معرفتي بأستاذي المؤرخ الكبير الدكتور شوقي أبو خليل رحمه الله

وكنت -أنا حينها- طالبًا في الإعدادية في ثانوية "دار الأرقم بن أبي الأرقم الشرعية"، في مدينة منبج، الواقعة شَرقِيَّ حَلَب بنحو 81 كِيلًا.

في تلك الآونة كنت أرى في مكتبة والدي بعضا من كتب أستاذنا د. شوقي أبو خليل كان أبي -رحمه الله- قد اشتراها واقتناها، وأضافها إلى مكتبته العامرة والمُنوَّعة، بالكتب الدينية والأدبية والتاريخية، وحتى الفلسفية؟!

كان مِن كتب د. شوقي فيما أذكر -في مكتبة والدي- كتاب: (الإسلام في قفص الاتهام)، و(غريزة أم تقدير إلهي)، و(الإنسان بين العلم والدين)، و(الإسلام وحركات التحرر العربية)، وكتبا أخرى له، لم أعد أذكرها.

فكنتُ -حينما آتي لزيارة أهلي في بعض العُطل والإجازات- أقرأ وأطالع بعضًا من تلك الكتب، وأذكر أني قرأت منها كتاب (غريزة أم تقدير إلهي) كاملا؛ فقد شدَّني إليه بأسلوبه المُشوِّق، وكونه يتحدث عن عجائب بعض الحيوانات، وغرائزها العجيبة التي رَكَزها الله فيها -سبحانه- أليس هو القائل: (والذي قَدَّر فهَدى*). سورة الأعلى.

ومما قرأت فيه -من كتبه واطلعت عليه- كتاباه الفَذَّان في بابهما (الإسلام في قفص الاتهام)، و(الإسلام وحَرَكات التحرُّر العربية).

ثم أصبحت أرى بعض كتبه في مكتبة مدرستنا في "دار الأرقم" بمنبج، وعند بعض الأصدقاء.

واشترى والدي مزيدا من كتبه ككتاب (من ضيع القرآن)، و(أطلس التاريخ العربي الإسلامي)، وغيرهما.

ودار الزمان دورته، وكرَّت السنون حتى وصلت سنة 1406هـ - 1986م

وتَخرَّجت في مدرسة "دار الأرقم بن أبي الأرقم" في منبج، وحزت شهادة الثانوية منها في ذلك الصيف من السنة المذكورة.

وسجلت مع بعض زملائي في "كلية الدعوة الإسلامية" فرع ليبيا بدمشق؛ إذ لم يكن مجال لقبولنا في "أزهر مصر" بسبب انقطاع العلاقات بين سورية ومصر؛ لِتوقيع أنور السادات "اتفاقية كامب ديفيد" المشؤومة، والتي قاطعه بسببها جُلُّ الحُكَّام العرب الشُّرفاء ظاهرا في ذلك الزمان، رحمه الله؛ فقد أصبحنا نَحِنُّ إليه بسبب تَصَهيُنِ جُل حُكَّامِنا الآن، مع بالغ الأسى والأسف:

رُبَّ يَومٍ   بَكَيتُ مِنهُ ، فَلَمَّا               صِرتُ في غيره بَكَيتُ عليه

وفي ذلك الصيف تقدمت لامتحان "كلية الدعوة" في "مجمع أبي النور الإسلامي"- بحي ركن الدين من دمشق- في إدارة "معهد الأنصار"، مع بعض زملائي من "دار الأرقم" بمنبج، وآخَرِين من جُل المحافظات السورية؛ فكتب الله لي النجاح، وقُبلت طالبا في "كلية الدعوة الإسلامية" فرع دمشق، مع مَن قُبِلَ، وكان على رأس لجنة المُمتَحِنِين أستاذنا الجليل الدقيق الأستاذ غَسَّان جَبَّان الدمشقي حفظه الله تعالى.

ثم بدأ الدوام في الجامعة -"كلية الدعوة الإسلامية"- للعام الدراسي الأوَّل "السنة الأولى"، وصعدنا إلى الطابق الأخير في "مجمع أبي النور"، وولجنا إلى قاعتنا للسنة الأولى، وكانت مُحاذية لمكتب أمين سر الجامعة الأستاذ أسامة الحكيم الدمشقي، حفظه الله.

