عالم الاجتماع الفيلسوف ابن خلدون

clip_image001_2a95f.jpg

ابن خلدون ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خالد (خلدون) الحضرمي) المولود في(غرة رمضان 732هـ/27 أيار 1332م) في الدار الكائنة بنهج تربة الباي رقم 34 وتوفي في القاهرة في (26 رمضان 808هـ/19 آذار 1406م).

ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع ومؤرخ عربي مسلم من إفريقية في عهد الحفصيين و هي تونس حاليا ترك تراثا مازال تأثيره ممتدا حتى اليوم . أسرة ابن خلدون أسرة علم وأدب ، فقد حفظ القرآن الكريم في طفولته ، وكان أبوه هو معلمه الأول, شغل أجداده في الأندلس وتونس مناصب سياسية ودينية مهمة وكانوا أهل جاه ونفوذ، نزح أهله من الأندلس في أواسط القرن السابع الهجري، وتوجهوا إلى تونس حاضرة العلوم آنذاك, وكان قدوم عائلته إلى تونس خلال حكم دولة الحفصيين. ينتهى نسبه بالصحابى وائل بن حجر الحضرمي الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا له:

"اللهم بارك في وائل بن حجر وبارك في ولده وولد ولده إلى يوم القيامة"

قضى أغلب مراحل حياته في تونس والمغرب الأقصى وكتب الجزء الأول من المقدمة بقلعة أولاد سلامة بالجزائر, وعمل بالتدريس ، في جامع الزيتونة بتونس وفي المغرب بجامع القرويين في فاس الذي أسسته الأختان الفهري القيروانيتان وبعدها في الجامع الأزهر بالقاهرة ، مصر والمدرسة الظاهرية وغيرهم. وفي آخر حياته تولى القضاء المالكي بمصر بوصفه فقيها متميزا خاصة أنه سليل المدرسة الزيتونية العريقة وكان في طفولته قد درس بمسجد القبة الموجود قرب منزله سالف الذكر المسمى "سيد القبّة". ومن بين أساتذته الفقيه الزيتوني الإمام ابن عرفة حيث درس بجامع الزيتونة المعمور ومنارة العلوم بالعالم الإسلامي آنذاك.

يعتبر ابن خلدون أحد العلماء الذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية, فهو مؤسس علم الاجتماع وأول من وضعه على أسسه الحديثة, وقد توصل إلى نظريات باهرة في هذا العلم حول قوانين العمران ونظرية العصبية, وبناء الدولة و أطوار عمارها وسقوطها. وقد سبقت آراؤه ونظرياته ما توصل إليه لاحقاً بعدة قرون عدد من مشاهير العلماء كالعالم الفرنسي أوجست كونت.

عدّدَ المؤرخون لابن خلدون عدداً من المصنفات في التاريخ والحساب والمنطق غير أن من أشهر كتبه كتاب بعنوان (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)، وهو يقع في سبعة مجلدات وأولها المقدمة وهي المشهورة أيضاً بمقدمة ابن خلدون, وتشغل من هذا الكتاب ثلثه, وهي عبارة عن مدخل موسع لهذا الكتاب وفيها يتحدث ابن خلدون ويؤصل لآرائه في الجغرافيا والعمران والفلك وأحوال البشر وطبائعهم والمؤثرات التي تميز بعضهم عن الآخر .

اعتزل ابن خلدون الحياة بعد تجارب مليئة بالصراعات والحزن على وفاة أبويه وكثير من شيوخه إثر وباء الطاعون الذي انتشر في جميع أنحاء العالم سنة (749هـ/ 1348م) وتفرغ لأربعة سنوات في البحث والتنقيب في العلوم الإنسانية معتزلا الناس في سنينه الأخيرة، ليكتب سفره الخالد أو ما عرف بمقدمة أبن خلدون ومؤسساً لعلم الاجتماع بناء على الاستنتاج والتحليل في قصص التاريخ وحياة الإنسان. واستطاع بتلك التجربة القاسية أن يمتلك صرامة موضوعية في البحث والتفكير.

قال أرنولد توينبي: (ابتكر ابن خلدون وصاغ فلسفة للتاريخ هي بدون شك أعظم ما توصل إليه الفكر البشري في مختلف العصور والأمم).

وقال جورج مارسيز: (إن مؤلف ابن خلدون هو أحد أهم المؤلفات التي أنجزها الفكر الإنساني).

وقال ايف لاكوست: (إن مؤلف ابن خلدون يمثل ظهور التاريخ كعلم، وهو أروع عنصر فيما يمكن أن يسمى بالمعجزة العربية).

