سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (4)
كيف علمت بمؤامرة اغتيال حسن البنا ولماذا لم تبلغه حتى يتمكن من النجاة؟
اتهمتها السلطة بالانتماء إلى الشيوعية وحلت جمعيتها لكن القضاء رد اعتبارها
بدر محمد بدر
وتكمل زينب الغزالي الموضوع: " وعاد شقيقي ليحدد لي لقاءً سريعاً في دار الشبان المسلمين, كان المفروض أن يحدث وكأنه مصادفة, ولم أكن أعلم مبرراً لتواجدي هناك, فقد كنت ذاهبة إلى صالة دار الشبان المسلمين لإلقاء محاضرة, والتقيت بالأستاذ حسن البنا فقلت له ونحن نصعد الدرج: " اللهم إني أبايعك على العمل لقيام دولة الإسلام, وأرخص ما أقدم في سبيلها دمي, والسيدات المسلمات بشهرتها " فقال: " وأنا قبلت البيعة, وتظل السيدات المسلمات الآن على ما هي عليه ", وافترقنا على أن يكون اتصالنا بواسطة شقيقي محمد, وكانت أول رسالة من الإمام البنا لي تكليفاً بالوساطة بين النحاس باشا ( الزعيم الوفدي المعروف ) والإخوان المسلمين, وكان رفعة مصطفي باشا النحاس خارج الحكم حينذاك, وحدد النحاس المرحوم أمين خليل للقيام بإزالة سوء التفاهم, ورضي به الإمام الشهيد وكنت أنا حلقة الاتصال.. وفي ليلة من ليالي فبراير سنة 1949 جاءني أمين خليل يقول لي: يجب اتخاذ إجراءات سريعة ليسافر حسن البنا من القاهرة, فالمجرمون يأتمرون به ليقتلوه.. ولم أجد وسيلة للاتصال به مباشرة فقد اعتقل أخي, فحاولت الاتصال بالإمام الشهيد شخصياً, وأنا في طريقي للاتصال به بلغني خبر الاغتيال ونقله إلى المستشفى, ثم تواترت الأخبار بسرعة بسوء حالته, وذهب شهيداً إلى ربه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحين أولئك رفيقاً..".
كانت فترة الأربعينيات من القرن الماضي من أخصب الفترات في حياة الداعية زينب الغزالي, من ناحية العمل الدعوي والاجتماعي والانتشار داخل مصر, حيث اتسعت دائرة علاقاتها الفكرية والعلمية مع علماء الأزهر الشريف في مجالات العقيدة والحديث والتفسير والفقه واللغة, وغيرها من علوم الدين, كما اتسعت دائرة علاقاتها بالوسط الإسلامي الشعبي من خلال علاقتها بالإخوان المسلمين رجالاً ونساءً, وقويت علاقاتها كذلك على المستوى السياسي والحزبي, خصوصاً مع قيادات حزب الوفد وعلى رأسهم مصطفى النحاس باشا.. أما على المستوى الشخصي فقد تزوجت من الشيخ محمد الحافظ التيجاني, وكان عالماً كبيراً من علماء الحديث, وصاحب طريقة صوفية " الطريقة التيجانية ", وله مريدون في معظم الدول الأفريقية..
ونجحت كل هذه العلاقات فيما عدا العلاقة الزوجية التي استمرت عامين فقط ( من 42 إلى 1944م ).. وكانت زينب الغزالي قد قطعت على نفسها عهداً ألا تتزوج, حتى تنشر رسالة السيدات المسلمات, وأن تحقق هدفها في الدعوة إلى الله, وتوقعت أن تستغرق هذه المدة عشر سنوات, ولكن جاء هذا الزواج بعد خمس سنوات فقط من تأسيس الجمعية.. كان الشيخ الحافظ التيجاني عالماً جليلاً وشيخاً معروفاً, لكنه كان بعيداً عن الحياة العامة والميدان السياسي والإعلامي, وبالتالي بدأ يضيق بالجو الذي تعيش فيه زوجته, وبدأ يشعر بالخوف أحياناً من مشاركتها في العمل السياسي.