وبدأت نتعرف إلى أساتذتنا في الجامعة وكلية الدعوة؛ فعرفنا العلامة الشيخ محمد حمزة الطواشي النحوي مُدرس النحو، والشيخ عمر الصبَّاغ مدرس التفسير، والشيخ أسامة الخاني مُدرس القرآن الكريم، ومحمد ياسين الحافظ مدرس مادَّة الصرف، والأستاذ فاروق آقبيق مدرس الإنجليزية، ود. محمود البرشة مدرس الفقه، وعمر لطفي العالم مدرس الاستشراق، والأستاذ صبحي الزين مدرس علم النفس ...، رحم الله من توفي، وحفظ الباقين.

وفي يوم من الأيام جاءت مُحاضرة السيرة النبوية العطرة؛ فإذا بأستاذ يدخل قاعتنا، فارِعِ الطول، أسمَرِ اللون حِنطِيِّه، هَشٍّ بشٍّ، جَهُورِيِّ الصَّوت، وإذا به يقول: "السلام عليكم ورحمة الله"، فقمنا له، -وكُنا يومئذ في الجامعة نقوم لأساتذتنا- لا ككثير من طلاب هذا الزمان يدخل عليهم مُدرِّسُوهم، فلا يَتَحَرَّكُون، بل بعضهم يبقى مَادًّا رِجليه؟!

فرددنا عليه السلام، وبدأ يُحدثنا عن أهمية السيرة النبوية ودراستها، وعن كتابنا المُقرَّر فيها وهو "خاتم النبيين" للعلامة الشيخ محمد أبو زهرة.

بعض المواقف والأحاديث والمَهارات سمعتها وعرفتها من د. شوقي:

ومما أذكره من مواقف مع د. شوقي، رحمه الله:

1- كان يدخل صفنا "القاعة" ويسلم علينا، ولا يتكلم بكلمة واحدة حتى يصمت الجميع، وكان يغضب جدا إذا تكلم أحد في محاضرته.

2- كان غيورًا جدا على الإسلام وسيدنا رسول الله ، وتاريخنا الإسلامي ورجالاته من الخلفاء الراشدين، ومن تبعهم بإحسان؛ -فإذا سمع شبهة أو طعنا في الإسلام وتعاليمه أو أحد رجاله- بدأ يرد على تلك الشبه مفندا إياها بالعلم الصريح، والحُجَّة الواضحة، والبرهان الساطع، ودون مهادنة أو مواربة، بلسان فصيح مبين.

3- كان يقول عن كتاب ومعجم (المُنجِد) الشهير الصليبي الذي فيه أخطاء كثيرة عن الإسلام ونبينا عليه الصلاة والسلام- والذي ألفه الأب لويس معلوف اليسوعي؛ كان يقول عنه: "المُنجِد لا يُنجِد"؟!

4- كان يقول عن الكاتب النصراني حنَّا فاخوري الصليبي، وصاحب كتاب (تاريخ الأدب العربي): "حنا الفاخوري ألفا خُوري"؟؟!!

أي هو كَذَّابٌ أشِر يُعادل في كذبه ألفِي قِسِّيس؟؟!!

5- حدثنا مرة عن كتاب (أباطيل وأسمار) للعلامة الأديب والمُحقق المصري المعروف د. محمود محمد شاكر رحمه الله، وكان مُعجبا به جدا، وكان مما قاله عن ذلك الكتاب: "إذا أردت كتابا تصحبه معك في الحل والسفر، ولا تمل منه؛ فعليك بكتاب (أباطيل وأسمار)"، وهو الذي رد فيه صاحبه -بأسلوب ساحر بارع، وساخر لاذع- على الكاتب لويس عوض وأضرابه من أذناب المستشرقين الذين نُكبت بهم أمتنا.

6- كما حدثنا مرة أخرى عن العلامة والفقيه المصري الشهير الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله- بإعجاب شديد به، وقال ما معناه: "إنه من العلماء الكِبار المُدهشين، وأنه كان يتكلم لساعات عن الإسلام مِن فكره وعقله، وكأنه يقرأ من كتاب؛ لا يتلعثم، ولا يتوقَّف، ولا يكل أو يمل"؟!

7- وأخبرنا مَرَّةً عن بعض الناس من المُصلين الذين ينشغلون عن الخُشوع في الصلاة بسلوك بعض المصلين؛ من الذين يقولون لك: "لَم تضع أصابعَ رِجلَيكَ بشكل صحيح على الأرض في السجود"؛ فيقول: "هؤلاء كان عقلهم وقلبهم عند أصابع قَدَمَي ذلك المُصلِّي، وليس في الصلاة"؟!

8- كُنَّا نراه يحضر يوم الجمعة درس الشيخ أحمد كفتارو الذي يحضره الآلاف المؤلفة من الناس في كل طوابق "مجمع أبي النور" السِّتة نِساءً ورِجالًا؛ فكان يأتي مع بعض أساتذة الجامعة كالأستاذ مروان شيخ الأرض، ويجلسون في سُدَّة المسجد، في الطوابق العُليا.