 (إنك تنبئنا بأن ابن خلدون في القرن الرابع عشر كان أول من اكتشف دور العوامل الاقتصادية وعلاقات الإنتاج. إن هذا النبأ قد أحدث وقعاً مثيراً و قد اهتم به صديق الطرفين (المقصود به لينين) اهتماماً خاصاً). من رسالة بعث بها مكسيم غوركي إلى المفكر الروسي انوتشين بتاريخ 21 أيلول عام 1912م.

وقال عنه لينين: (ترى أليس في الشرق آخرون من أمثال هذا الفيلسوف ).

وقال روجيه غارودي: (ففيما يتعلق بدراسة هيكل المجتمعات و تطورها فإن أكثر الوجوه يمثل تقدما يتمثل في شخص ابن خلدون العالم و الفنان و رجل الحرب و الفقيه و الفيلسوف الذي يضارع عمالقة النهضة عندنا بعبقريته العالمية منذ القرن الرابع عشر).

هذا غيض من فيض مما قاله بعض أقطاب الفكر الغربيين ناهيك عن المفكرين العرب والمسلمين وفيما يلي سنحاول حصر بعض المواضيع التي تناولها ابن خلدون بالبحث دون أن ندعي أننا سنوفيها حقها وكيف نستطيع ذلك وفي كل يوم نكتشف الجديد حول هذا العالم الجليل.

لقد تجمعت في شخصية ابن خلدون العناصر الأساسية النظرية و العملية التي تجعل منه مؤرخا حقيقيا- رغم أنه لم يول في بداية حياته الثقافية عناية خاصة بمادة التاريخ-ذلك أنه لم يراقب الأحداث و الوقائع عن بعد كبقية المؤرخين ، بل ساهم إلى حد بعيد و من موقع المسؤولية في صنع تلك الأحداث و الوقائع خلال مدة طويلة من حياته العملية تجاوزت 50 عاما، و ضمن بوتقة جغرافية امتدت من الأندلس وحتى بلاد الشام. فقد استطاع، ولأول مرة، (إذا استثنينا بعض المحاولات البسيطة هنا وهناك) أن يوضح أن الوقائع التاريخية لا تحدث بمحض الصدفة أو بسبب قوى خارجية مجهولة، بل هي نتيجة عوامل كامنة داخل المجتمعات الإنسانية، لذلك انطلق في دراسته للأحداث التاريخية من الحركة الباطنية الجوهرية للتاريخ. فعلم التاريخ، وإن كان (في ظاهره لا يزيد عن أخبار الأيام والدول) إنما هو (في باطنه نظر وتحقيق وتعليل لكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، لذلك فهو أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق(المقدمة).

فهو بذلك قد اتبع منهجا في دراسة التاريخ يجعل كل أحداثه ملازمة (للعمران البشري)، وتسير وفق قانون ثابت. يقول: (فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران ونميز ما يلحقه لذاته و بمقتضى طبعه وما يكون عارضا لا يعتد به  وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك، كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الإخبار، والصدق من الكذب بوجه برهان لا مدخل للشك فيه، وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه، وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق و الصواب فيما ينقلونه)). (المقدمة) وهكذا فهو وإن لم يكتشف مادة التاريخ فانه جعلها علما و وضع لها فلسفة ومنهجا علميا نقديا نقلاها من عالم الوصف السطحي و لسرد غير المعلل إلى عالم التحليل العقلاني والأحداث المعللة بأسباب عامة منطقية ضمن ما يطلق عليه الآن الـ(الحتمية التاريخية)، وذلك ليس ضمن مجتمعه فحسب، بل في كافة المجتمعات الإنسانية و في كل العصور، وهذا ما جعل منه أيضا وبحق أول من اقتحم ميدان ما يسمى بتاريخ الحضارات أو التاريخ المقارن. (إني أدخل الأسباب العامة في دراسة الوقائع الجزئية، وعندئذ أفهم تاريخ الجنس البشري في إطار شامل ...إني أبحث عن الأسباب والأصول للحوادث السياسية). كذلك قوله (داخلاً من باب الأسباب على العموم على الأخبار الخصوص فاستوعب أخبار الخليقة استيعاباً ...وأعطي الحوادث علة أسباباً). (المقدمة).

