فصل من سيرة ذاتية
فصل من سيرة ذاتية:
شعر :
د. كمال أحمد غنيمالينابيع الأولى
كنت طفلا صغيرا يسترق النظر والسمع إلى دروس أخي محمد الأكبر لمن سبقوني في السن، كانوا يُقصون الأطفال الصغار بعيدا حتى يهدأ المكان وتسهل عليهم عملية التعليم والتعلم، لكنني كنت أتسلل بهدوء تاركا اللعب لأجلس على مقربة تتيح لي المتابعة الدقيقة، ولم تتحول جلستي تلك إلى جلسة شرعية إلا بعد عدة اختبارات سريعة لهم، وكان أخي محمد يحثهم بقوله: "لو سألت كمال الصغير لأجاب، أليس كذلك يا كمال؟!"، وكان ما يحدث أن أجيب بسرعة ودقة عما يريد، وكنت أنتشي بنظرات الإكبار من أخي الكبير، ويزداد عشقي لولوج عالم الحروف والأرقام.
ولعل الصحيفة اليومية التي كلفني والدي بحملها للمنزل منذ بدايات المرحلة الابتدائية في أثناء عودتي من المدرسة قد فتحت عندي مجال التحدي للحروف والكلمات على مصراعيه، حيث تحولت مهمتي التقليدية من مجرد نقل الصحيفة إلى كوني أول الساكنين بين كلماتها وصورها، فباتت وجبتي اليومية الرائعة بعد كل يوم دراسي حافل.
ولم أستطع أن أمنع رغبة جارفة في تعلم القرآن وتلاوته من أن تجعلني على غير عادة الأطفال صاحب المبادرة إلى دروس (أبو إدريس) رحمه الله، فكنت أعود يوميا إلى مسجد قرب مدرستنا البعيدة نسبيا لأتعلم القرآن وأخوض تجربة تشبه تجربة (الكتاتيب) لوحدي دون تكليف من أحد في حفظ القرآن وتلاوته، وأنا تسحرني مشاهدة والدي يوميا في الصباح الباكر عندما أفتح عيني وهو يتلو كتاب الله، كنت أتمنى أن أصبح مثله، فأمتلك القدرة على القراءة لحروف نورانية كم أسرت قلبي الصغير.
وكنت أتلهف على استراق النظر إلى كتب كبيرة وكثيرة يقرأها أخي محمد، وقد لاحظ هو ذلك، فكان يشجعني، ويمنحني بعض الكتب والمجلات المناسبة، واتفق معي وإخوتي أن نكّون صندوق توفير مرصود لشراء الكتب الجديدة، دون إلزام ، وذلك بأن يضع كل واحد منا فيه نصف مصروفه أو ما شاء منه، وكنت أشعر أنني أصنع أمرا عظيما وأنا أنتصر على رغباتي فأدفع إلى الصندوق دون أن يراني كل مصروفي في بعض الأحيان.
وتطورت الرغبة في القراءة من رغبة إلى عشق جارف، دفعني بعد ذلك إلى دفع الكثير من راتب أي أعمل كنت أقوم به في الإجازة، حتى تطور بي الأمر وتجرأت على شراء الكتب الكبيرة نسبيا من صاحب المكتبة التي آخذ منها الصحيفة يوميا لوالدي دون أن أخبره بذلك، وكنت أخشى أن يحاسبني على ذلك حسابا عسيرا، عندما يكتشف الأمر في نهاية الشهر أثناء دفعه لاشتراك الصحيفة الشهري، لكنه وأنا أدرك أنه كان يعرف ما أقوم به لم يمنعني من ذلك أبدا، بل كان –أطال الله في عمره ومنحه الصحة والعافية- يتغاضى عن ذلك مهما بلغ حساب تلك الكتب والمجلات، ولكنه كان يحذرني من الانغماس في الكتب خشية إهمال الدراسة، ولكنني كنت أنجح بتفوق مما ساعدني في الحصول على تسامحه وسروره بكنز المعلومات الذي بدأت تظهر معالمه في كلماتي وتصرفاتي، ولم يخل الأمر من التعليق المرح على الكتب السوداء الكبيرة(أمهات الكتب) التي بدأت تغزو الدار، وظل تحذيره صمام الأمان للتوازن بين النهم الثقافي والهم الدراسي، ومحاولة إيجاد التكامل بينهما.
