الفنان السوري سعد يكن
الفنان السوري سعد يكن:
أزمات غير مؤجلة وواقع غير مرئي منذ نصف قرن
فيصل خرتش
لا أحد يعرف متى (هندس) سعد يكن نفسه على هذا الشكل، فضاء مكاني ودخان دائم، كأنه جزء من ألوان اللوحة، دخان يرافقه في خلوته، داخل ذاته، بين وجوهه، أو على الكراسي في المقهى.
عرفته هكذا منذ منتصف السبعينات، عندما ولجت باب مقهى القصر في مدينة حلب، كان جزءاً من كراسيها، أحد أهم معالمها، يجلس في الزاوية الزجاجية، يشعل تبغ غليونه ويرتب بذهنه هؤلاء البشر، يجلسهم على المقاعد، ثم يزيحهم، يرتبهم مرة ثانية، يعريهم من ثيابهم، أو يرسمهم بدون أحذية، يجعلهم يرتدون عواطفهم، قد يأخذهم معه بعيداً ليعيد تكوينهم كما يراهم هو، وعندما ينتهي منهم، يتذكر المقهى، فيعود اليه سريعاً، ليكتشف الحقيقة وقد انسلخت عن جلدها، ها هي المقاعد وحيدة مسكونة بالصمت، يشعر بالحزن عليها، ربما، عامل المقهى (أبو الخير) رتبها أيضاً، لكن ترتيبه لا يعجب سعداً، فيعيد تنسيقها كما يرغب.. هكذا يجب ان يكون..
وعندما تدق الساعة معلنة منتصف الليل، يراقبها من خلف الزجاج، وعندما يطمئن على ترتيبه لها، يشعل التبغ في الغليون ثم يمضي مع حفيف الليل الى منتهاه.
قال لي: «إن أول كتاب تعرف عليه، هو القرآن الكريم، كان ذلك عند الكتّاب، وعندما تحولت الحروف إلى أشجار وسماء وأرض وخرفان وجبال وماء، راح يقرأ قصص الأطفال ذات الخيال الوحشي والمغامرات، ومنها إلى أقبية الكتب التي تبيع سير الملوك والعشاق الخائبين، وهذه هي التي فتحت لي نافذة الكون الواسع، ورحت أجوب الأرض مرات عديدة، أرافق أبطال القصص والحكايات ثم أركب الغيوم لأشاهد العالم من الأعالي، أستأجر الكتب وألتهمها بنهم عاشق، وكثيراً ما كنت أغفو على درج العمارة وأنا أقرأها واسترخي لسحرها، صرت مغرماً بهذا العالم الذي راحت تنسجه لي الحكايات، أتلذذ بالقراءة وأنا أعيد ترتيبها مرة ثانية في أحلامي، فأحولها الى حياة ملونة وبشر يتحركون ويركضون، وهم لا يشبعون من الضحك أو البكاء أو الأسى، وعندما اكتشفت أصابعي، رحت أفكر بها، أفكر كيف يمكن لي أن أحول العالم إلى مشاهد جديدة لا يعرفها أحد، أردت أن أقول لهم أنا سعد يكن، أرى العالم، بغير رؤيتكم له، لذلك سوف أخرجه من بين أصابعي وهو يغني على الجدران...
سألونه بألوان الطبيعة ذاتها، وستكونون أنتم الشهداء على أنفسكم».
وليد إخلاصي، تعرف عليه في أواخر الستينات، فقد لفت انتباهه شاب لم يتجاوز العشرين من عمره، كان هذا الشاب يتردد على مسرح الشعب وهو يصطحب أوراقه وأقلامه، ينزوي في ركن ويبدأ الرسم، أثناء البروفات المسرحية، يقول الكاتب وليد إخلاصي: «وفي احدى المرات اقتربت منه في فترة الاستراحة، عرف عن نفسه، بأنه سعد يكن، يهوى الرسم، وهو يدرب نفسه على رسم الشخصيات، وهذا المكان (المسرح) من أفضل الأمكنة لمتابعة حركة الأشخاص وتثبيت اللحظات التي يراها مع تداخل النور والظل والعتمة، كان يعمل بجد يحسد عليه وهو يتنقل من زاوية الى زاوية، ويرصد حركات الممثلين، لقد رأيت فيه روحاً فنية مبكرة لشاب يحلم بالفن، وفي السنوات التالية أدركت أنه يمتلك الإرادة القوية ليكون فناناً ولا شيء آخر».
