إن هذه المدرسة تسمى المدرسة الإسلامية الألمانية، فنحن نضع مناهجها، ولا يصح أن تضعه الحكومة الألمانية ولا الحكومة التركية. ولكن المشكلة تكمن في أن الحكومة الألمانية ملزمة باتفاقياتها مع الحكومة التركية، ومع ذلك يشاء السميع العليم أن يقتنع المديرون التنفيذيون بوجهة نظرنا، وقمنا نحن بوضع مناهج المدارس، وكانوا يحترموننا جدا والحمد لله.
أيضاً كانت هناك أخطاء إدارية وتنظيمية لدى بعض الإخوان، فقد كان المركز الإسلامي في ميونخ مؤسسة تعليمية واجتماعية. وهي مؤسسة مستقلة، ولكنها تتبع الجماعة الإسلامية في ألمانيا، وهي جماعة لها جمعية عمومية ومجلس إدارة، وكانت الجمعية تضم المراكز الإسلامية في ألمانيا وعددها عشرة. ولم يكن كل الجمعية من الإخوان بطبيعة الحال، بل كان أكثرهم من الإخوان، فلا يصح من الإخوان كجماعة أن تتدخل في أعمال الجمعية، ولكن يجب أن تكون الاختصاصات واضحة، والانطلاق في العمل يكون أوضح.
هذا ما كنت أفهمه وأعمل على ترشيحه، فليس من حق رئيس الإخوان في ميونخ - مثلاً - أن يأتي ويقيدني ويوجب علي أن آخذ رأيه في كل قرار أو أمر يخص المركز، وعندما حاول ذلك، قلت له: أنت لا شأن لك بهذا المركز، تستطيع فقط إذا أردت أن تتفاهم معي على أن تستخدمه وتعمل فيه نشاطات، فأهلا وسهلا بك، أما غير ذلك فلا. وكان الحاج عباس السيسي موجودا في فرانكفورت، فذهبوا ليشتكوا له ذلك، فقال لهم: إنه على صواب، فهو مدير المركز وصلته ليست بكم، فصلته بالمرشد العام مباشرة، أو بالجماعة الإسلامية التي يعمل معها، فتأدبوا وتفهموا ذلك، ومن وقتها صار العمل في المركز على هذا الحال.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (28)
جيراننا بيت دعارة:
كان من المشكلات أيضا؛ وجود بيت دعارة لا يفصله عن المركز إلا سور من النباتات. والنساء كن يقفن في النوافذ عرايا كما ولدتهن أمهاتهن، وينمن في الشمس عرايا، فرفعنا دعوى قضائية، وتضامن معنا أهل الحي. والبيت كان ثمنه 750 ألف مارك، فعرضنا على المحكمة شراءه. جمعنا 250 ألفا وبقي نصف مليون، وعندما علم الملك خالد بذلك، قال أنا سأقوم بدفع المبلغ. وبالفعل أرسل الملك خالد المبلغ للسفارة السعودية في بون، ولكن الذين في السفارة منعوا عنا هذا المبلغ، فجاء رجل صالح، وهو المهندس حسين مرسي (وهو ملياردير مصري كبير) وعرف الوضع، فكتب شيكا وهو في مكانه بخمسمائة ألف مارك، واشترينا المنزل، وأقام فيه أحمد خليفة بعض الوقت، والآن يقيم فيه فندانفر.
وفي يوم من الأيام، فوجئت بسيدة ألمانية ومعها ابنتها تأتي إلى المركز الإسلامي؛ وتطلب مني أن أجد لابنتها زوجا مسلما، لما وجدته من حسن خلق ومعاملة المسلمين.
