الأخ الحبيب الدكتور نديم فاضل.. في ذمة الله

زهير سالم*
zuhair@asharqalarabi.org.uk

أستاذنا الأول..

وحُق للتلاميذ أن يفاخروا بأساتيذهم

في جوار الله وذمته وواحة عفوه ومغفرته إن شاء الله…أستاذنا نديم فاضل..

توفي ليلة الجمعة/ الرابعة عشرة من رمضان لعام 1446/ في دار هجرته أستاذي ومعلمي وأخي الأستاذ الدكتور نديم فاضل رحمه الله تعالى، وتقبله في الصالحين لتطوى صفحة من ذوب الأخوة والمحبة عمرها ستون عاما…

كان أستاذا، بل كان أخا كبيرا، وسيظل أخا كبيرا، وكان له فضل سابق وسابغ، إن قلت عليّ فلأن الإنسان يحب الاستئثار، وإن قلت علينا ونحن جيل من أجيال الدعوة في حلب البهية؛ فلأنها الحقيقة التي أقول: هي هي أو هي إياها…

دخلنا في رعايته وحياطته ونحن فتيان صغار أو كبار لا أدري، وفي منزله في حي الألمجي في حلب، قد تلقينا تحت شجرة الياسمين الكثير من درس وحكمة وعلم مقال وعلم حال…

أحكي لكم قطوفا من حكاية

ولي شيوخ و أساتذة وإخوة ظلوا في قربهم وفي بعدهم وفي حياتهم وبعد وفاتهم.. حاضرين في حياتي، كلما رفعت رأسي رأيتهم ما زالوا معلمين وموجهين..

وكثيرا ما أكتب مقالا وأدبجه وأفرح به، ثم أرفع رأسي وأتساءل؛ لو عرضت هذا على شيخنا أو على أخينا فماذا سيقول، فأرى أحدهم يرفع حاجبيه أو يقطب جبينه، فأمحو غير آسف..

وكان من أولي أوليتي وسيبقى أبدا ما بقيت أستاذنا الأستاذ الداعية المربي الراحل الحبيب…

وكان أستاذنا الأستاذ نديم نبيلا حتى تقول كأنه جُبل من نبل، حين جبل الخلق من طين. وأجمل ما تعلمنا منه أن اغترفنا من نبع نبله، وما زلنا.. يغضي ويتجاوز ويتسامى ويمضي وكأنه يقول لا يعنيني، ويظل دأبه على طريقة من قال: لا نقيل ولا نستقيل، فيتنقل على صهوات الدعوة المباركة من ميدان إلى ميدان، ومن ثغرة إلى ثغرة، ومن ساح إلى ساح، يمضي مع أهل بيته، دعاة إلى الله راشدين مرشدين لا يبالون ولا ينقطعون.. تلك هي حكاية عمر لمن يسأل فيم قضى إنسان عمره؟؟

وألقت عصاها واستقرت بها النوى

كمــــا قــــر عينــــا بالإيــــاب المســــافر

قرة عين أيها الراحل الحبيب، وماذا على الغائب أن يعود إلى أهله..

اللهم إنا نسألك له روحا وريحانا وجنة نعيم، وأن تخلفه أهلا ودارا وأن تخلفنا فيه بخير فعند فقد المنارات يفرك الضعفاء أمثالنا أعينهم..

أتذكرنا جيلا من الفتيان في حلب البهية، رحم الله من مضى منا، ونفع بمن بقي، وكنت بما قسم الله لي أقل الفتية نوالا وعطاء، وأبادر بالعزاء إخواني الذين شاركوني وهم الساعة يشاركوني الفجيعة وأقول: عظم الله أجرنا جميعا يا أحباب..

دخلنا في حياطة الأخ الحبيب نديم سنوات.. ولكن الأستاذ يمد ظله وحياطته لما بعد البعد.. ويظل حاضرا صلة وبرا وشراكة يحضر على البعد، كما يحضر على القرب، فرحمك الله وتولاك وتقبل منك، وجزاك عنك كل خير مولاك بما أوليت وعلمت وأعطيت..

وكنا مع الأستاذ نديم رحمه الله تعالى تلاميذ ..

علمنا كيف نصلي، فصدت تعليم الإحكام لا تعليم الأحكام، وعلمنا كيف نتعلم، وعلمنا كيف نعلم..

في ليالي منيرة كنا نحيبها كان يعلمنا معاني العبادة والتلاوة والذكر والحضور والخشوع والذوب… علموا تلاميذكم كيف يذوبون. ملعقة سكر في كأس شاي!!

علمنا كيف نقرأ الكتب، ونستخرج دررها: الكتاب بحر. وأنت الغواص..

علمنا كيف نعلّم وندعو إلى الله.، كنا طلابا في ثانوية المأمون يوصينا: زميلك الذي يسبق ليقف على باب ثانوية البنات أحط به، زميلك الذي يدخن نبهه، زميلك الذي لا يصلي ذكّره، زميلك الذي اختلطت عليه المفاهيم بتؤدة وضح له..

