الدكتور نجيب الكيلاني في ذكراه العشرين
أبو الحسن الجمّال
مرت الذكرى العشرون لرحيل الأديب الدكتور نجيب الكيلانى دون أن يتم تسليط الضوء الكافى عليه مما يتلائم مع مكانته وما تركه من كم هائل من الرواية والقصة القصيرة والكتب التى نظرت للأدب الإسلامى وكتب أخرى تناولت الفكر الإسلامى الراهن وأخرى تعرضت لمجاله وتخصصه الرفيع وهو مجال الطب..ويعد الكيلانى من الرواد الذين نظروا للأدب الإسلامى موضوعا وتطبيقا من خلال أعماله، وقد تعرض الكيلانى خلال هذه الرحلة للعديد من المضايقات والمطارادات والسجن والتعذيب، ومع ذلك لم يفت فى عضد هذا الرجل الصلب المدافع عن فكرته ومبادئه وأطروحاته، وما هى إلإ سنوات حتى ذاعت فكرته، وتلقفها الناس فى كل مكان وأصبح الأدب الإسلامى هو المأوى لكثير من الأدباء والنقاد...وقد أهملت الدولة عبر مؤسساتها الثقافية الاهتمام بذكرى نجيب الكيلانى، لأن هذه الهيئات يسيطر عليها تيار يسارى يكره الفكرة الإسلامية والإسلام ويقصى كل من يقترب منها، علماً بأنه طبقت شهرته الآفاق خارج مصر فى الدول العربية والإسلامية.. فقد أجريت حوله الدراسات والأطروحات الجامعية التى تناولت أدبه وفكره، لأنه جعل عالمه الإسلام الذى يدعو إلى الوحدة والاعتصام بحبل الله، وقد تخطى حدود وطنه ومشكلاته وهموم إلى هموم العالم الإسلامى .. فتحدث عن هموم المسلمين فى كل مكان من خلال الرواية والقصة والمسرحية الإسلامية ..فتناول مشكلاتهم فى نيجيريا من خلال رواية "عمالقة الشمال"، ومشكلاتهم فى أواسط آسيا فى روايته "ليالى تركستان"، ومشكلاتهم فى أندونسيا فى رواية "عذراء جاكرتا"، وفى أثيوبيا فى رواية "الظل الأسود"، وآخر أعماله "سراييفو حبييتى" وفيها يتعرض لمشكلات المسلمين فى البوسنة والهرسك الذين كانوا يتعرضون لتطهير عرقى من قبل الصرب "خنازير أوروبا" بمساندة المجتمع الدولى من خلال من منظماته كالأمم المتحدة ومجلس الأمن الذى بارك هذه المجازر الصليبية الرهيبة..
والدكتور نجيب الكيلانى طبيب ضل طريقه إلى احتراف الأدب مثل غيره من الأطباء الأدباء على رأسهم: الدكتور مصطفى محمود الذى كتب فى بدايه حياته عدداً من القصص والروايات والمسرحيات قبل أن يتفرغ تماما للفكر بعد ذلك، ومنهم الدكتور يوسف إدريس مع الفارق فى التناول الأدبى لموضوعاته، والدكتور صلاح عدس، والدكتور محمد الجوادى، لولا أن نجيب الكيلانى يختلف عن هؤلاء بأنه وازن بين عمله كطبيب وأدبه وفكره فتميز فى كل هذه المجالات ..