وفي الصف الرابع الابتدائي كنت عندما قرأت مسرحيات أخي محمد الأولى وقصصه القصيرة، لا أدري هل كان يثق بقدراتي أم كان يبلور حبا جديدا في قلبي يتمثل في هم الكتابة والتعبير الفني عن الذات؟! الذي أدركه جيدا أن محمد كان يحثني على القراءة المتمعنة لما يكتب، وكان يمنحني ثقة عالية في النقد إن صح أن أسمي ذلك نقدا، وأذكر من ذلك أني اكتشفت في قصة قصيرة له كلامه عن هدير البحر الذي يسمعه الناس في الجهة الشرقية من المخيم، فقلت له على استحياء: "لكن البحر غرب المخيم!"، فقال لي مبتسما: "البحر غرب المخيم صحيح، لكن هديره الدال على الغضب صار يسمعه الناس شرق المخيم على الرغم من البعد الكبير بينهم وبينه"، وأدركت أن الكلام يحمل دلالات رمزية، وأدرك الآن أن محمد كان أستاذي الأول، وهو أستاذ من الطراز الأول لأنه منحني أكثر من أمر: منحني القدرة الأولى على فك رموز الكلمات والأرقام، وتميز عن غيره بمنحي العشق الهائل لهذا الأمر، كما منحني أنموذجا دافعا للكتابة، صار وصرت معه أتقن ركوب خيل الكلمات في فترة مبكرة، كما أنه منحني الثقة في النقد والتحليل، وكنت آنذاك أتعلم وأنا أحلل، كانت تجربة رائعة حظيت بها، وكان محمد –حفظه الله- أسطورتي الأولى، التي حظيت بها.
وحرص محمد أن أسير على خطاه، فتعلمت في ذات المدرسة، وتعرفت فيها على معلم آخر تميز بقدرته على تفجير الرغبات العلمية عند تلاميذه، كان قد كوّن مكتبة صغيرة في داخل الصفين الخامس والسادس الابتدائيين، وهناك كانت رحلة عجيبة أخرى مع المنفلوطي والعقاد ومجموعة من الكتب الرائدة، كما كانت رحلة أخرى مع الكتابة والتعبير، ومنح الثقة بإمكانات النقد والكتابة والتحليل، وعشق القيم السامية، لا زلت أذكر دموع معلمي (أبو كمال) عندما يذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم، لقد كان يدعو بحرقة أن يجمعه الله به، هذا ما أتذكره الآن وأنا أظن أنه قد نال ما أراد بوفاته رحمه الله في الديار المقدسة أثناء الحج قبل عامين أو ثلاثة.
من المعتقل أحدثكم !
من هناك جئت إليكم...
من برزخ مفعم بالعذاب والنعيم، يحمل في حناياه متناقضات المرحلة التي نعيش.
السجن له وجهان...
أما الوجه الأول فلا يمكن أن نغفل قبحه وبشاعته مهما نظرنا إلى الوجه الثاني...
المشهد الأول مفعم بالزنازين والتعذيب والمحاكم وفترات الانتظار القاسية الطويلة، والقضبان والأسلاك الشائكة، وغابة من البنادق والجنود، ورحلة من الإهانات الطويلة.. صف من الرجال الرجال يخضعون لثلاث وجبات يومية من (الإسفراه)، وما أدراك ما (الإسفراه)؟! إنها عملية إحصاء المساجين التي تتكرر ثلاث مرات يوميا، يُنادى بها الرجال بأرقامهم... (51099) كان رقمي الذي أذكره الآن على الرغم من أنني لم أحرص يوما على حفظه أو تسجيله!
يحيطونك بغابة بنادق، وبندقية مسيّل دموع طويلة عريضة تكفي لإدماع مدينة بأسرها... لا يفصلنا عنها إلا سلك شائك ملتف، يمنعك من الوصول إليهم، ويسمح للرصاص والقنابل بالدخول دون استئذان ودون ذرّة ممانعة، يستدير الشاب عند سماع رقمه، وتمر أقسى لحظات الاعتقال بطيئة قاسية، تحت مبررات الواقعية والرضوخ لها...