صراع:
الأتراك في ألمانيا فرق كثيرة، فكان هناك السليمانية والعاكفية والصوفية والعلمانية والأتاتوركية، وكل منهم له أنصار، ولكن كانت الفرقة المنظمة، كتنظيم الإخوان المسلمين، وبيننا وبينهم تعاون كامل هم "ملي جرش"، لدرجة أن بعض الإخوان كان يرأس هذه المجموعة. وكانت هذه هي الفرقة التابعة لأربكان، وأذكر أنني في إحدى المرات دعوت أربكان في يوم جمعة، ودعوت الشيخ المطراوي - رحمه الله - في نفس اليوم، وكان عضو مجلس شعب وقتها. وخطب الشيخ المطراوي- رحمه الله - الجمعة، وكان أربكان مذهولا من خطبته، ثم خطب بعده أربكان وامتلأ المركز وما حوله بالناس، فكانوا حوالي عشرة آلاف أو خمسة عشر ألف شخص. وقد كنت أنا الذي استقبلته بالمطار فهو صديق حبيب إليّ، وفي اليوم التالي اتجه الشيخ المطراوي إلى نورنبرج، ولكنه مات - رحمه الله - في محطة القطار.
وإذا كنا قد قمنا بعلاقات متميزة وأنشطة عديدة للعرب والأتراك، فإننا لم ننس الألمان أنفسهم، فكثفنا العمل معهم بنشاط. وكان الأخ أحمد فندانفر من خيار الناس الذين يفهمون الإسلام كما نفهمه، وكان له نشاط واسع جدا على مستوى ألمانيا كلها، فكان يصدر مجلة شهرية ناجحة جدا اسمها "دير إسلام"، وعمل جمعية للمسلمين الألمان في فرانكفورت، وكان لهم أنشطة أسبوعية وأنشطة شهرية وأنشطة سنوية، والحق يقال فقد كانوا أكثر منا تنظيما ودقة واحتراما لمواعيدهم، وكان أحمد فندانفر يأتي في بداية كل سنة ببرنامجه السنوي باليوم والساعة ويضعه أمامي على المكتب، فما اعتذر في مرة من المرات عن موعد طوال السنوات الثلاث التي قضيتها معه.
لا أقبل المجاملة:
كنا نقيم احتفالات كثيرة لمناسبات عدة، ولكني كنت أرفض أن تقام احتفالات في مركز ميونخ لدولة معينة لمناسبة فيها، ولكن كنا نقيم الاحتفال لمناسبة عامة ونحضرها جميعا، وإذا قمت بوضع برنامج للحفل فلا بد أن ينفذ؛ لأني لو سمحت للعراقي سيغضب السوري، وهكذا.. فهم كانوا عبارة عن عصابات، وكان وقتها بينهم خلافات كثيرة. وذات مرة قمت بعمل حفل حضره السفراء، وكان السفير السورى يعلم أن السفير العراقي موجود، فأراد أن يهدده، وحدثني في مكالمة تلفونية! فقلت له: يا أخي الكريم كان أجدر بك أن تحضر معنا الحفل بدلا من الاتصال التلفوني، لتشهد بنفسك ما في الحفل، وأنهيت المكالمة. وأحب السفير العراقي أن يتكلم فاعتذرت له، وقلت له إن البرنامج محدد. وبعدها بقليل حضر السفير الإيراني، وأحب أن يقوم بعمل احتفالات الثورة في المركز، فاعتذرت له، فأراد أن يدفعني للموافقة، فقدم لي شيكا غير محدد القيمة، فأخبرته أنه لو قدم لي كل مال الدنيا لأغير منهجي وأسلوبي؛ فلن يكون هذا أبدا. وقلت له: لو أقمت لك حفلا للثورة الإيرانية، لا أستطيع أن أمنع القذافي أن يقوم بعمل حفل لثورته، ولا أستطيع منع صدام من عمل حفل لثورته.. وأنا ضد هذا الأسلوب، فأنا هنا لخدمة المسلمين وليس لخدمة الحكومات. وكان قد أحضر لي صندوقا مملوءا بالمصاحف، فرفضت قبوله، فقال لي: هذا للمركز.. ويشاء الله السميع العليم أن يُنقل هذا السفير من ألمانيا، فجاءني وقال: أنا لم أزر أحدا قبل ترك منصبي هنا إلا أنت.