وقد ولد الدكتور نجيب الكيلانى في أول يونيو عام 1931م بقرية شرشابه مركز زفتى بمحافظة الغربية، فى أسرة متوسطة تحدث عنه باستفاضة فى مذكراته، وتحدث فيها عن قريته شرشابة وأنماط السكان والشرائح الاجتماعية فيها كما تعداها إلى القرى المحيطة بها كقرية سنباط وميت بدر حلاوة وغيرها، وفي سن الرابعة أدخل مكتب تحفيظ القرآن، حيث تعلم القراءة والكتابة والحساب وقدراً من الأحاديث النبوية وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وقصص الأنبياء وقصص القرآن، التحق بالمدرسة الأولية، وسهل عليه هذا كلها استيعاب المعارف عندما ثم انتقل إلى مدرسة الإرسالية الأمريكية الابتدائية بقرية سنباط التي تبعد عن قريته خمسة كيلو مترات كان يقطعها مشياً على الأقدام ذهاباً وإياباً، وكان هذا الزاد مصلا ضد الفكار المارقة التى كانت تسود التعليم فى هذا الوقت من التركيز على اسوء ما عند الغرب من معلومات وافكار.. نشأ في أسرة تعمل بالزراعة، وكان منذ صغره يمارس العمل مع أبناء الأسرة في الحقول. وقضى المرحلة الثانوية في مدينة طنطا عاصمة محافظة الغربية، ثم التحق بكلية طب القصر العيني (جامعة القاهرة) عام 1951، وفي السنة الرابعة بالكلية، وبالتحديد سنة 1955قدم للمحاكمة في إحدى القضايا السياسية وحكم عليه بالسجن عشر سنوات، وفي تلك الفترة جمع ديوانه الشعري الأول "أغاني الغرباء"، وكذلك كتب رواياته الأولى الطريق الطويل داخل السجن ..كتبها فى ثلاثة اسابيع وقدمها إلى مسابقة أجرتها وزارة التربية والتعليم وفاز بالمركز الأول عام 1957، والعجيب أنهم سمحوا له بالخروج من السجن ليتسلم الجائزة التى قررتها وزارة التربية والتعليم على الصف الثانى الثانوى سنة 1959 بعد أن قدم لها الوزير اللامع الوطنى فتحى رضوان.
وبعد تخرجه عمل بوظيفة "طبيب امتياز" في مستشفى أم المصريين بالجيزة عام 1961 م, ثم طبيباً ممارساً بقريته شرشابة ثم انتقل ليعمل في وزارة النقل والمواصلات, وتسلم عمله في القسم الطبي بهيئة السكك الحديدية, ثم سافر إلي دولة الكويت ليعمل طبيباً هناك, وذلك في اليوم الحادي والثلاثين من شهر مارس 1968 م, ثم انتقل منها إلي دولة الإمارات العربية, وقضى بها ما يقرب من ستة عشر عاما.
كان نجيب الكيلانى مغرما بالقراءة منذ ضغره وقد حفزه على هذا عمه عبدالفتاح الذى يقول عنه الكيلانى فى كتابه لمحات من حياتى الجزء الأول : "كانت منكباً على كتب المنفلوطى (النظرات، والعبرات، وماجدولين) وكتب الرافعى (وحى القلم، والمساكين، وأوراق الورد) ودوايين شوقى ومسرحياته والقليل من مؤلفات طه حسين وبعض كتب التراث، وكنت آخذ بعض هذه الكتب بعد أن كبرت فأحاول القراءة فيها فافهم البعض ولا استطيع استيعاب البعض الآخر وكنت ألجأ إليه أحياناً ليشرح لى ما غمض..لقد كان عمى المورد الأول لثقافتى وهو الذى أخذ بيدى إلى التزود من الثقافة العامة وكان لا يبخل عن الكتب بمال" .
وكذلك عرف طريقه إلى المجلات الأدبية التى كانت تصدر فى هذا الوقت منها: الرسالة، والثقافة، والمقتطف، والأزهر، والهلال، وتعرف إلى كبار الأدباء فى هذا التوقيت مثل سيد قطب، والعقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ومحمود محمد شاكر، وكان يسعى إليهم فى ندواتهم الأسبوعية وصالوناتهم الأدبية..
التنظير للأدب الإسلامى:
يعرف الدكتور جابر قميحة الأدب الإسلامى بأنه "الأدب الشعري والنثري الذي يلتزم القيم الإنسانية ويعمل على خلق بناء قويٍّ متين يُراعي هذه القيم في مجال السياسة والاجتماع والتربية وغير ذلك، وهذا تعريف إيجابي، وهناك ما نستطيع أن نسميه بالتعريف السلبي أو" التعريف الرافض" والمقصود به الأدب الذي يرفض في قوة كلَّ ما يخالف القيم الإسلامية والإنسانية".