موقف صادم له بسبب حديث الأعرابي الموضوع، وخضوعه للحق:

9- ومما أذكره ولا أنساه، يوم أن دخل علينا أستاذنا شوقي وقصَّ علينا حديثا تأثر به جدا؛ فقال ما معناه: "يا جماعة هناك أحاديث إذا سمعتها لا بد أن تتأثر وقد تُبكِيك بعضها؟!". وقص علينا حديث الأعرابي -"الموضوع"- الطويل (*) الذي يقول:

"بينما النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف إذ سمع أعرابيًّا يقول: يا كريم،

--------------------------------------------------------------------

(*) أقول: وهذا الحديث علامات الوضع بادية عليه؛ - فهو موضوع مكذوب على النبي ، كما بين علماء الحديث، وكما سأبين لاحِقًا، وقد سمعته مرة بصوت المُنشد بديع الصوت محمد مرطو البابي رحمه الله- ولعل الأستاذ شوقي سمعه في جامع أبي النور؛ الذي كانت تدور فيه كثير من الأحاديث الضعيفة والواهية والموضوعة أحيانا، على لسان شيوخه المدرسين فيه، دون أن يعرفوا أنها موضوعة، كالشيخ أحمد كفتارو-رحمه الله- وغيره، وأكثر ما كان يورد هذه الأحاديث الشيخ رجب ديب رحمه الله، وغفر له.

ولانتشار هذه الأحاديث في جامع أبي النور، وبعد حادثة قص أستاذنا شوقي حديث الأعرابي الموضوع- بادر زميلنا العلامة الشيخ أحمد عز الدين، -وهو من طلاب الشعبانية ومن آل البيت- بادر إلى إلقاء مُحاضرة نفيسة خارج وقت المُحاضرات الجامعية، حول خطورة الأحاديث الموضوعة، وضرورة التثبُّت لمن يروي أيَّ حديث لرسول الله ، كيلا يقع في ارتكاب كبيرة، ويكون أحد الكذابين على المصطفى عليه الصلاة والسلام.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم خلفه: يا كريم! فمضى الأعرابي إلى جهة الميزاب، وقال: يا كريم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم خلفه: يا كريم! فالتفت الأعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا صبيحَ الوجه، يا رشيقَ القد، أتهزأ بي؛ لكوني أعرابيًّا؟ ‎واللهِ لولا صباحة وجهك، ورشاقة قدِّك، لشكوتك إلى حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم، فتبسَّم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أما تعرف نبيَّك يا أخا العرب؟ قال الأعرابي: لا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فما إيمانك به؟ قال: آمنت بنبوَّته ولم أره، وصدقت برسالته ولم ألقَه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أعرابي، اعلم أني نبيك في الدنيا، وشفيعك في الآخرة، فأقبل الأعرابي يقبِّل يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النبي صل الله عليه وسلم: مهلًا يا أخَا العرب، لا تفعل بي كما تفعل الأعاجم بملوكها، فإن الله سبحانه وتعالى بعثني لا متكبرًا ولا متجبرًا، بل بعثني بالحق بشيرًا ونذيرًا.

فهبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا محمَّد، السلام يقرئك السلام، ويخصك بالتحية والإكرام، ويقول لك: قل للأعرابي لا يغرنه حلمنا ولا كرمنا، فغدًا نحاسبه على القليل والكثير، والفتيل والقِطمير، فقال الأعرابي: أوَ يحاسبني ربي يا رسول الله؟ قال: نعم، يحاسبك إن شاء، فقال الأعرابي: وعزته وجلاله، إن حاسبني لأحاسبنه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وعلى ماذا تحاسب ربك يا أخا العرب؟! قال الأعرابي: إن حاسبني ربي على ذنبي، حاسبته على مغفرته، وإن حاسبني على معصيتي، حاسبته على عفوه، وإن حاسبني على بُخلي، حاسبته على كرمه، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم حتى ابتلَّت لحيته، فهبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا محمد، السلام يقرئك السلام، ويقول لك: يا محمد، قلِّل مِن بُكائك؛ فقد ألهيت حملة العرش عن تسبيحهم، وقلْ لأخيك الأعرابي: لا يُحاسبنا ولا نُحاسبه؛ فإنَّه رفيقك في الجنة". (*)

--------------------------------------------------------------------

(*) الحديث موضوع لا أصل له، كما نص على ذلك كثير من العلماء؛ منهم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة -كما سمعت من تلميذه د. عبد السميع الأنيس-، والشيخ الشريف حاتم بن عارف العوني في موقع "شبكة فلسطين للحوار" يوم 12/6/2008م، وحَكَمَت عليه -بالوضع أيضا- مواقع: "طريق الإسلام"، و"إسلام ويب"، و"الدُّرَر السَّنِيَّة".