ولكن متى اكتشف سعد يكن الفنان القابع في داخله؟ هل ولد هكذا فناناً بشاربيه المعقوفين الى الأعلى وغليونه وأناقته ونظافته وجلسته الاعتيادية في المقهى؟
ربما قبل ذلك بكثير، عندما كان يرافق الكهنة في معابد بابل، وهو يحمل آنية البخور أمامهم، أو عندما كان مع بوذا، يجلس تحت شجرة وهو يتخيل كيف يستطيع أن يرسم تاريخ البشرية.
صديقه الشاعر منذر المصري، اكتشفه في يفعانه، وكتب عنه «سعد يرسم منذ نصف قرن، لقد بدأ الرسم سنة 1964، لم يتجاوز عمره الرابعة عشر، كان خريج مركز الفنون التشكيلية في حلب، أي اختيار مبكر هذا؟ في محيط كمحيطنا، في جيل كجيلنا، أن يختار واحدنا الرسم مهنة له، قبل أن تعرض عليه بقية الخيارات، أي اختيار صعب وشاذ هذا؟ استطيع القول: الآن، وبعد كل هذه السنين، ان ذلك كان اختيار سعد الوحيد، ولا احتمال لاختيار آخر، وما صار اليه سعد الآن، وبعد كل هذا الزمن، لن يكون إلا رساماً، لا ينام ولا يستيقظ، لا يحب ولا يكره، لا يبيع ولا يشتري، لا يربح ولا يخسر، لا يصيب ولا يخطئ، لا يحارب ولا ينهزم، لا يحسد ولا يشفق عليه، إلا في كونه... رساماً، رساماً أحادياً، رساماً مطلقاً...يرسم سعد بخط قوي وقاسٍ، غير خاضع للمنظور أو للتشريح، خط خاص، كنا نتبارز كما يتبارز الفرسان بالسيوف، أن يكون للواحد منا خط قوي، هو ما يجعله يحوز اعتراف الآخرين واعجابهم، أما اللون فيأتي لاحقاً».
انتسب سعد في عام 1970 الى كلية الفنون الجميلة، ويحلو له أن يتذكر بأنه حصل على الترتيب الأول في مسابقة القبول، لكنه لم يتابع دراسته، يقول: إنه تركها بعد ذلك بسنتين، لأنه وجدها لا تعلمه شيئاً، ومنذ تلك الفترة، صار لسعد اسم وصار له موقع في واجهة الفن التشكيلي السوري، ربما لأنه، وما إن تمكن من أدواته، حتى استدار، ليس إلى اليمين أو إلى اليسار، بل الى الداخل، أي ليكون مأساوياً وفجائعياً، إذ أقام معرضين بالأسود والأبيض عامي 1970 ـ 1971، لأناس لؤي كيالي الحزانى والمهزومين والوحيدين كشخوص مروان قصاب باشي ذوي الرؤوس الكبيرة والأطراف الرفيعة الواهية، ولا حتى مسوخ فرنسيس بيكون التي خضعت لتيارات شعورية قوية تسحب وتلف وتمسح ملامحها وتقاطيعها غير الانسانية، كلها لم تكن تعادل واحداً في المائة من فجائعية الصور والأوضاع التي يرسم بها سعد أبطاله.
من هنا كان عليه ان يتابع ثقافته الفنية والمعرفية، يقول سعد: «بدأت فكرة القراءة بفكرة المعرفة وتوسيع الدائرة الذاتية، نتيجة الحاجة الداخلية لتوسيع أفقي الشخصي كإنسان، وتقديم عمل فني يوازي المعارف قدر الامكان، ومن هنا بدأت علاقتي الحقيقية مع الكتاب، ويعود هذا الى التعرف على موهبة الرسم عندي، اذ أصبحت شغلي الشاغل، وكان لا بد من التعرف على حياة الفنانين ودراسة سيرتهم الذاتية، والتعرف على أصول وقواعد الفن والمدارس الفنية وقواعد اللون والضوء، والتشكيل العربي والعالمي، وهناك الحوارات والصداقات والتعرف على الكتاب والشعراء الذين يلامسون موقفي الذاتي من الأشياء والعالم، كل ذلك كان مدخلاً أساسياً لمحبتي للقصة القصيرة والرواية والشعر. إن معرفتي الشخصية بالقاص زكريا تامر في بداية السبعينات دفعتني لقراءة جميع أعماله، والشيء ذاته مع علي الجندي ومحمد الماغوط وحنا مينة وسعيد حورانية وغيرهم.. وقد تطورت هذه الحالة الى البحث عن قراءات مختلفة، فكان هناك كتاب كثر أغنوا مسيرة حياتي الثقافية وأثروا في سلوكي الشخصي، مثل ألبير كامو، كونستان تان جيورجيو في روايته «الساعة الخامسة والعشرون» وهمنغواي وماركيز، وعندما توسعت دائرة معارفي الاجتماعية، تطور مفهوم القراءة عندي فأصبح مرتبطاً بالموقف من الإنسان والعالم وعلم النفس، وعندما دخلت في عزلة ذاتية، قرأت كتباً قريبة من حالتي، فقرأت المتصوفة، وتعمقت في دراسة ابن عربي والحلاج والسهروردي، وحولت اشراقاتهم الى أعمال تشكيلية، تمثل أفكارهم وتلخص حيواتهم في لوحة واحدة... وعندما قدمت معرضاً عن جلجامش عدت الى قراءة الأساطير، ثم أعدت توظيف الملحمة بإحساسي الداخلي، لأقدمها ضمن معطياتها الثقافية والفكرية برؤية ذاتية، تختلف عما هو موجود في الكتاب».