وقد جمع الدكتور نجيب الكيلاني بين التنظير والتطبيق، للأدب الإسلامى فلم يغفل القياسً على المذاهب الفنية الأخرى، مثل الكلاسيكية والرومانسية ، وله من رواياته ونظرياته خمسة كتب كاملة عن مفهوم الأدب الإسلامي ، منها : "المدخل إلى الأدب الإسلامي" و"الإسلامية والمذاهب الأدبية" وغيرهما، وفيها يوضح علاقة الأدب بالدين، ومفهوم الالتزام الإسلامي والمقارنة بين المذهب الإسلامي وغيره.
وتحدث الكيلانى عن الأدب الإسلامى قائلاً: "من حسن الحظ أن الإسلام لم يحدد (شكلاً) فنياً معيناً يلزمنا به، بحيث ندور في إطاره، فلا نتعدى رسومه، وإنما حدود الإسلام (المضمون) أو الفكر الذي يتناوله الفنان في الشكل الذي يختاره. فالإسلام يختلف عن غيره من الفلسفات الإنسانية، فمن الفلاسفة من يرى أن الإنسان طبيعته الشر، وأن الأصل في الحياة الكذب والنفاق والجبن، ومن الفلاسفة من يرى أن الفن غاية في حد ذاته وليس وسيلة لبلوغ أي هدف، وهم دعاة "الفن للفن". أما الفنان المسلم فله فهمه الشامل للحياة والإنسان، وله إيمانه بأن الفن وسيلة لبلوغ غاية عظمى، ألا وهي تكوين (الوجدان) المشبع بروح الحق والخير والحب.. والفن الإسلامي لا يختار نماذجه من أمثلة الخير والحب والفضيلة وحدها، بل يقدم شتى النماذج خيَّرها وشريرها، عاليها وسافلها، وإلا انعدمت الحركة الفنية، والصراع النفسي، إنها معاناة أصيلة نابضة، تبعث في نفسه لوناً من ألوان (القلق) العظيم، وتحرمه الإخلاد للكسل والسلبية والأنانية.. وهذا هو الفن العظيم. وعالم الأدب والفن الإسلامي علم فسيح رحب، يستوعب التجارب الأسطورية والتاريخية والواقعية المعاصرة، ويجول في أنحاء الشرق والغرب، ويبرز التجارب المحلية والعالمية، ويرتبط بقضايا المسلمين في شتى أنحاء المعمورة خاصة. أدب معقول.. وأدب مرفوض"..
نجيب الكيلانى روائياً:
قدم الدكتور نجيب الكيلانى عددا كبيراً من الروايات والقصص القصيرة، وهى غالبا محمومة بالتصوُّر الإسلامي وصادرة عنه، ومن خلال هذا الإنتاج القصصي الغزير استطاع أن يقدِّم النموذج الإسلامي في الرواية والقصة ويرى الدكتور حلمى محمد القاعود أن إنتاجه مر بأربع مراحل او مستويات:
أولها ويمثِّل "الرّواية الرومانسية"، ويضم العديد من رواياته، وقد عبّر من خلالها عن هموم النَّاس والعلل الاجتماعية المتفشية بينهم، مثل الفقر والجهل والأمراض المتوطنة والسلبية والتخلف، ومزج ذلك بالعواطف المشبوبة والخيالات الحالمة والآمال المجنِّحة، ويمكن أن نرى أمثلة على ذلك من رواياته: "الطريق الطويل"، و"الربيع العاصف"، و"الذين يحترقون"، و"في الظلام"، و"عذراء القرية"، و"حمامة سلام"، و"طلائع الفجر"، و"ابتسامة في قلب الشيطان"، و"ليل العبيد"، ,"حكاية جاد الله"..
