الشيخ محمد بشير حداد
العالم الزاهد والعلامة الفقيه
محمد فاروق الإمام
هو العالم الورع التقي الزاهد الفاضل العلامة الفقيه المقرئ الشيخ أبو محمد، محمد بشير بن أحمد حداد الحلبي الحنفي المذهب – والمشارك في الفقه الشافعي- , ولد في حلب الشهباء في باب الحديد في حي الشميصاتيه عند طلعة ثكنة هنانو سنة 1326 هـ / 1909 م.
كان والده إمام, ومؤذن جامع الحدادين
توفي والد الشيخ محمد بشير سنة (1330هـ / 1913م)، وعمره أربع سنوات، وعمر أخيه الأكبر(محمد علي) 12 سنة، وله أخ أصغر منه، فتولى رعايتهم وكان مؤذناً لجامع الحدادين، ومختاراً لـ حي شميصاتية بـباب الحديدد لمدة خمسين سنة, وكان من نسابة حلب والعارفين بأهلها، وكانت دائرة النفوس بحلب إذا وقعت في مشكلة عويصة هرعت إليه طالبة منه الحل, وكان ممن يساعد المجاهدين على مقاومة المستعمرين الفرنسيين.
حرص محمد علي على تعليم الشيخ محمد بشير القرآن الكريم, فقام بتسجيله بدار الحفاظ , فتلقى القرآن على الشيخ محمد بايزيد بقراءة حفص عن عاصم عن ظهر قلب تلقياً, وحفظاً, وتجويداً في مدة لم تجاوز ثلاث سنوات. ثم قام أخوه بعدئذ بتسجيله في المدرسة الحلوية الواقعة أمام الجامع الأموي الكبير بحلب, فتلقى العلوم الشرعية من الفقه, والنحو, والصرف, والبلاغة, والحديث, والتفسير وغيرها لمدة خمس سنوات على شيخه الشيخ عبد الوهاب بن الشيخ مصطفى بن الشيخ محمد طلس الحلبي الحنفي(1299- 1354هـ), مدير المدرسة الحلوية ومُتَوَلَّيها.
ثم سعى محمد علي في إلحاق أخيه محمد بشير بوظيفة مؤذن في جامع الكلتاوية (الواقع في أول مدخل حي البياضة عند قبو النجارين) ولم يتجاوز حينذاك الحادية عشرة من عمره.
تزوج الشيخ من السيدة فطوم بنت محمود الخطيب, من إحدى الأُسر الكريمة الحلبية , فأنجبت له خمسة ذكور وبنتين.
بدأ الشيخ محمد بشير بوظيفة مؤذن في( جامع الكلتاويه) -كما تقدَّم - ثم استلم إمامة (جامع بنقوسا) لصلاتي الظهر والعصر. ثم استلم بعد ذلك إمامة جامع (الكلتاوية) وكالة عن إمام الجامع الشيخ محمد قلعجي، ثم صار إماماً رسمياً بعد وفاة الشيخ القلعجي, فسكن في غرفة جامع الكلتاوية مع عائلته إلى أن رزقه الله داراً فخرج من سكن الجامع, وعين أيضاً خطيبا لجامع الكلتاوية, ثم خطيباً في جامع الفردوس, ثم في جامع المدرسة الشعبانية, ثم في جامع الترمذي الواقع في حي جب القبة.
فتح الشيخ عدَّة مكاتب المعروفة بالكتّاب, أو الكتاتيب لتدريس القرآن, والحساب, والإملاء في عدة أماكن، فكان أولها في منزله الكائن في طلعة ثكنة هنانو، حيث توجد فيه قاعة كبيرة كان يُدرّس فيها, ثم في جامع الحدادين في الأروقة, ثم في مكتب الأستاذ أبي موفق العلبي، مشاركة معه (حيث كان الشيخ والأستاذ أبو موفق العلبي، والشيخ الكفيف كامل كزة، والشيخ بشير منصور هم أول من نشروا الطريقة البغدادية والطريقة المصرية في تعليم الكتابة والقراءة في حلب), ثم فتح مكتباً استقلَّ فيه في جامع الحدادين, ثم انتقل بعد ذلك إلى مكتب جديد على حدة في قسطل أول طلعة ثكنة هنانو, ثم في جامع السليمانية, ثم انتقل إلى مكتب آخر في قسطل في أقيول, ثم ترك مهنة الكتّاب بعدما علم أولاده الأربعة القرآن الكريم تجويداً, وحفظاً.
وحينما عَلِم الدكتور معروف الدواليبي ( وهو من أبناء حي الكلتاوية ) بفراغ غرفة المسجد – كما تقدم-, جاء إلى الشيخ محمد بشير يستأذن للشيخ محمد النبهان ليُسكنه في الغرفة الملحقة بالمسجد, فرحب به وأكرمه ومن هنا كانت بداية اتصاله بالشيخ النبهان, فاعتكف الشيخ محمد النبهان رحمه الله في هذا الجامع لعدة سنوات. ثم سطع نجم الشيخ محمد النبهان, فقام بتكبير جامع الكلتاوية, وبناء عدة غرف, لتكون نواة لمدرسة شرعية (دار نهضة العلوم الشرعية), واتخذ الشيخ النبهان بيت الشيخ محمد بشير لتدريس النساء فيه.