بين إيران والخارجية المصرية:
وفي أواخر وجودي في ألمانيا، احتجز بعض الصيادين المصريين في إيران، وحاولت الحكومة المصرية حل هذه القضية، ولم يمكنها. وفوجئت بدعوة تأتي لي من الحكومة الإيرانية؛ تقول لي فيها إنني إذا حضرت احتفالات الثورة فسأعود بالصيادين. وكانت العلاقات الدبلوماسية وقتها مقطوعة بين مصر وإيران، فقلت لنفسي: لا بد أن هذا فخ.. فاتصلت بوزارة الخارجية المصرية وأخبرتهم بالعرض المعروض علي، وقلت لهم: إنني أخشى أن أذهب لإيران فتسببوا لي متاعب أنا في غنى عنها، فهل لديكم استعداد أن تعطوا لي تصريحا بالذهاب لإيران؟ فقالوا: تفضل يمكنك الذهاب.. ولكني رفضت وقلت: إن لم تكن هناك ورقة رسمية تصرح بذلك فلن أذهب، حتى تكون ضمانة لي بعد ذلك. وعدت إلى مصر، وكان وقت الانتخابات. واتصلوا بي، وقالوا: لقد أرسلنا الخطاب لفرانكفورت والقنصل الخاص بنا سيقدمه لك هناك، لكن في ذلك الوقت كانت مواعيد احتفالات الثورة الإيرانية قد مرت، وانشغلت في الانتخابات ولم أذهب.
حجزوني في المطار:
من العجيب أنني منذ خرجت من السجن في 1974 وحتى عام 1984، حينما شغلت منصب مدير مركز ميونخ، لم يوقفني أحد في المطار، ولم يسألني أحد عن شيء إلا مرتين فقط.. في عام 1983 أوقفوني أولا في مطار القاهرة، وكنت ذاهبا بدعوة من وزير الخارجية لدولة بنين في غرب إفريقيا، فأوقفوني وقاموا بفتح حقيبتي، فوجدوا فيها أوراقا كثيرة؛ لأني عندما أسافر لغرب إفريقيا أمرّ على السنغال ومالي وساحل العاج وبنين، فموظف أمن الدولة في المطار قال لي: ما هي بنين هذه؟ فقلت له: هذه دولة ولها سفير لديكم هنا. عندها تركوني أسافر، ولكن من العجيب جدا أنني عندما وصلت إلى بنين، وبالرغم من دعوة وزير الخارجية لي، أعادوني من المطار، ولم يُدخلوني، فعدت ليلا إلى ساحل العاج.
مرت السنوات الثلاث التي كان الأستاذ عمر قد حددها لي للبقاء في ألمانيا، وكنا فيما بين 1984 و1987، وقد قمنا بأنشطة ضخمة جدا، وانضبط المركز - بفضل الله - انضباطا جيدا، وعمل بصورة طيبة جدا. فبدأت أتجهز للرحيل، وكنت قبلها قد أرسلت أولادي الصغار مع زوجتي إلى مصر؛ لأنني خشيت عليهم هناك، فهم بدأوا يكبرون، وأصبحوا في حوالي الصف الخامس والرابع الابتدائي، والحياة هناك ليست مناسبة لهم. وكنت أنوي وقتها الذهاب من ألمانيا إلى الرياض، لحضور مؤتمر هناك، ثم قررت أن أمر على مصر أولا؛ لأرى أولادي ثم أذهب إلى الرياض، ولكن كان لله تعالى تقدير آخر.
عدت إلى مصر عام 1987، حيث توليت قسم الشباب والطلاب من جديد بجماعة الإخوان، ثم اخترت عضوا بمكتب الإرشاد منذ عام 1987م.