وثانيها ويمثِّل "الرواية التاريخية"، التي تستلهم السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي بصفة عامة، وقد استدعى التاريخ واستلهمه ليقدِّم النماذج الإنسانية المشرفة من حضارتنا، ويرصد جهاد الآباء في شتى جوانب الحياة، دفاعاً عن الدّين وسعياً لتأسيس مجد غير مسبوق، وفي بعض الأحيان كان يستدعي التاريخ ليعالج من خلاله قضايا راهنة أصابت الأمَّة بالإحباط واليأس، ويوقظ به الأمل في نفوس الأجيال الجديدة عن طريق إحياء الهمَّة وبعث العزيمة والإصرار، وفي كل الأحوال فإنَّ استلهام التاريخ في الرّواية عند "نجيب الكيلاني"، كان إبرازاً لمعطيات الإسلام العظمية، وإمكاناته الهائلة في تحويل الإنسان المسلم إلى صانع حضارة وباني مجدٍ وجندي ظافر في معاركه ضد الشرّ والتوحُّش، ويمكن أن نجد عدداً كبيراً من رواياته التي عبَّرت عن ذلك، مثل: "نور الله"، و"قاتل حمزة"، و"أرض الأنبياء"، و"دم لفطير صهيون"، و"مواكب الأحرار" (أو نابليون في الأزهر)، و"اليوم الموعود"، و"النداء الخالد"، و"أرض الأشواق"، و"رأس الشيطان"، و"عمر يظهر في القدس".
وثالث هذه المراحل ويمثِّل الرواية التي يمكن أن نسميها بـ"الرواية الاستشرافية" التي عبَّر فيها عن هموم المسلمين خارج حدود العالم العربي (دول آسيا الوسطى التي كانت أو ما زالت تحت الستار الحديدي الشيوعي من الاتحاد السوفييتي والصين-إثيوبيا- إندونيسيا- نيجيريا)، واستطاع أن يكشف للعالم مأساة داميةً أصابت ملايين المسلمين المنسيين الذين لا يتحدَّث عنهم أحد إلاَّ نادراً، ولا يعرف عنهم المسلمون في العالم العربي إلاَّ القليل، وفي الوقت ذاته توقَّع انتصارهم وتحرّرهم، وهو ما حدث بالفعل في أكثر من مكان وبخاصة في الدول الإسلامية التي استقلَّت أو تحاول الاستقلال بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وتعدّ رواياته: "ليالي تركستان"، و"الظل الأسود"، و"عذراء جاكرتا"، و"عمالقة الشمال"، من أشهر رواياته في هذا الإطار.
ورابعها ويمثِّل الرواية عند نجيب الكيلاني في المرحلة الراهنة، وهي التي نُطلق عليها "الواقعية الإسلامية"، ويعبِّر فيها عن القضايا الاجتماعية التي تهمّ جموع المستضعفين في الوطن، ويبرز فيها ما يلقاه النَّاس من ظلمٍ وقهرٍ واضطهاد، ويتخذ من تفاصيل الحياة اليومية والاجتماعية عناصر أساسية يرتكز عليها في بناء هذه الروايات، وأيضاً فإنَّه يطرح عبر سطورها رؤية الجيل الجديد للأحداث، وموقفه من قضايا الحرية والعدل والأمن والرخاء والمستقبل، وتُعدُّ روايات الأربع أو رباعيته التي أنتجها على مدى عامين تقريباً، ونشرت على مدى شهورٍ متقاربة ـ وهي: "اعترافات عبدالمتجلي"، و"امرأة عبدالمتجلي"، و"قضية أبو الفتوح الشرقاوي"، و"ملكة العنب" ـ من أفضل النماذج وأبرزها في الدلالة على هذا الإطار.