مع هذه البدايات راح الفنان ينتقل من المرحلة البسيطة في الشكل والإمكانات إلى المرحلة المعقدة، من حيث الدوافع والرغبات، لخوض تجربة متميزة عن الآخرين، وبدءاً من 1970 يدخل سعد يكن معركة الصراع واثبات الوجود على الصعيد الفني، فيشارك في المعارض ويعقد الندوات ويتعرض للنقد والهجوم، لكنه يظل مستمراً وثابتاً ومتابعاً رسالته الفنية، وعندما يتوقف قليلاً وينظر الى الوراء يجد خلفه أكثر من خمسة وثلاثين معرضاً، في سورية وفي مختلف دول العالم، لقد تركت أعماله أسئلة كثيرة واستفسارات لدى المشاهدين والدارسين والباحثين.
في لوحات سعد يكن سنجد قراء الصحف وقد أداروا ظهورهم الى الطاولة، والسياسيين يتحدثون معاً، بلغة واحدة وصوت واحد، لا يجدون لغة بينهم سوى الصراخ وإلغاء الآخر، المغني في وسط الحلبة يغني لنفسه والجوقة في واد آخر والمغنية تطلق آهاتها الحبيسة في وجه الليل والمكان، العشاق متنافرون والأصدقاء يكيدون لبعضهم، وكل يغني على ليلاه، عشاق فاشلون، أزواج تعساء، رجال محرومون من العاطفة الزوجية.
لا يسترخي سعد يكن إلى النجاحات التي يحققها، إنه في رحلة بحث مستمرة، لا تغريه متعة اللوحة الواحدة، فتراه في حالة توقد ذهني وهو يطلق خياله على آخره، ثم ينتقل من اللوحة ليؤسس موضوعاً متكاملاً: (المقاهي، الملهى، جلجامش، التحرر، رجل يسكن فوق الجدار). وهي مواضيع ذهنية مركبة مبنية على خلفية ثقافية عميقة، تجسد الصراع بين الخير والشر، بين الحلم والواقع، بين القوة والضعف، في حركة متضادة أحياناً، متنافرة حينا آخر، يقويها انشغال باللون والتماهي به الى درجة الذوبان، إنه أول من يكتب قصة النفس الإنسانية عبر تشكيل اللون والضوء، وهو يتلاعب بالألوان بحرية كبيرة ليؤدي دورها في اخراج الانفعالات والرغبات الدفينة، ويعطي للون الأحمر أهمية خاصة، وقد تكون لوحة «صبري مدلل»، شيخ الطرب في حلب، من أعقد اللوحات وأكثرها حداثة، نقف أمام اللوحة فنسمع صوت المغني الأجش وهو يغني القدود الحلبية.، ونشعر بالتأثر البادي على وجهه وهو يتمايل مع الآهات المنطلقة من حنجرته، الجوقة تعصف وراءه، والألوان تتمايل خدرة منتشية ورائحة المكان تندفع عبر الموسيقى، وخلفية اللوحة تتماوج بالأزرق الفاتح والداكن المطعم بالسواد، واللون الاحمر يستلقي بجرأته على الجميع يخترقه البياض وهو ينشد لحن الخلود.
سعد يكن نسيج وحيد يطير خارج السرب، ليشكل مدرسة فنية متكاملة، اختار الطريق الأصعب، ليبقى متفرداً يصعب اختراقه أو تقليده، وبحسه الجمالي النظيف راح يعيد صياغة الإنسان، كما يحب أن يراه، نظيفاً وجميلاً وبهياً، يسكنه فوق الجدار، يراقبنا في حركتنا اليومية، يقدمنا في صور متلاحقة، كما نحن، كما الحقيقة في تجلياتها الأسمى والأعمق.