العلامة الباني في مرآة تلميذه
العلامة الباني في مرآة تلميذه
د. محمد حسان الطيان
رئيس مقررات اللغة العربية بالجامعة العربية المفتوحة بالكويت
عضو مراسل بمجمع اللغة العربية بدمشق
اللهم لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سُلطانك، سبحانك لا نُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك، والصلاة والسلام على خِيرتك من خلقك وخاتم أنبيائك ورسُلك محمَّد بن عبد الله، وعلى آله الأطهار، وصَحبه الأخيار، ومن تبعَهُم بإحسان.
وبعد:
فإن الشيخ عبد الرحمن الباني رجلٌ ملأ الدنيا ذِكرًا حسنًا، فما زلتُ أسمع عنه، وأقرأ عنه، وأُخبَر عنه.. حتى رأيتُه ولقيتُه.
فلا والله ما كان ما سمعتُ بأطيبَ ممَّا رأيت، ولا كان ما قرأتُ بأزكى ممَّا عاينت، ولا كان ما أُخبِرتُ بأعظمَ مما خَبَرت!
كانت مُساءلَةُ الرُّكبانِ تُخبِرُنا عن جعفَرِ بن فَلاحٍ أطيَبَ الخبَرِ
ثمَّ التقَينا، فلا واللهِ ما سمعَتْ أُذني بأحسنَ ممَّا قد رأى بصَري
ذلك أن الرجلَ عرف الحقَّ فالتزمه، ورأى الدَّربَ فاعتنقه، وأخلصَ لله قولَه وعملَه. وإذا كان المثل يُضرَب بمن يصدِّق عملُه قولَه فإن الشيخ الباني يصدِّق قولُه عملَه، فالعملُ عنده يسبقُ القول، ويأتي القولُ صدًى له، ومن ثَمَّ كانت أقوالُه مرآةً لما اعتملَ في نفسه من استقامةٍ وصلاح، وتقوًى وفَلاح.
وتعود بي الذَّاكرةُ إلى أول مرَّة سمعتُ فيها بأمر الشيخ، كان ذلك من والدي عليه الرحمةُ والرضوان، فقد أثنى عليه أعطرَ الثناء وأزكاه، لمَّا عرَضَ ذِكرُ أخوَيه الشيخ القاضي محمد بشير الباني، والشيخ المربِّي عبد الهادي الباني، رحم الله الجميعَ وغفرَ لهم، وكان يحدِّثنا عنه حديثَ المعجَب باستقامة منهجه، وغزير علمه، وعظيم فضله.
ثم توالت الأخبارُ تزيدني حبًّا به، وشوقًا إلى لقائه، وإعجابًا بشمائله وفضائله. وكان أطيبَها عَرفًا وأعظمَها نفعًا ما سمعتُه من شيخنا المحدِّث عبد القادر الأرنؤوط رحمه الله وأعلى في الجنان مقامَه، من أن للشيخ الباني فضلاً عليه لا ينساه؛ إذ بصَّره بمنهج الصَّواب، ولفتَ نظرَه من خلال أسئلة كان يطرحُها عليه بلُطف بالغ، وحبٍّ بادٍ، وشَغَف بالمعرفة ظاهر، إلى أمورٍ وقضايا مهمَّة ما كان يُعيرها اهتمامَه، لا سيَّما في حديث رسول الله r. كان ذلك بعد كلِّ خُطبة يخطُبها شيخنا الأرنؤوط في مسجد الدِّيوانيَّة بدمشقَ الشام، في الخمسينيَّات من القرن الفائت. وكان لتكرار هذه المساءلات والاستفسارات أكبرُ الأثر في توجُّه الشيخ الأرنؤوط إلى العناية بالحديث النبويِّ الشَّريف وتخريجه وتتبُّع رجاله وتحقيق كتُبه، حتى غدا من أفراد الدنيا في هذا الفنِّ.
وشاء الله سبحانه - بعد كلِّ ما سمعتُ - أن ألقى الشيخَ الباني وأجالسَه، وأفيدَ من حاله ومقاله، وكان الفضلُ في ذلك مصروفًا إلى أخي الحبيب وصاحبي القريب الأستاذ أبي أحمد أيمن بن أحمد ذو الغنى، وهو الحفيُّ بالشيخ الحريصُ على صُحبته الغنيُّ بمعرفته، فما زرتُ الرياض مرَّة إلا جمعَني بالشيخ إن في بيته أو في بيته.
وثمَّة تراءت لي واضحةً صورةُ العالم العامل، والدَّاعية الملتزم، والناصح المشفِق، والحارس الأمين لتُراث الأمَّة وقيمها. كما تراءت لي عِيانًا آياتُ القرآن تمشي بين الخلق، فتُخالطهم وتُناصحهم، وتُسائلهم وتُعاملهم.. وتبذل لهم أزكى ما يمكنُ أن يبذلَه جليسٌ لجُلَسائه؛ خُلُقًا حسنًا، وعلمًا نافعًا، وتحقيقًا واسعًا، ودعوةً سَمحة.. ناهيك عن طيبٍ ينفَحُهم به، أو وَردٍ يختصُّهم بتقديمه، أو كتاب يُهديه إليهم.