وعندما جئت إلى القاهرة، حدثت لي أزمة صحية شديدة في نفس اليوم الذي كنت سأسافر فيه إلى الرياض، فلم أستطع السفر وبقيت.. لكن كنت على موعد آخر وحدث جديد، هو انتخابات مجلس الشعب.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (29)
في قسم الطلاب:
كان الأستاذ عمر يلح عليّ منذ فترة أن أدخل مكتب الإرشاد، ولكنني كنت أتعذر بالعبء الذي عليّ؛ لأنني أحببت أن يكون عملي محددا، فقد كنت قبل 1954 مشتتا بين قسمي الطلاب والرياضة، وفي السجن كان لي أيضا أعمال كثيرة، ولما عدت من السفر أحببت أن يكون عملي محددا. فقال لي الحاج مصطفى مشهور إن قسم الطلاب يحتاج لك. وكانت هناك بعض الخلافات بين الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح والدكتور محمود عزت في كيفية إدارة قسم الطلاب وقسم الجامعات، ووافقت على العمل في قسم الطلاب.
وقد وجدت في قسم الطلاب شبابا يشرح الصدر، وأصبحوا قيادات يعتمد عليها، فقلت لمسؤولي قسم الطلاب: لقد كبرتم على قسم الطلاب، ولديكم ستة أشهر على الأكثر وتتركون قسم الطلاب لتعملوا في مجال آخر وتحضرون إليّ نوابكم ليعملوا بدلا منكم! ومن هنا كانت النقابات، فكل هؤلاء الذين كانوا في قسم الطلاب رحلوا إلى النقابات وقسم المهن الذي ازدهر بهم، وعملت بعد ذلك في قسم الطلاب مع نوابهم، حتى تركته للدكتور رشاد.
في مجلس الشعب:
لم أتمكن من السفر، وجاءني عدد من الإخوان، أذكر منهم الدكتور محمود عزت والدكتور أسامة رسلان وقالوا لي: لا بد أن ترشح نفسك على رأس قائمة شرق القاهرة. وكنت مريضا، وليس في ذهني الانتخابات، ومضت علي ثلاثون عاما غائبا عن الشارع المصري؛ عشرون سنة في السجن وعشر في الخارج، ولكنهم رشحوني وسايرتهم استجابة للإخوان.
وفي الحقيقة، وجدت روحا طيبة جدا من الإخوان، ووجدت الشارع لم ينسني، وما زال كثير من الإخوان الذين يعرفونني أحياء يرزقون، وكانوا يسيرون معي في مسيراتنا.. وحققنا نجاحا باهرا. وكان يقود حملتي الانتخابية اثنان، هما أسامة رسلان وأسامة حجي، وهما من خيرة من عرفت من الإخوان المسلمين حتى اليوم، وجزاهما الله عني خير الجزاء.. وكانت النتيجة أننا دخلنا مجلس الشعب، وكنا ثلاثة من منطقة واحدة، أنا والدكتور عبد الحي الفرماوي ومختار نوح.
كنت واحداً من 35 عضوا مثلوا كتلة الإخوان المسلمين في البرلمان سنة 1987م، وكنت أرى أن الإخوان حققوا نجاحا في هذه الدورة؛ لأنهم كانوا دائماً يتكلمون في المصالح العامة ومراقبة الحكومة كهدف أساسي للمجلس، وكذلك مراقبة ومناقشة القوانين والميزانية... إلخ. وأنا شخصيا استفدت كثيرا في مجال السياسة، وكيف تصنع الأحداث من المنبع.
ومما أذكر أني ناقشته في البرلمان؛ موضوع أمن المواطنين، وظهور مراكز قوى جديدة، وأيضا إصلاح نظام التعليم ومنهج الإصلاح.
وأتذكر مما قلته في إحدى الجلسات:
"نقطة هامة جداُ أيها الزملاء؛ أعلنها من فوق هذا المنبر.. موضوع الأمن، فهذه نقطة خطيرة، فإن رجال الشرطة هم إخوان لنا وأحبابنا، ورسالتهم عظيمة ولا نستطيع أن نعيش بدونهم بأي حال من الأحوال، ولكن كون هذه الأجهزة تأخذ لنفسها وتدعي لنفسها ما ليس لها، أي أن تتدخل في شؤون غيرها بحجة حفظ الأمن، فإن هذا أمر خطير جدا ومخالف للقانون، وأخطر ما يمكن أننا بعد ذلك نصيح ونقول مراكز القوى.