وقد تعرض الدكتور حلمى القاعود لهذا النمط الأخير فى كتابه الأشهر "الواقعية الإسلامية فى أدب نجيب الكيلانى"، أوضح فيه أن الواقعية الإسلامية تختلف عن الواقعية الأوربية والواقعية الاشتراكية، وبين القاعود أن الواقعية الأوروبية واقعية نقدية تعنى بوصف التجربة كما هي، حتى لو كانت تدعو إلى تشاؤم عميق لا أمل فيه، في حين تحتّم الواقعية الإسلامية أن يثبت الكاتب في تصويره للشرّ دواعي الأمل في التخلُّص منه فتحاً لمنافذ التفاؤل حتى في أحلك المواقف، ولو أدَّى إلى تحريف الموقف بعض الشيء. أمَّا الواقعية الإسلامية، فإنَّها ـ مع انتقادها للواقع ـ تنطلق في انتقادها من التصوُّر الإسلامي الذي يكون دائماً منصفاً، فلا يبالغ ولا يهوّل، أيضاً لا يتحامل بسبب المغايرة في الانتماء، ولا يحبِّذ الصراع بين الطبقات كما يبتغي الواقعيون الاشتراكيون، فضلاً عن أنَّ الأمل في الواقعية الإسلامية، هو أمل إيماني يقوم على أساس نُصرة الحقِّ في كل الأحوال، حياة وموتاً. إنَّها باختصار ترفض التشاؤم كما ترفض التفاؤل الذي يقوم على الخداع أو التزييف، ثم إنَّها تستقي مادتها من الحياة الاجتماعية، ومشكلات العصر على إطلاقها، وتختار شخوصها من عامة المجتمع وجميع طبقاته؛ لأنَّها تعتقد بأنَّ الخيرَ والشرَّ ليسا قاصرين على طبقة بعينها، ولكنَّهما موجودان في النفس البشرية، ايّاً كانت طبقتها أو انتماؤها الطبقي، وأنَّ الإنسان يمكن أن يكون خيِّراً أو شرّيراً ِوفقاً لاختياره، وعوامل أخرى مؤثِّرة في هذا الاختيار من قبيل التربية والتوجيه والقدوة والظروف المحيطة...إلخ، لذا؛ فإنَّ الطبقة ليست هي العنصر الحاسم في الصراع بين الخير والشرِّ، وإنَّما الإرادة الفردية ومكوناتها.. وهو ما يتسق مع التصوُّر الإسلامي:[فَألهمها فُجُورها وتقواها*قد أفلحَ مَنْ زَكَّاها*وقد خَاْبَ مَنْ دَسّاهَا]..(سورة الشمس: 9،8).
وتمير أدب نجيب الكيلاني- دون مغالاةٍ- عن غيره من المعاصرين بأنه أدبٌ متميزٌ من ناحية، وفائقٌ من ناحية أخرى، فهو يتفرد بسلامة اللغة، وهي مهمة؛ لأن اللغة هي عِرْض الأمة الدالّ على هويتها، ولا هوية لمن لا عرض له، وبراعة التصوير، وهو في منهجه التصويري يكاد يقترب من الواقع ، فهو في تصويره لا يجنح إلى الصور الشاردة والخيال المسرف المحلق بلا معقولية، أي نستطيع أن نقول إن منهجَه التصويري هو المنهج الوسطي بين المثالية الخيالية والرومانسية العقلانية، وقوة الوجدان أو الطاقه الروحية، وهو مع ذلك يجنح إلى الوسطية، فلا نعثُر له على عاطفة ملتهبة ووجدان متوهِّج، ولكنها ــ كما قلت سابقًا ــ الوسطية والمعقولية، وهو منهج لا يعيب صاحبه، بل يقف في صفِّه؛ لأن المهم أن يكون المبدع مخلصًا في منهجه ولمنهجه، بعيدًا عن الشطط والإسراف .والتماسك والتلاحم في صدقٍ بين عناصر الإبداع الفني مما يقرِّب إبداعَه من المنهج التكاملي في الفن.وقوة العقيدة، وهذا ما تعنيه بسؤالك عن تأثير الفكرة الإسلامية على أدبه، فكان هذا هو الجانب الذي ينهل منه أي من عقيدته ودينه؛ ليصبَّ في النهاية في أدبه ويجعله على رأس قائمة الأدباء الإسلاميين.
وقد كتب الكيلاني في عدد من الدوريات, وقد تنوعت هذه الكتابات, بين المقال الأدبي, والفكري, والقصة القصيرة, والشعر, وقد نُشرت أعمال الكيلاني في المجلات الآتية:الأدب, والثقافة, والاعتصام, والقصة القصيرة, والأمة القطرية, والمجتمع الكويتية, والاتحاد، ومنار الإسلام بالإمارات, والمنهل السعودية، والشهاب البيروتية, والمختار الإسلامي, وجريدة المسلمون, والكواكب, وغيرهما كثير...