أثناء دراسة الشيخ بالحلوية، توفي القاضي الشرعي الشيخ عبد الرحمن فحَّام , فاشترى مكتبة الشيخ الفحام الخاصة كاملة فكان منها كتاب «حاشية ابن عابدين», وغيرها من الكتب العلمية المهمة , ومن هنا كانت بداية تلقيه المذهب الحنفي على مفتي حلب العلامة الشيخ أحمد بن محمد عَسَّاف الكردي الحلبي الحنفي (1299- 1373), فدرس عليه «حاشية ابن عابدين» في المدرسة الرضائية المعروفة بالعثمانية ( التي تعتبر أرفع معهد شرعي), مرتين ونصف قراءةً وفهماً على مدى ثمانية وعشرين سنة كاملة دون انقطاع, وكان بينهما صلة وثيقة.
واشتهر الشيخ بالقرآن الكريم, رغم أنه كان فقيهاً, مولعاً بحاشية ابن عابدين-كان يحل المسائل الدقيقة قل من يستطيع حلها- فكان مُدرّسَ القرآنِ الكريم, والتفسيرِ بدار نهضة العلوم الشرعية (المدرسة الكلتاوية)، فكان أستاذ القرآن الكريم بالكلتاوية, فتلقى عنه الكثير من طلبة العلم فيها, وكان له جلسة إقراء القرآن الكريم يومياً من بعد صلاة العصر حتى صلاة العشاء في جامع الكلتاوية.
في أوائل الثمانينات الميلادية انتقل الشيخ محمد بشير إلى العراق، وجعل من مدينة الفلوجة مقراً له، حيث كان لبعض أهلها صلة به وبشيخه الشيخ محمد النبهان، بل إن الشيخ النبهان أرسله قبل ذلك نيابة عنه لافتتاح معهدين شرعيين فيها. فرحَّبوا به أجمل ترحيب، وأقام في ضيافتهم معزَّزاً مكرَّماً، في دار الجامع الكبير بالفلوجة, وكان في الجامع مكتبة الشيخ عبد القادر الخطيب العامرة, فعوّضه الله عن مكتبته التي في حلب, حيث كان الكتاب لايفارق يده, فأقام في الجامع الكبير يفتي ويدرس فيه, فأصبح مرجعاً لطلاب العلم, والمستفتين, وكانت له مجالس علمية يُدرس فيها الفقه والتجويد، وغيرها من العلوم الشرعية, وحفظ عليه القرآن الكريم جماعة من أهل العلم، وكان من تلاميذه فيها الدكتور عبد الحكيم الأنيس، وأخيه الدكتور عبد السميع الأنيس ، والشيخ محمد عطان عباس, وغيرهم الكثير, وقد استمر بقاؤه بالعراق لمدة تسع سنوات متواصلة في العطاء المتواصل, وفي سنة 1989م انتقل إلى المدينة المنورة. فأقام عند الشيخ سعد الدين متشرِّفاً بالتردد على الحرم النبوي الشريف ,و كان كثير من العلماء والفضلاء من المجاورين والزوار يقصدونه للزيارة والاستفادة، فلا يخلو بيته يوم من الأيام من أولئك الضيوف الذين يزورونه، إضافة إلى إقرائه القرآن الكريم , وكان يزور فضيلة الشيخ عبد الله سراج الدين كثيراً, وكان الشيخ عبد الله سراج الدين يرحِّب به ويُسَرُّ بزيارته له, وكذلك كان بينه وبين فضيلة الشيخ محمد نمر الخطيب زيارات متبادلة ومحبة عميقة, وكان ممن يحب الشيخ محمد بشير ويزوره كثيراً الشيخ محمد عوامة والشيخ أسعد الصاغرجي, وأقرأ فيها بعض طلبة العلم, وممن لازمه واستفاد منه تلميذه الدكتور عماد حافظ ( إمام جامع قباء في المدينة المنورة)، والمدرس في الجامعة الإسلامية، حيث لازمه سنتين، وتلقى عليه ختمة كاملة من القرآن الكريم .
ومن أخلاقه رحمه الله أنه كان لا يرضى, ولا يسمح أن يذكر أمامه أو في مجلسه أي إنسان بغيبة, فلذا يحتاط جلساؤه والوافدون إليه احتياطاً كلياً من الوقوع في هذا الأمر, وكان عفيف النفس, كريم الخلق, صالحاً منوراً , زاهداً في حطام الدنيا, شديد التواضع, خافت الصوت, لا يسمع صوته إلا إذا انتهكت حرمات الله. وكان طويل القامة, أبيض مشرباً بحمرة, ذو لحية كثيفة بيضاء, يلبس العمامة البيضاء, والجبة. وكانت له أعمال جليلة، وفي مقدمتها شراء وانتقاء كتب علمية ليهديها لطلبة الكلتاوية الأذكياء النابهين والمطالعين للكتب والمُجدِّين في طلب العلم ,كما كان ينفق على أقربائه بما تجود به نفسه على حسب قدرته. كما كان يعرف أهل الفضل، ويستحضر الأحداث، ويتمتع بذاكرة نادرة, وكان كثير القراءة محباً لها.
توفي الشيخ محمد بشير في المدينة المنورة في أواخر جمادى الآخرة سنة 1413هـ/ 24 تشرين الأول سنة 1992م.