إن رجال الشرطة لهم رسالة عظيمة، نؤيدها ونقف بجوارها، أما أن يحس رجال الشرطة بأنهم صنف غير الناس، ولهم سلطان غير الناس، فإن ذلك لم يخوله لهم القانون، ويصبح هذا سمة استعلاء واستكبار على بقية الشعب، ويُخرج رجال الأمن عن المساءلة، هذا أمر يحتاج إلى مراجعة.
مدارس الرضوان:
بالنسبة لمدرسة الرضوان، فقد قالوا عن مديرها مصطفى سليم إنه جعلها تكية له مع أنه لا يوجد أحد في الإخوان يقوم بالعبء الذي يقوم به مصطفى سليم، وهو الذي حملها منذ أن كانت فصلين حتى صارت كما هي عليه. وحسب معرفتي به، فهو يعيش لها ليلا ونهارا، فيجب علي أن أضع حوله إدارة تعينه وتتعلم منه. وهذا هو الذي فعلته عندما كنت رئيسا لمجلس إدارتها في فترة من الفترات، وعندما كانوا يختلفون، كنت أجلس معهم جلسة واحدة وينتهي الموضوع، ولم أكن أتدخل في غير ذلك أبدا؛ لكي أتركه ينطلق، مع أني رجل تربوي وأنا رئيس مجلس الإدارة.
وعندما أرادوا أن يجعلوا المكتب الإداري يقودها، قلت لهم: إن المدارس مؤسسة تربوية لا يقودها إلا رجل تربوي، وليس شخصا يجلس في مكتب إداري يأتي ليديرها، والقرار الأول والأخير يكون فيها لمدير المدرسة، وهناك مجلس إدارة يتكون من رئيس الجمعية التي تتبع لها المدرسة؛ والموجه التربوي ومدير المدرسة ومدير البنات وأحد المدرسين، فمجلس الإدارة يضع الخطة والتوجيهات ويعطيها لمدير المدرسة لينفذها، ويجب أن تحترم هذه الأمور. وكان الحاج مصطفي مشهور موجودا، ووجدت رئيس المكتب الإداري غاضبا مني، فلم أسأل عنه.
انتخابات 1995م:
وبالنسبة لانتخابات 1995، فقد طلب مني الإخوان أن أرشح نفسي في حدائق القبة. ولم أكن موافقا على ترشيح نفسي، ولكن الإخوان أصروا على ذلك، والمعركة الانتخابية التي حضرتها في 1987 غير تلك في 1995 تماما. فانتخاب 1987 شيء وانتخاب 1995 شيء آخر، فكانت الأولى فيها حركة وتجمعات، أما الثانية فلم تكن انتخابات بالمعنى المتعارف عليه عند البشر، بل كانت عبارة عن متابعة وإجرام ومطاردة، وأشياء سيئة جداُ جداُ، إلى أن أتى يوم الانتخابات ووجدت أن الحال غير معقول، واللجان الانتخابية عبارة عن فوضى، والصناديق تغلق رغم أنف الجميع. وكان عدد المرشحين أمامي 36 شخصا، وكانوا يلقون القبض على الإخوان، لدرجة أنه في لجان السيدات؛ عندما وجدت الحكومة إصرارا منهن على الجلوس فوق الصناديق حماية لها من التزوير، قالوا : قنبلة قنبلة، ففزع الجميع وظلت الأخوات جالسات فقبضوا عليهن.. فكانت صورة مزرية جدا، ولذلك فقد انتظرت فقط حتى أمّنت خروج بقية إخواننا، ثم غادرت المكان لعلمي أنه لن يكون هناك شيء. ولا أكتمكم أن حالتي النفسية ساءت جدا من التصرفات المنحطة، حتى فوجئت بمن يطلبني خمس دقائق.