وهكذا كان أخي أيمن وما زال مصدرًا من أهمِّ مصادري، ومرجعًا من أثبت مراجعي عن الشيخ الباني رحمه الله، وعن حياته وعلمه وعمله، لا سيَّما في العِقْد الأخير من عمُره، فقد لزمه لزومَ الصاحب صاحبَه، والتلميذ أستاذَه، والمريد شيخَه، ولعلِّي من أخبر الناس بملازمة أبي أحمد للأشياخ، زاده الله حرصًا على العلم وأهله. ومن ثَمَّ كان خيرَ من يكتبُ عنه، ويجلو للناس خبرَه.
والكتابة عن الرِّجال دَينٌ في أعناق الأمَّة ينبغي أن يُنشَرَ ويُذكَرَ ويُشكَر، لأن الأمَّة إن خَلَت من ذِكر رجالاتها سارت نحو نهاياتها، فهم الذين يزرعونَ فيها الأمل، ويبثُّونَ فيها الرُّوح، ويُثبتون أنها ما زالت خيرَ أمَّة أُخرجَت للنَّاس.
ومن ثمَّ كان هذا الكتابُ الماتعُ "العلامة المربِّي عبد الرَّحمن الباني؛ شذَرات من سيرته، وشهادات عارفيه" الذي نهضَ به الأخُ الحبيب الأستاذ أيمن ذو الغنى سِجِلاًّ حافلاً بكلِّ نافع ومُفيد وموثَّق عن شيخنا الباني، فقد وجدتُّ فيه ما زادني حبًّا بالشيخ وتقديرًا له وكَلَفًا بتتبُّع سيرته، ووقفتُ فيه على تراجمَ ومواقفَ للرِّجال لم أقف عليها في كتابٍ قطُّ، ويقيني أنه من الصَّعب أن يشتملَ عليها كتاب، فقد نقلها الأخُ أيمن من فِلْقِ في الشيخ الذي يعدُّ بحقٍّ شاهدًا على العصر، بل هو من أصدق الشُّهود عليه، ولا نزكِّي على الله أحدًا. وطالعتُ فيه كلمات للشيخ الباني تمثِّل عُصارَة تجرِبته في الدَّعوة والتربية والإصلاح، أحسن المؤلِّف صُنعًا حين قيَّدها وأفردها بالذِّكر تحت عنوان: (من أقواله ووصاياه).
وتبقى في النفس كُلَيمة لا بدَّ منها، ذلك أني لم أعُد أستطيع أن أحملَ نفسي على قراءة كلِّ ما يَرِدُ إليَّ، بل غَدا المكتوبُ هو الذي يحمِلُني على القراءة ويشدُّني إليها، وقد يتخطَّفني - إمَّا كان عاليًا سائغًا بيِّنًا - من أكثر أوقاتي شغلاً، وأعزِّها ثمنًا، وأضيقها سعةً.
ولا ريبَ أن من هذا النادر الذي لا أملكُ دفعَه أو تأجيلَ قراءته ما تخطُّه أناملُ الأستاذ أيمن بريشةٍ بارعة وفنٍّ متقَن. ولا أريد هنا أن أرتديَ طَيلَسانَ الناقد الأدبيِّ أو المحلِّل الدارس لأسلوبه الراقي في الكتابة، بل جلُّ ما أريد أن أبيِّنَه بلسان حال المتذوِّق لحلو الكلام وفصيحه وبليغه، أنَّ كتابته تأسِرُني، وأن حرفه يبدو لي برَّاقًا لامعًا يكاد من حُسنه يتكلَّم، فأُراني أقرأ ما يكتب دون توقُّف أو تلكُّؤ أو تملمُل، بل هي القراءة المسترسِلة، لكلام يجمع بين الجَزالة والسَّلاسَة، والفصاحة والبلاغة، والبيان والإبداع. وهو ما تصبو إليه النفسُ ويرتاح إليه العقل، ويغمر القلبَ بالبِشْر والسَّعادة.
فهنيئًا لك أبا أحمد حرفُك الرائع، وبيانُك السَّاطع، وفكرُك الناصع..
وهنيئًا لكلِّ من يقرؤك متعةُ الأدب، ونزهةُ الفِكر، ونفعُ العلم..
وفَّقَك الله إلى مزيدٍ من العطاء والوفاء وحُسن البلاء..
والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.
من اليمين: كاتب الكلمة د. محمد حسان الطيان، ود. محمد بن لطفي الصبَّاغ، ود. يحيى مير علم،
وأ. أيمن بن أحمد ذوالغـنى، والعلامة عبد الرحمن الباني رحمه الله، والشيخ سليمان الحرش
([1])
هذه الكلمة قدَّم بها الكاتبُ كتابَ الأستاذ أيمن بن أحمد ذو الغنى: "العلامة المربي عبد الرحمن الباني؛ شذرات من سيرته وشهادات عارفيه".