وذات يوم جاءها ضابط من البوليس السياسي يسأل عنها, وعندما احتجت على ذلك بطريقتها التي تعبر عن شخصيتها القوية, وخلعت صورة الملك فاروق من فوق الحائط وداست عليها, انزعج الزوج أيما انزعاج, وغضب أشد الغضب, وخشي أن يتعرض لمكروه أو إيذاء من قبل السلطة, وهو ما دفع السيدة زينب الغزالي لتتأكد من استحالة استمرار الحياة الزوجية بينهما, وأن طريقها لا يتوافق مع طريقه, وعلى الفور طلبت منه أن يطلقها, ورغم محاولاته لإثنائها عن قرارها, إلا أنها أصرت وحصلت بالفعل على الطلاق, وواصلت دعوتها وجهودها وعطاءها من خلال جمعية السيدات المسلمات, ولم يرزقها الله بأولاد من الشيخ الحافظ التيجاني, كما لم يرزقها بعد ذلك من زوجها الثاني الحاج محمد سالم سالم ـ رجل الأعمال ـ الذي تزوجته عام 1951 وعاشت معه حتى توفي في عام 1966.
انتشرت فروع وجهود جمعية السيدات المسلمات في الأربعينيات من القرن الماضي في عدد كبير من المحافظات المصرية, وبدأت دروس الوعظ والإرشاد تنتشر في مساجد القاهرة, من خلال الواعظات العاملات مع الجمعية, واشتهرت الجمعية كذلك بنشاطها الاجتماعي والخدمي, سواء في حل المشكلات الزوجية أو في رعاية وإيواء الأيتام أو اللقطاء, وبرز أيضاً الحضور والتأثير السياسي للجمعية بشكل قوي, ومن المفارقات المدهشة أن الحكومة في نهاية الأربعينيات قامت بحل الجمعية, وتقدمت إلى القضاء بطلب تأييد قرار الحل لسبب غريب وطريف, وهو أنها تدعو للشيوعية! وكانت تهمة الانتماء إلى الشيوعية شديدة الوقع في ذلك الوقت على المجتمع المصري المتدين, وبالتالي سلاح السلطة ضد المناوئين لها.
وعندما تم عرض الأمر على القضاء المصري, أعاد الأمور إلى نصابها وألغي قرار الحل, وكتب في نص الحكم برفض حل الجمعية بعد أن فحص أوراقها وأنشطتها: إن جمعية السيدات المسلمات قامت بجهود وأنشطة وطنية وإسلامية, جدير بها أن تسجل بأحرف من نور في سجلات التاريخ!
وذات يوم في منتصف أربعينيات القرن الماضي, جاءها استدعاء من القصر الملكي لمقابلة ملك مصر فاروق الأول, وعندما حضرت في الموعد المحدد ودخلت على الملك بادرها بسؤال: لماذا تهاجمينني يا سيدة زينب؟! فأجابت بأدب ودون رهبة: " أنا لا أهاجمك يا جلالة الملك, ولكني أقول رأيي الحر الذي سيحاسبني الله عليه يوم القيامة, في ضرورة أن تقرب إليك من حاشيتك من يخافون الله ويراقبونه, وأن تبعد عنك الفاسدين والمنافقين والمنحرفين.. نحن نريدك ملكا تشارك الأمة في صلواتها وفي عباداتها وفي المناسبات الدينية.. نريدك ملكاً يحبه الشعب ويدافع عنه ويعتز به ".. استمع الملك إلى هذا الكلام الصريح غير الدبلوماسي ولم يعنفها أو يسئ إليها, بل تقبل منها انتقادها الشديد في حضرته, وكأنه أعجب بشجاعتها وصراحتها وصدقها وقوتها في إبداء الرأي, فعادت إلى بيتها سالمة!.
انتهت مرحلة الأربعينيات بكل ما فيها من أحداث كان أهمها الحرب العالمية الثانية وإعلان الأحكام العرفية في مصر, واغتصاب العصابات الصهيونية لفلسطين, ثم حل جماعة الإخوان المسلمين واغتيال الإمام حسن البنا.