فبيَّن أحَدُ زملائنا -أظنه الشيخ أحمد عز الدين ويس- بعد ذكره مباشرة، أو بعد انتهاء أستاذنا من محاضرته- بين له أن الحديث موضوع فصُدم واستحيا، لكنه قبل الحق، وخضع للدليل.

بعد سفري إلى الإمارات: وفي سنة 1412هـ - 1992م سافرت إلى دولة الإمارات المتحدة لأعمل فيها إماما وخطيبا ومدرسا.

وأثناء إقامتي ثمة لبضع عشرة سنة، كنت أتردَّد في كل عام تقريبا إلى "معرض الشارقة للكتاب"؛ فكنت أشتري بعض الكتب، ومنها ما كان لأستاذنا د. شوقي أبو خليل، رحمه الله، ومنها كما أذكر: (أطلس دول العالم الإسلامي)، و(أطلس التاريخ العربي الإسلامي)، و(الحوار دائما، وحوار مع مستشرق)، الذي اشتريته نحو سنة 1994م عند زواجي، وقرأته مع كتاب شيخنا العلامة د. محمد سعيد رمضان البوطي (هذا والدي).

ومن كتبه التي أدمنت عليها كتابه البديع (الإسلام وحركات التحرر العربية) الفذ الذي أماط اللثام عن حقيقة مهمة، ووضع الحق في نصابه، وبين تلك الحقيقة التي أخفاها العلمانيون اللئام قرونا عنا، وهي أن العلماء كانوا في طليعة المجاهدين في سبيل الله، ومن أهم أسباب تحرر أوطاننا العربية والإسلامية؛ فتحدث عن بلاد الشام وتحريرها على يد العلماء كمحدث الشام الشيخ بدر الدين الحسني "الأب الروحي للثورة السورية على الاستعمار الفرنسي"، علماء ميسلون ودورهم فيها.

وكالشيخ الشهيد محمد عز الدين القسام الذي جاهد وقاتل ثلاثة مستعمرين هم الفرنسيون والإنجليز والطليان، في سورية وفلسطين، وقُتل شهيدًا على ثرى فلسطين الطاهر عام 1935م.

وفي العراق ذكر العلامة الشيخ محمود شكري الألوسي، وغيره في مُكافحة الإنجليز المحتلين الغُشم.

كما تكلم عن دور العلماء في دحر الاستعمار في الجزائر؛ فذكر المُجاهد الكبير الأمير والعالم والشاعر عبد القادر الجزائري، والعلامة عبد الحميد بن باديس، والعلامة محمد البشير الإبراهيمي، و"جمعية علماء الجزائر".

وذكر من المغرب الشيخ محمد عبد الكريم الخطابي، وثورته بالريف.

كما ذكر شيخ المجاهدين والشهداء في ليبيا الشيخ عمر المختار.

وذكر مُجاهدة أهل مصر الشرفاء الفرنسيين، ثم الإنجليزَ اللئامَ، أمثالَ الشيخين محمد السادات، وعمر مكرم، وسُليمان الحلبي السوري، والشيخ سليمان الفيومي، والشيوخ البكريين، وثورة أحمد عرابي، والشيوخ العدوي وعليش، والزعيم الوطني مصطفى كامل ... .

كما ذكر من تونس الشيخين الجليلين محمد الخضر حسين، وعبد العزيز الثعالبي، ودورهما في دَحر المُحتَلِّ الفِرنسي البَغيض.

ومن السودان ذكر ثورة الشيخ محمد المهدي، ثم خليفته التعايشي وجنودهما، ضد الإنجليز الفُسُول.

ومن الصومال ذكر الشيخ محمد عبد الله حسن الملا، والحاج فرح عمر.

وقد أفدت من كتابه هذا -(الإسلام وحركات التحرر العربية)- كثيرا في نظمي لقصائدي في سِيَر بعض أبطال الإسلام في العصر الحديث، والتي دوَّنتها في ديواني: (في رحاب العظماء).

فرحم الله أستاذي الجليل شوقي أبا خليل، وتقبَّله في عِباده الصالحين، آمِين.

sdfsdfg1091.jpg

مُجَمَّع أبِي النُّورِ الإسلامِيُّ حَيثُ كان يُدرِّسُنا د. شَوقي

وسوم: العدد 1091