وهذا الذي كان في طريقنا للذكرى..

كنت بين يدي الأستاذ نديما رحمه الله تعالى تلميذا، ثم صرت في مجلس الأستاذ نديم نديما، نقرأ ونتابع ونتتبع

أتذكر من أمثلة نبله يوم كنا نقرأ كتاب الكامل للمبرد معا، حتى صرنا يوما إلى قول القائل:

سَــــأَشــــكُرُ عمــــرا ما تَراخَـــت منيّتي

أَيــــــــادِيَ لَم تُمنَــــن وَإِن هــــي جَلّــــــت

فَتىً غَير مَحجوب الغنى عَن صَديقِه

وَلا مُظهِرُ الشَّكوى إِذا النَّعل زَلّت

رَأى خلّتي من حَيثُ يَخفى مَكانهــــا

فَكانَت قَــــذى عَينَيــــهِ حَتّى تجــــلت

فتوقف رحمه الله تعالى، وتهلل وجهه وأشرق، وصرنا نستعيد الأبيات، ونتعاور على ما فيها من ملامح النبل والمروءة، حتى رفع رأسه مشرقا وقال: درسنا من حصة النبل هذه أن نبادر إلى سد خلة إخواننا غير الظاهرة.. من حيث لا يعلمون أننا علمنا. من حيث لا يعلمون أننا علمنا.

إن الكريم ليخفي عنك عسرته

حتى تـــــراه غنيـــــا وهــــو مجهـــــود

ورحم الله أستاذنا وتقبله في الصالحين

ومضينا في الطريق.. حتى قطعنا فيه شوطا، ثم صرنا إلى كتاب "الجنى الداني في حروف المعاني" وعمل عليه وحيدا، وحيدا وأعني وحيدا، يجد ويكد…

ثم خاض غمار بحثه لشهادة الدكتورا عن "التضمين" بدأ وأنا أنيس قريب ببحث صغير في الباب الثامن من مغني اللبيب، وانتهى رحمه الله ببحث من مجلدين فكفى ووفى…

في بحثه لموضوع التضمين، اختار الموضوع، تشاورنا فيه، جمعنا بعض أسبابه، أتذكر والذكرى جميلة، انه كتب رسالة لشيخنا جميعا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى يستشيره فيه، وجاءه الرد مكتوبا بقلم الحبر الخاص، بخط الشيخ الجميل رحمه الله تعالى يشجع ويبذل ويفتح الآفاق، وحين أطلعني أخي الراحل الحبيب على الرسالة، كرما منه، قلنا قد طاب المسبر.

والتضمين في جوهره بحث لغوي يجيب على سؤال: كيف قال الله تعالى على لسان فرعون: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)، وأصل الصلب يكون على جذوع النخل..

وكنت أظن أن البحث سيمضي على يد الأستاذ في جزء صغير، ولكنه صار على يد الأستاذ الألمعي في مجلدين كبار..

وأول ما بلغني النعي على البعد غدوت إلى المكتبة أحتضن الكتاب وأضمه إلى صدري..

ولا أدري بماذا ستعلقون..

ثم رمت النوى بنا المراميا، وعلى امتداد ما يقرب من خمسة عقود، لم أعرف الأخ الدكتور المربي الأستاذ إلا صاحب رسالة، وحامل هم، ودودا وصولا معطاء..

وأمسك أن أفيض، وأتوقى أن أزيد غير أنني أريد من ذكر العاملين أن يعلم من حولي من الناس، أن سورية التي أحببناها وأعطيناها كان فيها إخوة وأخوات هم وهن بحور العطاء…

درسُنا وعهدُنا يا أستاذنا ويا معلمنا أيها الراحل الكبير: من رباط إلى رباط نمضي، ومن ثغرة إلى ثغرة، وأن نستجيب لكل عيهة؛ كلما سمعناها طرنا إليها، حتى نلقى الله إن شاء الله أوفياء وافرين..

ويقولون لم لا…؟؟ وأجيب وقرأنا على أستاذنا رحمه الله تعالى:

أولَئِكَ قَومٌ إِن بَنَوا أَحسَــــــــــــنوا البُنى

وَإِن عاهَدوا أَوفَوا وَإِن عَقَدوا شَدّوا

وَإِن كانَتِ النُعمى عَلَيهِم جَزَوا بِهـــــا

وَإِن أَنعَمـــــوا لا كَـــــدَّروها وَلا كَــــــــدّوا

وَإِن قالَ مَولاهُم عَلى جُلِّ حــــــــــادِثٍ

مِنَ الدَهرِ رُدّوا فَضلَ أَحلامِكُم رَدّوا

رحم الله أستاذنا وأخانا الحبيب أبا محمد، وتقبله في الصالحين، وجعل الخير في ذريته

وأتقدم بالعزاء والمواساة لأسرة الفقيد ولأنجاله وتلاميذه ومحبيه. اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله..

وإنا لله وإنا إليه راجعون..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1120