فارس الجوائز:
على مدار مشواره الطويل فاز نجيب الكيلانى بالعديد من الجوائز التى تقدره ..فقد كانت الهيئات الثقافية فى هذا الوقت لم تتلوث مثلما هو الحادث الآن حيث تعانى اليوم من عنصرية بغيضة تجاه الآخرين ممن ليسوا على شاكلة الماركسيين الذين يتحكمون فى كل شىء فى الإعلام ويدعون إلى قتل وإبادة الآخرين والتحريض عليهم طوال الوقت، أما أيامه فكنت ترى الشرقاوى الشيوعى يجلس مع السحار دون أدنى حساسية وعندما يلتقيان يتعانقان، أما اليوم فنجد النخبة المصرية تدعو إلى الإبادة والتطهير العرقى لخصومهم ومخاليفهم،وقد كتب روايته الأولى "الطريق الطويل" التي فازت بجائزة وزارة التربية، ونشرتها وزارة الثقافة والإرشاد آنذاك، وقدمها له وزيرها المرحوم فتحي رضوان، ثم قررت على الصف الثانى الثانوي في عام 1959، وفي المسابقة نفسها فاز بجائزة التراجم والسير عن كتابه "إقبال الشاعر الثائر" 1957.
وفي عام 1958 فاز مرة أخرى بعدد من جوائز وزارة التربية والتعليم، ففي مجال الدراسات النفسية والاجتماعية فاز كتابه "المجتمع المريض" وهو دراسة متميزة عن مجتمع السجون، وفي مجال التراجم والسير فاز كتابه "شوقي في ركب الخالدين"، وفي مجال الرواية فازت قصته "في الظلام" ..كما فاز بجائزة مجلة الشبان المسلمين في مسابقة القصة القصيرة التي أعلن عنها عام 1957، وكانت جائزة خمسة جنيهات مصرية كاملة في عام 1959 فاز بجائزة القصة القصيرة لنادي القصة القصيرة "اتحاد الكتاب" والميدالية الذهبية المهداة من الدكتور طه حسين، كما فاز في العام التالي بجائزة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والأدب عن روايته "اليوم الموعود" والتي قررت على طلبة المرحلة الثانوية عام 1960، وأخرجت مسلسلاً إذاعياً 1973 بإذاعة الكويت، وقد أعدت كمسلسل تلفزيوني (إنتاج ليبي مشترك) لتعرض في شهر رمضان 1414هـ تحت اسم "ياقوته ملحمة الحب والسلام"، والرواية تدور أحداثها حول الحروب الصليبية أيام الملكة شجرة الدر، ونال جائزة مجمع اللغة العربية في أوائل السبعينات عن روايته "قاتل حمزة" التي تعرض قضية الحرية عرضاً درامياً من خلال التصور الإسلامي، وحولت روايته "ليل وقضبان" إلى فيلم سينمائي، وقد نال الفيلم الجائزة الأولى في مهرجان "طشقند" الدولي، ونال ميدالية العلامة الفيلسوف الشاعر محمد إقبال الذهبية، مهداة من الرئيس الشهيد ضياء الحق، في الذكرى المئوية للشاعر بسبب كتاباته الكثيرة عن هذا المفكر الإسلامي الكبير الذي دعا إلى إنشاء دولة باكستان.
وراء كل عظيم أمراة:
تزوج الدكتور نجيب بالأديبة كريمة شاهين ابنه الشيخ محمود شاهين أحد علماء الأزهر الأجلاء، وقد تزوجا فى عام 1960وانجبا أربع من الأبناء وقد بارك الله فيهم ووصلوا إلى درجات علمية رفيعة، بفضل التربية المثالية، وقد تعرف إلى أسرة زوجته فى وقت مبكر فى منتصف الخمسينيات، وقد ساعدته الزوجة قبل ان يتزوجا بان بيضت مسودة بحثه عن (إقبال الشاعر الثائر) بأن بيضت هذا البحث ونسخته منه نسختين وقدمته إلى وزارة التربية والتعليم قسم التراجم ومن حسن الطالع أن فاز البحث بالمركز الأول وفرحت كريمة التى كانت فى الصف الأول الثانوى فى هذا التوقيت وذهبت إلى السجن وبشرته بالفوز، وكان هذا حافزا لخطبتها بعد خروجه من السجن وتزوجا فى العام 1960كما أشرنا .