خمس دقائق وتعود:
في عام 1996 قبض عليّ أنا ومجموعة من قيادات الإخوان في مصر، ووجهت لنا عدة تهم، منها إحياء تنظيم جماعة الإخوان في مصر، ومحاولة قلب نظام الحكم.. إلى آخر قائمة التهم المحفوظة. وأغلق المقر الخاص بي، وما زال مغلقا. وكالعادة مع الإخوان، فقد تم تحويلنا إلى محاكم عسكرية لتحكم بما يراه الحاكم العسكري، دون أن يكون هناك استئناف؛ لأنهم يعلمون أننا لو حوكمنا أمام القضاء العادي فلن نخرج براءة فقط، بل سندينهم أيضا.
ولقد سبقتنا محاكمات 1995، وهي كانت تضم حوالي 80 أخا من خيرة الإخوان. ولقد بذلنا جهودا مضنية، سواء على المستوى المحلي أو المستوى العالمي، وتجاوب معنا ملايين البشر ببرقياتهم، وعشرات المحامين من مصر ومن أنحاء العالم (من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا)، لدرجة أن البروفسور أربكان أرسل محامين في طائرة خاصة. وكانت هيئة الدفاع من مصر من كبار المحامين ومن أعلام القانون، ولما وجدوا أنهم يترافعون أمام أصنام من البشر وأمام أوضاع شاذة، اضطروا إلى الانسحاب. وفي الحقيقة أنني نسيت أننا لا نتعامل أحيانا مع بشر من العقلاء.. وحسبنا الله ونعم الوكيل.. وقد كان سبب اعتقالي حزب الوسط.
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (30 والأخيرة)
حزب الوسط:
يرجع موضوع حزب الوسط هذا إلى أيام الأستاذ عمر التلمساني، وأنا شخصيا أرفض كلمة أي حزب يمثل الإخوان المسلمين، وأقول إن الإخوان "يئة إسلامية جامعة" وليست حزبا، والحزب جزء يخرج منها يحمل عبء جزء من منهجها.. وعندما تأزمت الأمور في المهنيين، وكان يشرف عليها د. عبد المنعم أبو الفتوح، طُلب مني أن أترك الطلاب وأشرف على المهنيين. وكان إخوان المكتب قد اعتمدوا اللائحة الجديدة للمهنيين، وفي هذا الوقت كان الأخ محمد عبد اللطيف، رئيس القسم، معتكفا في بيته، فطلبت من الأخوين أبو العلا ماضي والدكتور سيد عبد الستار، وكانا وكيلي القسم، عمل الاجتماع للقسم بكامل هيئته. ولما اجتمع الإخوة، عرضت عليهم اللائحة الجديدة، وطلبت منهم اقتراحاتهم لتشكيل القسم وفقا للائحة الجديدة، وبدأ بعض الإخوة في تقديم الاقتراحات.
وقلت للمجتمعين: اللائحة الجديدة بين أيدينا.. نريد أن نشكل قسم المهنيين الجديد على أساسها، فاقترحوا عدة اقتراحات. ولم يعجبني أي اقتراح منها، فكلها تقوم على الثورة وإلغاء القديم، فقلت لهم: يا إخواننا إنني لم أبدا من فراغ ولكني جئت إلى مؤسسة عريقة لها تاريخها ولها عملها ولا أحب أن أبدأ من الصفر، ولكن أحب أن أبدأ من حيث انتهينا، لذلك أقترح عليكم أن قسم المهنيين القديم بكامل أفراده وبرئيسه الذي كان عليه قبل أن يقدم استقالته يأتي وهو الذي يضع الخطة لتكوين القسم الجديد على أساس اللائحة الجديدة، ووافقوا على ذلك. فقلت: أما وقد وافقتم، فيقوم الأخ محمد عبد اللطيف ويجلس بجانبي هنا كرئيس للقسم. وفعلا قام الأخ محمد عبد اللطيف وجلس بجواري.
