علي الطنطاوي
الشيخ، القاضي، المربي،
الأديب الكبير، محدّث الإذاعة والتلفاز
الشيخ: علي الطنطاوي
م. محمد عادل فارس
من الأدباء من يجيد مخاطبة شريحة من الناس، شريحة الشباب، أو الكهول، أو الشيوخ، أو شريحة العوام أو متوسطي العلم والثقافة، أو عِلْية القوم من أصحاب الفكر والقدم الراسخة في العلم... فإذا حاول قارئ من غير الشريحة التي يخاطبها ذلك الأديب، استصعب أسلوب ذلك الأديب أو استهجنه...
وأن تجد أديباً يكتب بسلاسة عذبة، وأصالة عميقة، ويجوبُ بك آفاق المعرفة، ويسكب في قلبك عالي البيان، فتطرب له، وتفهم عنه، وتتفاعل معه فتبكي إذا أبكاك، وتضحك إذا أضحكك، وتعجب إذا عجّبك، وتغضب إذا أغضبك... وتكون هذه حالك وحال ابنك وحال أبيك، وأحوال أصدقائك ومعارفك، مَنْ كان منهم قليل البضاعة في العلم والأدب، ومن كان ملمّاً من كل فنّ بطرف، ومن كان مختصاً في جانب أو أكثر من جوانب الثقافة والعلم... نعم أن تجد ذلك الأديب فقد وجدت علياً الطنطاوي.
تسمع له في الإذاعة والتلفاز وهو يحدّث الحديث الممتع الذي يشدُّ الأبصار والبصائر، فتسكُنُ أمامه كأنك على رأسك الطير، وترنو إليه بسمعك وبصرك وفؤادك، ولا تملك أن تتزحزح عن مجلسك ذاك أو تلتفت إلا أن ينهي حديثه. وتبقى في نفسك حلاوة حديثه، وصدق لهجته، وبراعة تصويره، وعذوبة عبارته، وعمق فكرته.
وتقرأ له فيشدُّك شدّاً، ويغوص بك في أعماق النفس وأعماق التاريخ، في طول البلاد وعرضها، وتتلذَّذ بعبارته وحسن عَرْضه، وتعجب من سهولة عبارته حتى لتحسب أنك قادر أن تكتب مثله وأحسن، فإذا غرّتك نفسك وحاولت، أيقنت أنك أمام السهل الممتنع.
إنه علي بن مصطفى بن محمد الطنطاوي الذي ولد في دمشق سنة 1909م، وتوفي في جدة سنة 1999م.
جدّه محمد كان عالماً في علوم الشرع والفلك.
وأبوه مصطفى كان عالماً متمكناً، شغل موقع أمين الفتوى في دمشق، ومديراً لإحدى المدارس ثم رئيس ديوان محكمة النقض.
وخاله هو الكاتب الأديب المحقق محب الدين الخطيب.
تلقى علي الطنطاوي علومه في دمشق وفي دار العلوم في مصر، ثم نال الإجازة في الحقوق من الجامعة السورية التي أصبح اسمها فيما بعد: جامعة دمشق. وشارك في الجهاد ضد المستعمر الفرنسي.
عمل مدرّساً في مدارس دمشق وبغداد وكركوك والبصرة وبيروت... وعُيِّن قاضياً في بعض نواحي دمشق ثم "قاضياً ممتازاً" في دمشق، ثم مستشاراً لمحكمة النقض.
وعمل في صياغة قوانين المواريث والوصية والأسرة، أو ما يسمى بالأحوال الشخصية.
ثم انتقل إلى السعودية فدرّس في كليتي الشريعة واللغة العربية في الرياض، ثم في مكة وجدة.
كان له حديثٌ جِدُّ ممتع في إذاعة دمشق عقب صلاة الجمعة، وعقب الإفطار في أيام رمضان، لا يكاد كبير أو صغير يستغني عن استماعه، بل كان جُلُّ الناس يحرصون عليه كل الحرص.
وفي السعودية كذلك صار يلقي الدروس والمحاضرات ويجيب على الفتاوى في الإذاعة والتلفاز، وما يزال الناس يذكرون له البرنامج الإذاعي "مسائل ومشكلات" والبرنامج التلفزيوني "نور وهداية". فقد كان حديثه يفيض علماً وحكمة واعتدالاً وفقهاً وأدباً.
وكتب مئات المقالات، فنشرها في بعض الصحف والمجلات كـ(الفتح) و(ألف باء) و(المسلمون) و(النصر) و(الحج) و(المدينة) و(الناقد) و(الشرق الأوسط)...
وألف الكثير من الكتب مثل (رجال من التاريخ) و(قصص من التاريخ) و(صور وخواطر) و(قصص من الحياة) و(أخبار عمر وعبد الله بن عمر) و(ذكريات)...
وله كتابات للأطفال كذلك.
وكان في أحاديثه الخاصة والعامة ومحاضراته وكتبه.. نقي الفكر، ذكيّ الفؤاد، شديد الغيرة على الإسلام، لا يرضى أن يلوِّثه بالمصطلحات الوافدة من ثقافات أخرى، غيوراً على اللغة العربية، حريصاً على نشر الفصيح من غير تقعُّر، محارباً للذوبان في الثقافات الأخرى لغةً أو خلقاً أو أسلوب حياة.
قُدِّمت له عروض سخية من مال ومنصب وجاه... لقاء أن يقول كلمةً يزيّن بها موقف بعض الطغاة، فأبى كل الإباء.
كان له خمس بنات، إحداهن "بنان" زوج الأستاذ عصام العطار، تلك التي اغتالتها يد الإجرام في "آخن – ألمانيا" فصبر على فقدها، واحتسبها عند الله.
لقد كان علي الطنطاوي من الرجال القلائل، رجلاً جمع الإيمان القوي، والاعتزاز العظيم بدينه، والفقه العميق له، والخلق العالي، والقلم المبدع، واللسان الفصيح. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه جنات الخلد.