ومازلت أذكر يوما من أيام التمرد، كان اليهود قد أمروا بتغيير شاويش المردوان، وقررنا الرفض، وعند العدد المسائي تمردنا على أمر التغيير على الرغم من جاهزيتنا للعدد. وكان الأمر بعد انتهاء العدد: "ابقوا جالسين!"، ومعنى ذلك انتهاك المردوان الكبير بخيامه العشرة ومعتقليه الثلاثمائة على الأقل، والسطو على أوراقهم بعد إخراجهم إلى محشر يقع بين أسلاك مردوانين كبيرين...
"الله أكبر" كانت شارة البدء، فهرب الضابط من مدخل المردوان وجنوده معه، أغلقوا الباب، وأمطرونا بالغاز المسيّل للدموع والعيارات المطاطية...، هو المسيّل للدموع لمن لا يعرفه: سحابة زرقاء، قد يسهل التخلص من سطوتها في مكان واسع، أما في مساحة المردوان الضيقة فلا مهرب إلا إلى الغاز في كل زاوية، فالسلك الشائك يقف بالمرصاد...
في حادثة مشابهة فرضوا منع التجول على المساجين كما فرضوه علينا، تمرد الشباب، فلم يرحموا أحدا على الرغم من أن المعتقلين محبوسون عنهم، لا يشكلون خطرا عليهم، لم يكتفوا بالغاز ولا العيارات المطاطية قتلوا شهيدين وأصابوا العشرات.
وماذا يمتلك المعتقلون من أدوات مقاومة لهذا الصلف الصهيوني المتعجرف... إنهم لا يمتلكون إلا الامتناع عن الحياة إن أمكنهم ذلك، مبتدئين بالامتناع عن الطعام في ملحمة بطولية هي (حرب الأمعاء الخاوية)... ففي بطولة منقطعة النظير يركل الرجال أواني الطعام ويتركونها على المدخل، مكتفين بالصوم والانتظار. وقد كان لي شرف الالتحاق بصفوف إحدى هذه المعارك عام 1990...
تمر الساعات بطيئة، والأجسام الشامخة الوردية تذبل من الجوع والعطش والإرهاق، كنا نفضل الصوم، سحورٌ من حبات ملح وجرعات ماء، وفطورٌ على حبات ملح وجرعات ماء، ودوار يصيب المرء لو فكر في القيام، وجفاف في الحلق والأمعاء... وإرهاق بدني شامل، ومكابرة تنتشي بوعود تحسين الأحوال، ولعل الأصعب في تلك الحرب هي لحظة العودة بعد انتظار جزئي لطقوس الشراب والطعام. تجرحك اللقمة الطرية وهي تسلك طريقا نسيته الأمعاء، حشرجة وآلام يخفف منها انتصارك الجزئي بقدر ما تخفف عنها مكابرتك وإيمانك وتسليمك لقضاء الله.
لا أريد أن أطيل الوقوف هناك في صحراء الشمس المحرقة وأنتم معي، إنها مشاهد مؤلمة لا يصح أن ننساها، ولكني أريد أن أغيّر أبعاد عدسة المنظار الذي ننظر فيه، لنرى الوجه الآخر لبرزخ السجون والمعتقلات، إننا نرى من خلاله المحنة تتحول إلى منحة في لغة تفهمها الروح السامية، التي تقول: مارسوا ما شئتم من طقوس العذاب على الجسد، لكنكم لن تستطيعوا قهر الروح... حيث يتحول السجن إلى حياة أسرية فريدة من نوعها تمتهن الفرح المغمس بالعناد، وإذ تتحول ساعاتنا اليومية خارج إطار (الإسفراه) إلى ما يشبه الدولة المستقلة، ببرامجها العلمية والإعلامية والوزارية المختلفة، يسكن التنظيم مفرداتها الصغيرة من تنسيق دور الحمام والمياه الساخنة الشحيحة إلى تنسيق القضايا الكبيرة في داخل السجن وخارجه. والعلم قوام الساعات المنظّمة: محاضرات وأمسيات ترفيهية...، قرآن وسياسة وتاريخ وعلوم وأدب وأمن، إنها المشكِّلات الجديدة التي ينفق الدعاة عليها الكثير في الحياة العادية عبر ما يُسمى بالمخيمات الصيفية والدورات التدريبية واللقاءات الدورية...