أصبح من المسلم به تقريبا في مشارق الأرض ومغاربها، أن ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع أو علم (العمران البشري) كما يسميه. و قد تفطن هو نفسه لهذه الحقيقة عندما قال في مقدمته التي خصصها في الواقع لهذا العلم الجديد: (... و هذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا...)، وهو علم مستقل بنفسه موضوعه (...العمران البشري و الاجتماع الإنساني)، كما أنه علم يهدف إلى (بيان ما يلحقه من العوارض و الأحوال لذاته واحدة بعد أخرى، و هذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أم عقليا ) (واعلم) أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة، أعثر عليه البحث و أدى إليه الغوص... و كأنه علم مستنبط النشأة، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة) (المقدمة). ويبدو واضحاً أن اكتشاف ابن خلدون لهذا العلم قاده إليه منهجه التاريخي العلمي الذي ينطلق من أن الظواهر الاجتماعية تخضع لقوانين ثابتة وأنها ترتبط ببعضها ارتباط العلة بالمعلول، فكل ظاهرة لها سبب وهي في ذات الوقت سبب للظاهرة التي تليها. لذلك كان مفهوم العمران البشري عنده يشمل كل الظواهر سواء كانت سكانية (ديمغرافية)، اجتماعية، سياسية، اقتصادية أو ثقافية. فهو يقول في ذلك: (فهو خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة هذا العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، و ما ينشأ عن الكسب و العلوم والصنائع وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال. (المقدمة)، وهنا يلامس أيضاً نظرية النشوء والارتقاء لدى داروين وإن لم يغص فيها. ثم أخذ في تفصيل كل تلك الظواهر مبيناً أسبابها و نتائجها، مبتدئا بإيضاح أن الإنسان لا يستطيع العيش بمعزل عن أبناء جنسه حيث يقول: (إن الاجتماع الإنساني ضروري) فـ( الإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية ... و هو معنى العمران). ثم تعرض للعمران البشري على العموم مبينا أثر البيئة في الكائنات البشرية وهو ما يدخل حاليا في علم الانثولوجيا والانثروبولوجيا. ثم بعد ذلك تطرق لأنواع العمران البشري تبعا لنمط حياة البشر وأساليبهم الانتاجية: (إن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم في المعاش) مبتدئا بالعمران البدوي باعتباره أسلوب الإنتاج الأولي الذي لا يرمي إلى أكثر من تحقيق ما هو ضروري للحياة (...إن أهل البدو المنتحلون للمعاش الطبيعي ... وإنهم مقتصرون على الضروري من الأقوات و الملابس و المساكن و سائر الأحوال و العوائد)) (المقدمة). ثم يخصص الفصل الثالث من المقدمة للدول والملك والخلافة ومراتبها وأسباب وكيفية نشوئها وسقوطها، مؤكدا أن الدعامة الأساسية للحكم تكمن في العصبية. والعصبية عنده أصبحت مقولة اجتماعية احتلت مكانة بارزة في مقدمته حتى اعتبرها العديد من المؤرخين مقولة خلدونية بحتة، وهم محقون في ذلك لأن ابن خلدون اهتم بها اهتماماً بالغاً إلى درجة أنه ربط كل الأحداث الهامة والتغييرات الجذرية التي تطرأ على (العمران البدوي) أو (العمران الحضري) بوجود أو فقدان العصبية. كما أنها في رأيه المحور الأساسي في حياة الدول والممالك. ويطنب ابن خلدون في شرح مقولته تلك، مبينا أن (العصبية نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا)، ذلك أنها تتولد من النسب والقرابة وتتوقف درجة قوتها أو ضعفها على درجة قرب النسب أو بعده. ثم يتجاوز نطاق القرابة الضيقة المتمثلة في العائلة ويبين أن درجة النسب قد تكون في الولاء للقبيلة وهي العصبية القبلية (... ومن هذا الباب الولاء والحلف إذ نصرة كل أحد من أحد على أهل ولائه وحلفه للألفة التي تلحق النفس في اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النسب، وذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء). أما إذا أصبح النسب مجهولاً غامضاً ولم يعد واضحاً في أذهان الناس، فإن العصبية تضيع وتختفي هي أيضاً. (... بمعنى أن النسب إذا خرج عن الوضوح انتفت النعرة التي تحمل هذه العصبية، فلا منفعة فيه حينئذ). هذا ولا يمكن للنسب أن يختفي ويختلط في (العمران البدوي)، وذلك أن قساوة الحياة في البادية تجعل القبيلة تعيش حياة عزلة وتوحش، بحيث لا تطمح الأمم في الاختلاط بها ومشاركتها في طريقة عيشها النكداء، وبذلك يحافظ البدو على نقاوة أنسابهم، ومن ثم على عصبيتهم. (... الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين في القفر ... وذلك لما اختصوا به من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء الموطن، حملتهم عليها الضرورة التي عينت لهم تلك القسمة... فصار لهم إلفاً وعادة، وربيت فيهم أجيالهم ... فلا ينزع إليهم أحداً من الأمم أن يساهم في حالهم، ولا يأنس بهم أحد من الأجيال ... فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم وفسادها). أما إذا تطورت حياتهم وأصبحوا في رغد العيش بانضمامهم إلى الأرياف والمدن، فإن نسبهم يضيع حتما بسبب كثرة الاختلاط ويفقدون بذلك عصبيتهم. (... ثم يقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم وفسدت الأنساب بالجملة ثمرتها من العصبية فاطرحت ثم تلاشت القبائل ودثرت فدثرت العصبية مدثورها وبقي ذلك في البدو كما كان). وهكذا نخلص للقول في هذا الصدد بأن العصبية تكون في (العمران البدوي) وتفقد في (العمران الحضري).

