سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا" (2)
سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا" (2)
بدر محمد بدر
في هذا المحضن الإيماني والعلمي والفقهي الرباني, نشأ "حسن البنا" وتأثر بوالده, وتطبع بالكثير من طباعه وخصاله, وتعلم على يديه حرفة إصلاح الساعات, بل وشاركه بالعمل في محله, حتى أنه افتتح محلاً خاصاً به, في إحدى مراحل حياته المبكرة, كما أتقن أيضاً صناعة تجليد الكتب.
وهو في الثامنة من عمره (13333 هـ ـ 1915 م) التحق حسن البنا بمدرسة الرشاد الدينية, واستمر فيها لمدة أربع سنوات, وكان صاحب المدرسة هو العالم الجليل الشيخ محمد محمد زهران, الذي تأثر به "الشبل" حسن أعظم التأثر من كثرة ملازمته والتلقي على يديه, حتى أنه وصفه في " مذكرات الدعوة والداعية " بأنه الرجل الذكي الألمعي, العالم التقي, الفطن اللقن الظريف, الذي كان بين الناس سراجاً مشرقاً بنور العلم والفضل, يضئ في كل مكان.. " .. ويصف مدرسة الرشاد بأنها "كانت كالمعاهد الرائعة, التي تعتبر دار علم ومعهد تربية على السواء, ممتازة في مادتها وطريقتها.."، وعن أسلوب صاحب المدرسة في التدريس والتربية يقول حسن البنا: "كان للرجل أسلوب في التدريس والتربية مؤثر ومنتج, رغم أنه لم يدرس علوم التربية, ولم يتلق قواعد علم النفس, فكان يعتمد ـ أكثر ما يعتمد ـ على المشاركة الوجدانية بينه وبين تلامذته, وكان يحاسبهم على تصرفاتهم حساباً دقيقاً, مشرباً بإشعارهم بالثقة بهم والاعتماد عليهم, ويجازيهم على الإحسان أو الإساءة جزاءً أدبياً, يبعث في النفس نشوة الرضا والسرور مع الإحسان, كما يذيقها قوارص الألم والحزن مع الإساءة..".
كان العالم الجليل الشيخ محمد محمد زهران, أحد الرجال المخلصين الذين وضعهم الله في طريق "حسن البنا" في تلك السن المبكرة, فساهم في تكوين البنية الإيمانية والثقافية والسلوكية لهذا الشبل, التي أورقت وأزهرت وأثمرت الكثير والكثير.. يقول "حسن البنا" عن الشيخ "زهران" في مذكراته: " لقد كنا نحب أستاذنا حباً جماً, رغم ما كان يكلفنا من مرهقات الأعمال, ولعلي أفدت منه ـ رحمه الله ـ مع تلك العاطفة الروحية, حب الاطلاع وكثرة القراءة, إذ كثيراً ما كان يصحبني إلى مكتبه, وفيها الكثير من المؤلفات النافعة لأراجع له, وأقرأ عليه (فقد كان كفيفاً) ما يحتاج إليه من مسائل, وكثيراً ما يكون معه بعض جلسائه من أهل العلم, فيتناولون الموضوع بالبحث والنظر والنقاش, وأنا أسمع..".
وتأمل معي ـ عزيزي القارئ ـ وقارن بين هذا الأسلوب البديع الذي يتحدث به "حسن البنا" عن أساتذته ومعلميه في هذه المرحلة من العمر, وكيف أنه يحمل لهم كل هذا الحب والتقدير والإعزاز, وبين موقف الدكتور طه حسين في كتابه "الأيام" وهو أيضاً يتحدث عن أساتذته ومعلميه من علماء الأزهر الشريف, وكيف أنه قدم لهم صورة سلبية منفرة.. لا تليق بمن علموه العلم الشرعي.
في المدرسة الإعدادية:
وعندما بلغ "حسن" الثانية عشرة من عمره, ترك مدرسة الرشاد الدينية, بعد أن أتم حفظ نصف القرآن الكريم تقريباً (من أول سورة البقرة وحتى سورة الإسراء), وطلب من والده أن يلتحق بالمدرسة الإعدادية (وهي تعادل منهج المدارس الابتدائية الآن), ورغم معارضة والده, الذي كان حريصاً على أن يحفظ ولده كتاب الله تعالى, إلا أنه وافق بعد أن تعهد له " حسن " بأن يتم حفظ القرآن الكريم من منزله, وبالفعل التحق بالمدرسة الإعدادية, وواظب على حفظ القرآن الكريم, كما حرص على الذهاب إلى محل والده لتصليح الساعات, لمساعدته في مهنته.