هنا تتبلور الأشياء أكثر، ويصنع "نوح" سفينته التي يَعِدُ الناس بالنجاة فيها كما صوّرت ذلك في إحدى قصائدي، وسفينة نوح تعني الإعداد الإيماني الشامل وسط سخرية قوم نوح أو جماعة شارون!
هناك تنظم المهرجانات والمؤتمرات والندوات ويعرف الفن الإسلامي ميدانا خصبا للعطاء نشيدا ومسرحا وقصيدا...
هناك أصدرنا مجلات وصحف تدور على المعتقلين في المردوانات؛ بل الأقسام. حيث تتكفل هيئة البريد بإرسالها ضمن طريقة أطفال الحجارة، بقذف الرسائل مع أحجار عجينية ثقيلة وغير مؤذية...,
أقسم أن أجمل الأعياد التي شهدتها في حياتي كانت في المعتقل! روح المكابرة، والترابط الأخوي الحميم، والمهرجان الفني المنافس لكل المهرجانات خارج المعتقل، تُعد له لجنة فنية مختصة قبل شهر أو شهرين، فيبدأ باستعراض داخل الخيمة المرصعة آنذاك بالبطاطين والحرامات الملونة، والمحولة من فراش وسرر خشبية ممددة إلى مقاعد فخمة مزينة بالأغطية الملونة...
وفي هذه الجنة المحاطة بغابة البنادق والدبابات حفظ العشرات كتاب الله، وتكونت جامعة يوسف عليه السلام، وتخرج الرجال...
وهناك في مساحة الألم الضيقة عرفت الانطلاق... كانت معظم قصائدي التي كتبتها تحلق كالفراشات في عالم ربيعي جميل بعيد عن صحراء الألم وجفاف الحلق ونشاف الريق...
خطوات على سطح الشمس
لماذا يستغرب الإنسان اللحظة الأولى لعلاقة تمتد بعيداً في الذاكرة، مع أن معظم المعلومات والمشاعر لا تحلُّ دفعة واحدة في ذهن الإنسان ووجدانه؟
عرفت جامعة النجاح الوطنية في طفولتي منذ ميلادها عام 1978، فقد كنت طفلاً عاشقاً للقراءة والمطالعة، وتحسس الواقع المحيط، وكان ميلاد الجامعات الوطنية حدثاً هاماً من أحداث نهاية عقد السبعينات، الذي احتفلت به الصحف والمجلات، والذي انسجم مع التطورات النامية في وجدان الشعب الفلسطيني، فقد كان هذا المولد استجابة حقيقية للحس الوطني المرهف، وردة فعل حيوية، تستطيع على الأقل أن تناور المخرز، وأن تناطح الجدار السميك الصلب، الذي تمنى البعض أن يكون غطاءً كبيراً لقبر عظيم!!
وما فتئ أستاذي الأول وأخي الأكبر (محمد) إلا وارتقى إلى هذا المنبر الجميل، بكل ما يحمله محمد من أستاذية وإبداع وتفوق، يتربع بها على عقلي وقلبي، ويشكل من خلالها نسيج شخصيتي ومستقبلي.
وكان أن زرت الجامعة، التي راحت تتشكل في وجداني حاضنة للأدب والثقافة والفن، حيث شهدت ساحاتها وقاعاتها في مطلع الثمانينيات العديد من العروض المسرحية والفنية، التي شارك فيها محمد، ويذكّرني ذلك الآن ببدايات المسرح الفلسطيني ما قبل عام 1948، حيث شهد معهد النجاح العديد من المسرحيات التي أعدها محمد عزة دروزه في غيرة وطنية جميلة، جعلته ينهل من معين تراثنا ما يصوغه درامياً لأبناء معهد النجاح وللشعب الفلسطيني، ليثبت للجميع أننا رواد حضارة قوية قبل عقود من بداية الاحتلال، وفي ذلك خير دليل على أسطورية النجاح الذي تحقق رغم قيود الاحتلال، متمثلاً في انبجاس جامعة النجاح الوطنية وزميلاتها في ظروف أقرب إلى المستحيل.
وارتبطـت النجاح في تلـك الفترة بالمـد الثوريّ الصاعـد فـي الأراضي المحتلة، وتوازي ذلـك مـع ثوريـة العلـم المنبجس من أعماق الصخور، وكانت الإغلاقات والحصارات، وراحت حينها تتماوج أصداء ذلك في مجتمع متلهف على فلذات الأكباد وعلى القلب الكبير.