وقد وفرت له الزوجة الحنان المغدق والجو الهادىء ونظمت له المواعيد وكانت تراجع له كتبه ورواياته ومقالاته وتنسخها على الآله الكاتبة التى تعلمتها فى ثلاثة ايام من زميلة لها وفى هذا تقول : " كان يكتب ولا يراجع فكنت أقوم بالمراجعة وراءه وأكتب ما يسطره على الآلة الكاتبة ، وأفعل ما أستطيع لأوفر له الجو المناسب للكتابة فلا صوت يعلو ولا ضوضاء حوله حتى الحلاق كنت أستدعيه ليحلق له في البيت وحرصا على وقته كنت آخذ حذاءه وأشتري له مثله وكذلك بدله وقمصانه وملابسه ، كما كنت أقود له السيارة بنفسي في دبي ويراني الدكتور مصطفى محمود صاحب برنامج " العلم والإيمان " الشهير ، فيتعجب ويقول لنجيب "إيه ده يا نجيب" فيرد عليه: حاولت يا دكتور مصطفى فشرد ذهني وطلعت على الرصيف. وكنت أعتبر نفسي سكرتيرته الخاصة أدون يوميا أجندته ومتطلبات أعماله فضلا عن تهيأة البيت لضيوفه وزواره وكنت أقول له إذا أردت أن تعزم أحدا على الغداء يكفيني أن تتصل بي قبل الغداء بساعتين فيفعل ويأتي وضيوفه فيجدوا ما لذ وطاب من الطعام فيقول لي بعد أن ينصرفوا أنت حقا اسم على مسمى."
وقد خلدت الزوجة الأديبة ذكره، وكتبت عنه العديد من الأبحاث والكتب منها: "آخر حوار مع نجيب الكيلاني" و" نجيب الكيلاني كما عرفته" و"الامارات في أدب نجيب الكيلاني. "
النهاية:
عاد الدكتور نجيب الكيلانى إلى مصر بعد أن أمضى فى الغربة 24 عاما ..عاد إلى مسقط رأسه الذى لم يفارقه على الإطلاق ، وقد كان مسرحاً للعديد من رواياته وقصصه ومسرحياته، عاد ليخوض معركته الأخيرة مع مرض سرطان البنكرياس, الذي لم يستمر معه أكثر من ستة أشهر, وكان طوال هذه الفترة صابراً محتسباً، وكان لا يشعر أحد ممن حوله بمعاناته، وكان أمله في الله قوياً جداً حتى آخر لحظة، وقد كان مستعداً للقاء الله راضياً بقضائه، ذاكراً لله في كل لحظة حتى آخر رمق في حياته، وكان يرتل القرآن في غيبوبته. وقد لقي بعدها ربه بعد عيد الفطر المبارك بيوم واحد, في شوال 1415 هـ – مارس 1995م
قالوا عنه:
قال نجيب محفوظ في مجلة المصور عدد أكتوبر عام 1989: "إن نجيب الكيلاني هو منظّر الأدب الإسلامي الآن"؛ ذلك لأن مقولاته النقدية، وأعماله الروائية والقصصية تشكل ملامح نظرية أدبية لها حجمها وشواهدها القوية، التي عززتها دراساته حول "آفاق الأدب الإسلامي" و"الإسلامية والمذاهب الأدبية"، و"الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق" و"مدخل إلى الأدب الإسلامي"، و"تجربتي الذاتية في القصة الإسلامية".