انتظم "حسن" في الدراسة وبدأت ثمار مدرسة الرشاد الدينية تظهر في سلوك هذا الشبل الواعد, فأسس مع زملائه في المدرسة الإعدادية "جمعية الأخلاق الأدبية" باقتراح من محمد أفندي عبد الخالق مدرس الحساب والرياضة بالمدرسة, ورأس "حسن" مجلس إدارتها, وكان أعضاؤها يتواصون فيما بينهم بالتمسك بآداب الدين وأداء الصلوات في أوقاتها, والحرص على طاعة الله والوالدين, واحترام من هم أكبر سناً ومقاماً, ولا شك في أن تربية " مدرسة الرشاد الدينية " كان لها أثرها الواضح في أن يتبوأ "حسن" هذه المنزلة الرفيعة بين زملائه, حتى أنه في نفس الفترة, اشترك في تأسيس جمعية أخرى تحت اسم " جمعية منع المحرمات " التي استمرت تؤدي عملها في " النصح والتوجيه والإرشاد, والتحذير من ارتكاب الآثام والمعاصي والذنوب "لمدة ستة أشهر, حتى اكتشفها الناس وبدأوا يضايقونها ـ في هذه المرحلة ـ أمرين, الأول: أنه استقر في وعي "حسن البنا" وفي وجدانه منذ تلك المرحلة المبكرة من حياته, ضرورة العمل للإسلام, وتوعية الناس ونصحهم وإرشادهم وتحذيرهم من المعاصي والآثام والذنوب.. الأمر الثاني: ضرورة العمل الجماعي, وأن الجماعة مهما كانت صغيرة, وعدد أفرادها قلائل, فهي أفضل من الجهد الفردي مهما كانت صغيرة, وعدد أفرادها قلائل, فهي أفضل من الجهد الفردي مهما كان كبيراً .. وهي المعاني التي نمت في داخله بعد ذلك, وشكلت أساس منهجه وحركته..
وبعد عام ونصف العام من الدراسة, قرر مجلس مديرية "محافظة البحيرة", إلغاء نظام المدارس الإعدادية, وتحويلها إلى مدارس ابتدائية, وكان "حسن" قد بلغ الثالثة عشرة والنصف من عمره, وأتم حفظ الربع الثالث من القرآن الكريم حتى سورة "يس".. وكان أمامه أحد طريقين: إما أن يتقدم إلى التعليم الديني الأزهري, فيلتحق بالمعهد الأزهري بمدينة الإسكندرية, وإما أن يتقدم إلى مدرسة المعلمين الأولية بمدينة دمنهور, ليختصر الطريق ويكون ـ بعد ثلاث سنوات ـ معلماً في المدارس الأولية (تعادل الابتدائية الآن), فاختار الطريق الأخير, وقيض الله له من تغاضى عن شرط السن (كان أقل بستة أشهر من سن القبول), وقبلت الإدارة منه تعهده بحفظ الربع الرابع للقرآن الكريم, وصرحت له بأداء الامتحان التحريري والشفهي فأداهما بنجاح..
قضى "حسن البنا" ثلاث سنوات في مدرسة المعلمين الأولية بمدينة دمنهور من عام (38 إلى 1341 هـ) الموافق (20 ـ 1923 م) وهي الفترة التي أعقبت ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني, وشهدت تلاحماً وطنياً رائعاً في مواجهة الإنجليز, وشارك "حسن البنا" في الواجبات الوطنية التي ألقيت على كواهل الطلاب وقتها من مسيرات ومظاهرات وغيرها, إلا أن عاطفة التصوف والعبادة كانت أكثر إشعاعاً في نفسه ووجدانه.
كانت "حلقة الذكر" في المسجد الصغير بقرية "المحمودية" التي يقيمها "الإخوان الحصافية", وهي إحدى الطرق الصوفية التي تنتشرـ وأمثالها ـ كثيراً في القرى المصرية, قد اجتذب "حسن" وأعجب "بأصواتها المنسقة ونشيدها الجميل وروحانيتها الفياضة, وسماحة هؤلاء الذاكرين من شيوخ فضلاء وشباب صالحين, توطدت الصلة بينه وبينهم, وازداد تعلقه بهم وبشيخهم مؤسس الطريقة الشيخ حسنين الحصافي, خصوصاً بعد أن قرأ كتاب "المنهل الصافي في مناقب حسنين الحصافي" .. يقول عنه في "مذكرات الدعوة والداعية": كان عالماً أزهرياً, تفقه على مذهب الإمام الشافعي ودرس علوم الدين دراسة واسعة, وامتلأ منها وتضلع فيها, ثم تلقي بعد ذلك الطريق على كثير من شيوخ عصره, وجد واجتهد في العبادة والذكر والمداومة على الطاعات, وكانت دعوته مؤسسة على العلم والتعليم والفقه والعبادة والطاعة والذكر, ومحاربة البدع والخرافات الفاشية بين أبناء هذه الطرق, والانتصار للكتاب والسنة على أية حال..
هذه ـ إذن ـ هي الصوفية الصحيحة التي تعلم منها "حسن البنا" رقة القلب وصدق العاطفة وحسن الصلة بالله, وروحانية العبادة وأدب الخشية من الله, وليست تلك التي تعيش على الخرافات الكاذبة والبدع والانحرافات العقيدية, والذين ينتقدون "صوفية" حسن البنا عليهم أولاً أن يقرءوا ويعرفوا ما هي صوفية حسن البنا.