وأسندوا إليّ تولي هذا الأمر، فجمعت قسم المهنيين، وقلت لهم: يا إخواننا لقد جاءتني موافقة من المكتب بإنشاء حزب، فلنجتهد لنجهز برنامجه والخطوات الأولى له حسب القوانين واللوائح المصرية، ونقدمه للإخوان. وذهبت إلى الإسكندرية، وكنت أتابعهم، وأرسلوا إليّ القانون الأساسي وبرنامج الحزب إلى المكتب. وأظن ذلك كان مع هشام جعفر، فذهب ليبحث عني في الروضة، فوجد إبراهيم شرف يحدثني في الإسكندرية، فعلم أني لست موجودا، وخوفا منهم من أن ينكشف الأمر للأمن (ولا أتهم نية أحد، وهذا ما قالوه لي) لم يعرضوه عليّ، وقاموا بتقديمه إلى لجنة الأحزاب (في وزارة الداخلية) مباشرة، وبدون عرضه على مكتب الإرشاد. وعندما قدمت من الإسكندرية، فوجئت بهم يحضرون إليّ البرنامج والنظام الأساسي ليلا، بعد أن كانوا قدموه في الصباح للجنة الأحزاب. فقلت لهم: كيف تقدمونه دون أن نعرضه على المكتب أولا؟ فقالوا خشينا أن يُعرف عند المباحث. وسواء كنت مقتنعا بهذا منهم أو لا، فهذا ما حدث بالفعل، ولا بد من معالجته بسرعة، وقلت لهم: الأستاذ مأمون يعلم؟ قالوا: لا.. الأستاذ مصطفى يعلم؟ قالوا: لا، فقلت لهم: حالا تعطون نسخة للأستاذ مأمون، ونسخة للأستاذ مصطفى، ثم نعالج هذا الخطأ. وذهبوا بالفعل لإعطاء هذه النسخ.
قرأت برنامج الحزب فوجدته ممتازا، وبالضبط كما اتفقنا عليه، وفيه أشياء طيبة جدا، ولكن الخطأ الخطير جدا هو أن يقدم دون أن يعرض على المكتب؛ لأنه أعلم بالوضع وصاحب القرار متى نتقدم. وقلت: سأتحمل هذا أمام المكتب، ففي الحقيقة، لقد كان إعلان الحزب لطمة على وجه الحكومة في ذلك الوقت. وذهبت إلى المكتب وقلت لهم: يا إخواننا ما حدث خطأ، وأنا أتحمله، ولكن يجب أن نعالج الأمر ونرى أين تكون المصلحة.
وكان تصريح الأستاذ مأمون للإعلام في غاية الجمال، فعندما سألوه، قال لهم: مجموعة من شباب الإخوان أحبوا أن يكونوا حزبا، ونحن لم نحظر عليهم ذلك.. وقال الحاج مصطفى مشهور نفس الكلام. واجتمع المكتب وقررنا أن يكملوا ما بدأوه، وإذا سئلنا عن الأمر من خارج الإخوان نقول كما قال الأستاذ مأمون، وإذا سئلنا من الداخل نقول: نعم نحن لم نحظر عليهم، ولكن هناك بعض الأخطاء الإدارية ونحن في سبيل علاجها. وجعلت إبراهيم شرف يكتب هذا القرار وقدمه لأعضاء المكتب جميعا؛ حتى تكون تصريحاتنا كلها واحدة.
بيعة المقابر:
كنت وقتها أتجهز للسفر إلى السعودية لأداء العمرة، وكانت حالة الأستاذ حامد أبو النصر الصحية متأخرة جدا، فأحببنا أن يعرض المرشد الجديد (الأستاذ مصطفى مشهور) على مجلس الشوري العالمي حتى يبايعوه، وذهبت إلى الأستاذ حامد أبو النصر، وكان في غيبوبة وأفاق، فسلمت عليه، وذهبت إلى السعودية. واتصلت بإخوان مجلس الشورى، وأعلمتهم بترشيح الأستاذ مصطفى مشهور مرشدا للإخوان، وأن الأستاذ مصطفى مشهور خليفة الأستاذ حامد أبو النصر، وإن كنا لم نستطع أن نجمع مجلس الشوري العالمي.