أبوالحسن الندوى:
"... إن حياة الدكتور نجيب الكيلاني حافلة بالعطاءات الأدبية، وقد خلّد بقلمه آثاراً قيِّمة نـالت الاعتـراف من رجال الفن والأدب، وغطّتْ أعمالـه جميع أقسام الأدب، فقد كان كاتباً قصصياً، له اتجاه خاص في القصة، ولم يكن الكاتب كالأدباء الآخرين مصـوراً لواقع الحياة، وإنمـا كان معالجاً ومحللاً لقضايا الحياة، وكانت كثير من قصصـه مستوحـاة من واقع الحياة التي عاشها الأديب أو عايشهـا، ثم كان الكيلاني شاعراً له مكانـة معروفة في مجـال الشعر، وألَّف كذلك في النقد والـدراسات الأدبية، كما أسهم في كتابـة السيـرة الذاتية وشرح فكـرة (الأدب الإسـلامي) وتصوّره، وبذلك كان بحق من روّاد الفكر الإسلامي المعاصر والمنظّرين المبدعين لفكرة الأدب الإسلامي."
د. جابر قميحة: "الكيلاني لديه إحساس عميق بتكثيف الجمال الفني المرتبط بالغموض أحيانًا في بعض أعماله، إلا أنه لا ينسى مسئوليته تجاه القارئ، وخوفه من أن يقع في براثن الفهم الخاطئ، فتراه في كل أعماله ينبض بخيوط الوعي المتيقظ، التي تجعل من كتاباته الروائية متعة خاصة وقتًا مكتملاً. كما استطاع الكيلاني ـ رحمة الله ـ أن يوظف كثيرًا من آليات الفن القصصي في شعره، فاستخدم الرمز والقناع والحوار والسرد والتعبير المتلاحق، والارتداد (بالإنكليزية: flashback) (تذكّر الماضي والرجوع للوراء) والمفارقة، واللقطات المقتطعة من خلال الأشكال والمضامين التعبيرية المتفردة".
صلاح عدس: "رائد القصة الإسلامية تنظيرا أو تطبيقا ..كتب كماً هائلاً التى تتناول الفكرة الإسلامية فى مضمونها وموضاعاتها ..أما بالنسبة للمضمون فيصور فيها الرؤية الإسلامية لله والكون والإنسان والحياة ..أما بالنسبة لموضوعاتها فتصور حياة المسلمين فى كل أرجاء العالم الإسلامى ومعاناتهم وأشواقهم الروحية فهو بذلك رائد للرواية الإسلامية وربما لهذا السبب لم يلق الاهتمام الكافى والتقدير الذى يستحقه لأن الذين سيطروا على الإعلام والثقافة طوال ستين عاماً كانوا حفنة من أدعياء العلمانية والماركسية الذين طبلوا وهللوا وزمروا لشلتهم من أمثال يوسف إدريس ونجيب محفوظ ممن كتبوا على طريقة الواقعية الاشتراكية أو الواقعية المخزية وهى التى يطلقون عليها فى الغرب "الطبيعية" التى تبرز العرى والشذوذ والانحراف وتمتلىء بالمخمورين والسكارى والعاهرات . ولقد التقيت به مرة فى مطلع حياتى منذ 55 عاما وبالتحديد سنة 1960وكنت وقتها طالبا فى كلية الطب واسعى للتعرف إلى الأعلام والشوامخ فى الأدب والفكر والثقافة واشتكى لى من اضطهاده المستمر من قبل الإعلام والصحافة والنقاد الذين يبرزون من يخاصم الفكرة الإسلامية.. ".
د. حلمي محمد القاعود: "نجيب الكيلاني كان فريدًا في فك الفضاءات المكانية والمجالات الزمانية في أعماله عبر احترافه وحفاوته بالتحليل الدقيق والمنمنمات، واستطاع أن يملأ الساحة بالبديل الصحيح؛ حيث يعتبر أغزر الكتاب إنتاجًا على الإطلاق، بينما يأتي "نجيب محفوظ" والسحار في المرتبة الثانية من حيث الكم!"
د. محمد حسن عبد الله: "كل إنتاج الكيلاني ذو هادفية مؤمنة، وعمق وشفافية متصوفة تبدو كومض الخاطر بين السطور، وهو جاد وعميق ومؤثر، ومتصل أوثق الاتصال بروح هذا الشعب، ويملك التأثير في حياة قومه التي كان واحدًا من أفذاذها المتفردين."