وسرعان ما جاءت انتفاضة عام 1987، وكانت النجاح حينذاك مثل شتلة زعترٍ خضراء قذفت في أتون الغليان، ومرت شهور عجاف، صدئت فيها مفاتيح البوابات الكبيرة، التي طالما فتحت مصراعيها لأبنائها، وفي محاولة تعشق الحياة والتواصل، فتحت الجامعة نوافذها للتعليم الشعبي، انتقلت قاعات المحاضرات إلى البيوت والمساجد والمؤسسات!
وانزاحت الغيمة السوداء الثقيلة شيئاً فشيئاً، وعادت النجاح أكثر قوة وتواصلاً ، وهناك جاءت لحظة اللقاء الحاسم معها فـي نهاية عـام 1992، حيث التحقت بها طالباً لإكمال دراستي العليا في اللغة العربية وآدابها، وكانت الرائد الأول في هذا المجال، وكأننا كنا معاً على ميعاد، نضجت معها على صفيح الانتفاضة ...، أرسلت أوراقي عبر الأسلاك الشائكة، ولما طلبت للمقابلة، أسقط في يدي، فمعبر بيت حانون أو كما شاءوا تسميته بإيرز مفرزة، تحوطها البنادق والأشواك، وقد ضاعت المعالم بين الأسلاك فلا تدري أي الجانبين جنة، وأيهما النار؟!
ولعل أسوأ الأحلام والكوابيس هي التي تتحقق على أرض الواقع! فقد تمسمر شعر رأسي عندما قرأت في طفولتي عن مصيـر رجـال غسان كنفـاني، الذين انصهروا في الشمس، وبقيت سذاجة الطفولة تدفعني تجاه ذلك بين نهري الحقيقة والخيال، ولم أتصور مطلقاً على الرغم من مرارة الواقع المحيط أن ما حدث مع أولئك الرجال، قد يحدث يومياً مع أبناء الشعب الفلسطيني، وهذا ما حدث معي وأنا أتسلل من تحت الأسلاك الشائكة على ميمنة مفرزة (إيرز)، من ثغرة فتحها العمال، وتدفقوا وراء الخبز ولقمة الحياة أو كما سموها!
وكانت المسابقة، ودخلت لجنة المقابلة، لأتعرف إلى فرسان اللغة والأدب والنقد هناك، وحينئذ شعرت بالاطمئنان، وعرفت أن النجاح حصن حقيقي لمسيرة علم جادة ودءوبة، لم يتثلم سيفها مع كثرة الطعان، ولا فسدت ذخيرتها مع طول الحصار، واستقر بي المقام -بمفهوم الاستقرار الفلسطيني- في جبال نابلس، ومنذ اللحظة الأولى، ومن خلال مفرزة جديدة ربضت على مقربة من الجامعة، أدركت أن القوم ما وهنوا في محاصرتها، والتضييق على أبنائها، وعرفت ما يعرفه معظم سكان الأراضي المحتلة الآن، عرفت طريق رأس الرجاء الصالح الذي تدور فيه ألف ميل من أجل الوصول إلى جامعتك، التي تبعد عنك خطوة واحدة، فهويتنا الحمراء كانت تستثير الجنود، وتستفز فيهم شهوة العدوان!
وعرفت نابلس في مرحلة النضج منقوشة في مسامات جامعة النجاح، وعرفت جامعة النجاح هواء تتنفسه كل زاوية وزقاق من شوارع البلدة القديمة، فبينهما مزيج له نكهة خاصة، ومذاق فلسطيني مميز، تتمايز منه كل بقعة من بقاع الأرض المقدسة، تشعر وأنت فيها برهبة التاريخ، وعمق الجذور.