وجاءتني في الصباح محادثة من لندن بأن الأستاذ حامد أبو النصر قد توفي - عليه رحمة الله - وأعلن الإخوان الأستاذ مصطفى مشهور مرشدا عاما، وهم في المقبرة، والجرائد كتبت هذا الكلام، وعلمته وأنا في السعودية.
أزمة جديدة:
كنت مطمئنا وأنا خارج مصر أن موضوع حزب الوسط قد أنهيناه، ولكني عدت فوجدت الأمور مضطربة جدا بين الأستاذ مأمون وأعضاء حزب الوسط، وبين أعضاء المكتب كله وكونوا لجنة تحقيق، وفيها قال كل الشباب إن الأستاذ عاكف هو الذي أمرنا بذلك، فقلت لهم: نعم أنا الذي أمرت، وإذا كنتم تريدون محاكمة فلتحاكموني أنا.
جمعت كل إخوان الحزب عند حسن مالك، وقلت لهم إن موضوع حزب الوسط ليس هو أول ولا آخر الإخوان، وسواء كان قرار المكتب صوابا أم خطأ، فما يهمني هو الجماعة.
وفي الحقيقة، وافق المجتمعون على ذلك، والذي تضايق وتضجر فقط محمد عبد اللطيف وصلاح عبد الكريم. وعدت من الاجتماع حوالي الساعة الثانية عشرة، وفي الساعة الواحدة كان الأمن يلقي القبض عليّ.
دخلنا السجن، وكان معي الحاج حسن جودة وستة من أعضاء مكتب الإرشاد. وتحدثنا في الموضوع من الألف إلى الياء، واتفقنا أن نغلق الموضوع حتى نخرج؛ لأن الطرف الآخر غير موجود، لكن بعض الإخوة الثرثارين ظلوا يتحدثون، فاضطررنا لفتح الموضوع، وقلت لهم ما حدث بالضبط في قضية حزب الوسط، وتوقف الجميع بعدها عن الكلام والتجريح، وانتهى أمر حزب الوسط داخل السجن.
عندما خرجت من السجن ظن الناس أن بيني وبين المكتب كلام شديد، فقلت لهم: نحن إخوان مسلمون، والكلام شيء والأخوة شيء آخر، وعلاقتي بالإخوان طيبة.
مرشد عام:
في 2004م توفي المستشار محمد المأمون الهضيبي، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين. وقد اجتمع مكتب الإرشاد ليقرر انتخاب مرشد جديد للإخوان، فتقدمت لهم باقتراح بأن لا يترشح لمنصب المرشد العام من هو فوق السبعين عاما حتى يعطي الفرصة للجميع. وظل الأمر وسط الإخوان لمدة شهرين، وفي هذه الفترة تم اختيار الأخ الفاضل محمد هلال قائما بأعمال المرشد العام. وأجريت الانتخابات وفوجئت بانتخابي مرشدا عاما للإخوان المسلمين، وحينما تم اختياري كان سني 76 عاما، فقلت لهم حينما أصل إلى سن الثمانين عاما سأقول لكم السلام عليكم وأترك المكان.
لكن مرت الدعوة بظروف قاسية، وكان الوضع بين الإخوان والنظام شديد، فضغط عليّ الإخوان أن أكمل فترتي (ست سنوات) بسبب ما تمر به البلاد والدعوة، فقبلت أن أكمل فترتي حتى أتممتها في 13 كانون الثاني/ يناير 2010م، واخترت الدكتور محمد حبيب والمهندس خيرت الشاطر والدكتور حسن هويدي نواباً لي.
مصادر الترجمة:
- قناة الحوار ، برنامج مراجعات، د. عزام التميمي.
- موقع عربي 21 .
- مواقع الكترونية أخرى.
وسوم: العدد 1080