لقد كان استشهاد الإمام حسن البنا في الثاني عشر من فبراير عام 1949 صدمة كبيرة لكل من عرف الرجل, ولمس صدقه وإخلاصه وحبه لدينه ووطنه وأمته, وعاش الإخوان المسلمون في ذهول وشعور بالفجيعة لغياب هذا الرجل العملاق, وعاشت الحركة بعده أياماً حالكة السواد, وكان إحساس زينب الغزالي بهول المأساة شديداً, لكنها ـ كعادتها ـ قررت استمرار العمل وإعلان التحدي والوقوف في وجه المؤامرات التي تحاك للدعاة إلى الله والمخلصين لهذا الدين.
وعندما تشكلت حكومة الوفد بعد نحو عامين من اغتيال حسن البنا, عادت جماعة الإخوان إلى نشاطها العلني مرة أخرى, وتم افتتاح المركز العام بعد بيعة المستشار حسن الهضيبي مرشداً للإخوان المسلمين في عام 1951م, وأرادت زينب الغزالي أن تعلن عن ولائها وتأييدها للدعوة بطريق غير مباشر, إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
تقول في كتابها الشهير " أيام من حياتي " : ".. تبرعت بأغلى شئ كنت أعتز به في أثاث منزلي, وهو طقم صالون " أرابيسك " مطعم بالصدف, ليؤثث به مكتب المرشد العام.." ثم زارها المستشار عبد القادر عودة وشكرها على التبرع قائلاً: " يسعدنا إذا أصبحت زينب الغزالي الجبيلي من الإخوان المسلمين " فردت هي قائلة: " أرجو أن أكونها بإذن الله ", فقال: " قد كانت والحمد لله ..".
واستمرت العلاقة الطيبة والودية بين السيدة زينب وأعضاء مكتب الإرشاد وقيادات الإخوان المسلمين, حتى وقعت " حركة الجيش " ـ كما كانت تسمى في ذلك الوقت ـ أو الثورة في 23 من يوليو/ تموز عام 1952م بقيادة اللواء محمد نجيب, الذي كانت تربطه علاقات طيبة بالداعية زينب الغزالي وجمعية السيدات المسلمات, منذ كان رئيسا لنادي ضباط الجيش.
تقول الداعية ـ رحمها الله ـ في كتابها " أيام من حياتي ": " تعاطف الإخوان مع الانقلاب ـ وكذلك السيدات المسلمات ـ لفترة, أحسست بعدها أن الأمور لا تسير كما كنا نأمل, وأنها ليست الثورة المنتظرة, تتويجاً لجهود سبقت على أيدي العاملين لإنقاذ هذا البلد.. وأخذت أنقل رأيي لمن ألقاه من الإخوان, وحين عرضت مناصب وزارية على بعض الإخوان وضحت رأيي في مجلة السيدات المسلمات.." فما كان لأحد من الإخوان أن يقسم يمين الولاء لحكومة لا تحكم بما أنزل الله, ومن يفعل منهم ذلك يجب أن يتم فصله من الإخوان, وواجب الإخوان أن يحددوا موقفهم بعد أن اتضحت نيات الحكومة ", وزارني " الشهيد " عبد القادر عودة طالباً مني تأجيل الكتابة في هذا الموضوع, وأمسكت عن الكتابة عددين ثم عدت إلى الكتابة, إلى أن زارني عودة للمرة الثانية, حاملاً في هذه المرة أمراً من المرشد العام بعدم الكتابة في هذا الموضوع, وتذكرت بيعتي للبنا ـ رحمه الله ـ واعتقدت أن الولاء قائم بها للهضيبي, وامتثلت للأمر.. ومنذ ذلك الوقت والبيعة تحكم تصرفاتي, حتى ما يبدو منها خاصاً كرحلة مؤتمر السلام في فيينا ( النمسا ), التي لم أقم بها إلا بعد أن حصلت على إذن المرشد ( حسن الهضيبي ) ".
وعندما انفتحت زينب الغزالي على الواقع السياسي والاجتماعي والفكري والدعوي في مصر, في الأربعينيات من القرن العشرين, بدأت تشعر بأهمية وخطورة تأثير وسائل الإعلام, واقتنعت بضرورة أن يكون لها منبرها الإعلامي الخاص بها, الذي يعبر عن فكرها وآرائها ومواقفها, خصوصا بعدما جربت التعامل مع الصحف والمجلات, فأنشأت مجلة شهرية باسم " السيدات المسلمات " في عام 1951.