ولم تكن الرحلة مع جامعة النجاح سهلة، بل كانت بالفعل رحلة جبلية صعبة، لأنها بنت الحاضر واللحظة، الأميرة والأسيرة، والوردة الشوكية الأثيرة، وخصوصاً إذا كان رأساً مطلوباً ورأسها الشامخ المعطاء محاصراً، يقف الجنود على مداخلها في إحدى المرات ويردون عنها كل زائر، ويأبى الزوار عنها ازورارا، وأقف مع زميل غريب، بحقائبي المنتفخة بمراجع ضخمة ولسان عربي من الحجم الكبير، ويستدير جبلها بنا، يحمينا عن أعينهم، ونقف هناك وقد أسقط في أيدينا، ويقترح زميلي أن نتسلق الجبل، فتسقط عيوني المتعبة على حقائبي الثقيلة، وتدور في الأفق القريب، لأجدنا في مواجهة بؤرة استيطانية، تقرأ أفكارنا من جبل بعيد، قبل أن تقـرأ حركاتنـا المنزوية عن أعين الجنود، ويشجعني زميلي، وفي مشهد درامي مفعم بالإثارة نحمل نصف الحقائب عدة أمتار، لنعود بعد قليل إلى باقي الحقائب، فنحملها من جديد، ونتجاوز الحقائب الأولى، في رحلة جبلية مفعمة بروائح الميرمية والزعتر ، والشمس الخجول تسترق النظر من بين أغصان الشجر الجبلي، وكأنها تراقب الطريق لنا، ويحبس الزمان أنفاسه، حتى نرتقي إلى القمة، لأفاجأ هناك بقرية وادعة، وتصطدم مسامعنا بمرح طفولي، يتصاعد من أفواه الصغار وهم يلعبون، ذلك المرح الذي تحول إلى مفاجأة بمشهدنا الغريب، وسرعان ما طفت على السطح في قلوبهم الصغيرة نخوة نابلس الأصيلة، فتدافعوا نحونا يشاركوننا في حمل الحقائب، لتحضننا سيارة قديمة، يجأر صوتها، وهي تمر على الجهة الثانية من مفرزة الجنود، وكأنها تمد لسانها وتضحك!
وكلُّ العرائس تطلب في صمت مهراً! ودفعنا المهر للنجاح، ونحن نأسى لها، فهي تدفع
مثلما ندفع، وتدمع عيوننا مرطبة حرارة الألم، وعيونها جفت مرارة ولا تدمع، أبيةَ
كانت، تعلّمنا الإباء، حيث يتحول أبناؤها من طلبة غزة إلى مطاردين غيـر مرغوبين،
ويسألني الكابتن في غيظ: لماذا جئت إلى النجاح؟ وتجيبه عيوني في صمت: لأننا كنا على
ميعاد، وأنتقل من بيتٍ إلى بيت، وهي تحبس أنفاسها ...، تضيق الدنيا بما رحبت،
وقلبها يتسع ...، وعندما يقترب الرحيل، ينقلب الأمر، لتشح بنا وتتمنى لو بقينا،
وترتجف شفتاها، وهي تلاحظنا من بعيد، نحترق في شمس غسان ويلفظنا أكثر من خزانٍ
وخزان.
ثم تسكت الأشياء من حولنا، وتنطمس معالم الثغرة الخطيرة، في جدار بيت حانون، وتتكلم
أجهزة التحسس والفحص على المدخل الرئيس، وحيل بيننا وبين النجاح بموج كالجبال، ولما
يكتمل المشوار، وتقابلني الصحفية الإسرائيلية عميرة هس من صحيفة هآرتس، وأقول لها
وأنا أشير إلى قلبي:"سأعود إلى النجاح، ولو امتلأ صدري بالرصاص"، وتكتب عن رسالة
ماجستير أولى بالانتظار، وفق تقديرات المسئولين الأمنيين، لكن الجدار صلب، والحاجز
عالٍ وكبير، والظروف تزداد سوءاً، وأخاطب قلب جامعتي وعاطفتها وعقلها، من أجل تجاوز
هذه الحواجز البغيضة، وتتشكل لجنة من أبناء الوطن، وأناقش على البعد القريب، والقرب
البعيد، وتتسامى الجامعة على قيود المحتل، التي تحاصرني وتحاصرها، وتضرب حولنا أكثر
من جدار، وتنتصر النجاح، وينتصر القلم على السيف.
لست أدري كيف يتنامى الحب، ولا كيف يتضاعف، خصوصاً إذا كان كبيراً من البداية وضخما بلا نهاية، لكنني شعرت فعليا بتضخم حب الجامعة فلي قلبي، والامتنان الكبير للذين انسجموا مع بداياتها، ومع مسيرتها، المتهادية في بحر لجي، فكانوا جزءاً ولا يتجزأ من تاريخها الوضيء!