هل تعرفون من هذا الرجل
حازم ناظم فاضل
"إن جميع رجال الدولة يعرفونني عن كثب، ولا سيما أولئك الذين عاصروا الظروف الجسام التي مرت على البلاد، منذ إعلان الحرية (الدستور)، وأثناء الحرب العالمية الأولى، وخلال غزو الحلفاء للبلاد ودخولهم إستانبول، وما أعقبته من أحداث لحين تشكل الحكومة الوطنية، وفترة إعلان الجمهورية؛ فالذين يحيطون علماً بتلك الظروف ممن يتولون الآن مناصب في الدولة يعرفونني معرفة جيدة ومع هذا فاسمحوا لي أن أعرض مشاهد من حياتي أمامكم عرضاً سريعاً.
"ولدت في قرية " نورس" التابعة لولاية "بتليس" وطوال فترة حياة التلمذة وتحصيل العلوم، دخلت في مناقشات علمية حادة مع كل من قابلته من العلماء، كنت أتغلب عليهم بفضل العناية الربانية. حتى بلغت إستانبول. وهناك في جوها المشوب بآفة الشهرة والصيت، لم أنقطع عن مناظراتي العلمية. إلا أن وشاية الحاسدين والخصماء أدت بي أن أساق إلى مستشفى المجاذيب بأمر السلطان عبد الحميد - رحمه الله رحمة واسعة- ثم استقطبت نظر حكومة الاتحاد والترقي، بناءً على خدماتي أثناء إعلان الدستور وحادثة 31/مارت (1). طرحت عليهم مشروع بناء جامعة في مدينة "وان"، باسم "مدرسة الزهراء" على غرار الأزهر الشريف. حتى إنني وضعت حجرها الأساس بنفسي، ولكن ما إن اندلعت الحرب العالمية الأولى حتى شكّلت من طلابي والمتطوعين "فرق الأنصار" وتوليت قيادتهم فخضنا معارك ضارية في جبهة القفقاس مع الروس المعتدين في "بتليس" حيث وقعت أسيراً بيدهم، إلا أن العناية الربانية أنجتني من الأسر. وأتيت إستانبول وعُينت فيها عضواً في دار الحكمة الإسلامية، وبادرت إلى مجاهدة الغزاة المحتلين لإستانبول في تلك الظروف الحرجة، وبكل ما وهبني الله من طاقة، إلى أن انتهت حروب الاستقلال وتشكلت الحكومة الوطنية في أنقره، فنظرتْ من جديد -تثميناً لخدماتي تلك- إلى مشروع تأسيس الجامعة في "وان".
إلى هنا كانت حياتي طافحة بخدمة البلاد، وفق ما كنت أحمله من فكرة خدمة الدين عن طريق السياسة، ولكن بعد هذه الفترة وليت وجهي كلية عن الدنيا وقبرت "سعيداً القديم" -حسب اصطلاحي- وأصبحت سعيداً جديداً يعيش كلّياً للآخرة فانسللت من حياة المجتمع، ونفضت يدي عن كل ما يخصهم، فاعتزلت الناس تماماً، واعتكفت في "تل يوشع" في استانبول، ومن ثم في مغارات في جبال "وان وبتليس". بت في مجاهدة مستديمة مع روحي ووجداني. وانفردت إلى عالمي الروحي رافعاً شعار "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة" صرفت كل همّي ووقتي إلى تدبّر معاني القرآن الكريم. وبدأت أعيش حياة" سعيد الجديد"، أخذتني الأقدار نفياً من مدينة إلى أخرى، وفي هذه الأثناء تولدت من صميم قلبي معان جليلة نابعة من فيوضات القرآن الكريم، أمليتها على من حولي من الأشخاص، تلك الرسائل، التي أطلقت عليها "رسائل النور" لقد انبعثت حقاً من نور القرآن الكريم. لذا نبع هذا الاسم من صميم وجداني، فأنا على قناعة تامة ويقين جازم بأن هذه الرسائل ليست مما مضغته أفكاري وإنما هي إلهام إلهي أفاضه الله سبحانه على قلبي من نور القرآن الكريم فباركت كل من استنسخها، لأنني على يقين أن لا سبيل إلى حفظ إيمان الآخرين غير هذه السبيل فلا تمنع تلك الفيوضات عن المحتاجين إليها.
وهكذا تلقفتها الأيدي الأمينة بالاستنساخ والنشر، فأيقنت أن هذا تسخير رباني وسوق إلهي لحفظ إيمان المسلمين فلا يستطيع أحد أن يمنع ذلك التسخير والسّوق الإلاهي، فاستشعرت بضرورة تشجيع كل من يعمل في هذه السبيل امتثالاً بما يأمرني به ديني. فهذه الرسائل التي تربو على المئة والثلاثين رسالة لا تبحث بحثاً مقصوداً عن أمور الدنيا والسياسة، وإنما تخص كلياً أمور الآخرة والإيمان، وعلى الرغم من كل هذا فقد أصبحت الشغل الشاغل للانتهازيين والمتصيدين في الماء العكر حتى أوقفتني السلطات في كل من "أسكي شهر" و"قسطموني" و"دينزلي"، وأجرت المحاكم تدقيقات علمية على الرسائل قام بها خبراء متخصصون، إلا أن الحقيقة - بفضل الله سبحانه - كانت تتجلَّى بنصاعتها دوماً، وتتبوأ العدالة مكانتها اللائقة بها" (2).
كانت الفقرات المذكورة جزء من رسالة بعث بها كاتبه الى كل من ؛ رئاسة الوزارة ،ووزارة العدل ،ووزارة الداخلية ، وهي جزء من دفاعه تجاه المحاكم التركية .. فضلاً عن كونها وثيقة تاريخية .
انه وبكل صراحة واطمئنان يروي نبذة مقتضبة عن حياته ، وكيف نذر نفسه في خدمة البلاد والعباد طوال حياته !!.. وكيف انه تجرد عن كل ملذات الحياة ليكون بحق : خادم القرآن الكريم في هذا العصر العصيب .
فمَن هو هذا الرجل يا ترى ؟! ..
انه .. بديع الزمان سعيد النورسي .
(1) حادثة31 مارت 1325(حسب التقويم الرومي)، وهي حادثة تمرد وعصيان عسكري بدأ في معسكر(طاش قشلة) في استانبول، ثم انتشر الى معسكرات اخرى فيها، ثم نزل الجنود المتمردون الى الشوارع، وقتلوا بعض الوزراء والنواب والضباط . وقعت هذه الحادثة في 13 نيسان 1909 اي بعد اعلان المشروطية الثانية ووصول جمعية الاتحاد والترقي الى موقع مؤثر في الحكم، ولكنها لم تكن قد شددت قبضتها بعدُ، أتهم السلطان عبد الحميد ظلماً باثارة التمرد، واستدعت الجمعية مدداً عسكرياً من مقرها الرئيس في »سلانيك« ومع ان السلطان كان بمقدوره تشتيت هذا المدد العسكري الاّ انه لم يفعل حقناً للدماء. وبعد وصول الجيش الى استانبول اُعلنت الاحكام العرفية وقُضي على التمرد، وشكلت محكمة عسكرية اعدمت الكثيرين، وانتهزت الجمعية هذه الحادثة وقامت بعزل السلطان.
(2) الشعاعات ، الشعاع الرابع عشر ، ص 541 ، لبديع الزمان سعيد النورسي ، ترجمة احسان قاسم الصالحي .