العصبية والسلطة في مرحلة العمران البدوي

و بعد أن تعرض ابن خلدون لمفهوم العصبية و أسباب وجودها أو فقدانها، انتقل إلى موضوع حساس وهام، مبيناً دور العصبية فيه، ألا وهو موضوع (الرئاسة) الذي سيتطور في (العمران الحضري ) إلى مفهوم الدولة. في أثناء مرحلة (العمران البدوي) يوجد صراع بين مختلف العصبيات على الرئاسة ضمن القبيلة الواحدة، أي ضمن العصبية العامة حيث يقول: (..إن كل حي أو بطن من القبائل، وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام ، ففيهم أيضاً عصبيات أخرى لأنساب خاصة هي أشد التحاماً من النسب العام لهم مثل عشير واحد أو أهل بيت واحد أو أخوة بني أب واحد، لا مثل بني العم الأقربين أو الأبعدين ، فهؤلاء أقعد بنسبهم المخصوص، ويشاركون من سواهم من العصائب في النسب العام، والنعرة تقع من أهل نسبهم المخصوص ومن أهل النسب العام، إلا أنها في النسب الخاص أشد لقرب اللحمة). ومن هنا ينجم التنافس بين مختلف العصبيات الخاصة على الرئاسة، تفوز فيه بطبيعة الحال العصبة الخاصة الأقوى التي تحافظ على الرئاسة إلى أن تغلبها عصبة خاصة أخرى وهكذا. (... ولما كانت الرئاسة إنما تكون بالغلب، وجوب أن تكون عصبة ذلك النصاب (أي أهل العصبية الخاصة) أقوى من سائر العصبيات ليقع الغلب بها وتتم الرئاسة لأهلها... فهذا هو سر اشتراط الغلب في العصبة، ومنه تعين استمرار الرئاسة في النصاب المخصوص)). ويحدد ابن خلدون مدة وراثة الرئاسة ضمن العصبية القوية بأربعة أجيال على العموم، أي بحوالي 120 سنة في تقديره. (ذلك بأن باني المجد عالم بما عاناه في بنائه و محافظ على الخلال التي هي سبب كونه وبقائه، وبعده ابن مباشر لأبيه قد سمع منه ذلك وأخذ عنه، إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاين له ثم إذا جاء الثالث كان حظه في الاقتفاء والتقليد خاصة فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقتهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم و احتقرها و توهم أن أمر ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف، وإنما هو أمر واجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم و ليس بعصبية... واعتبار الأربعة من الأجيال الأربعة بان و مباشر و مقلد و هادم).وبذلك ينهي ابن خلدون نظريته المتعلقة بالسلطة أثناء مرحلة (العمران البدوي) ويخلص إلى نتيجة أن السلطة في تلك المرحلة مبنية أساساً على العصبية بحيث لا يمكن أن تكون لها قائمة بدونها.

انطلاقا من نظريته السابقة المتعلقة بدور العصبية في الوصول إلى الرئاسة في المجتمع البدوي، واصل ابن خلدون تحليله على نفس النسق فيما يتعلق بالسلطة في المجتمع الحضري مبينا أن العصبية الخاصة بعد استيلائها على الرئاسة تطمح إلى ما هو أكثر، أي إلى فرض سيادتها على قبائل أخرى بالقوة، وعن طريق الحروب والتغلب للوصول إلى مرحلة الملك (... وهذا التغلب هو الملك، وهو أمر زائد على الرئاسة... فهو التغلب والحكم بالقهر، وصاحب العصبية إذا بلغ رتبة طلب ما فوقها). معتمداً في تحقيق ذلك أساساً وبالدرجة الأولى على العصبية حيث إن (الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك). فهذه إذن المرحلة الأولى في تأسيس الملك أو الدولة، وهي مرحلة لا تتم إلا من خلال العصبية. وبالوصول إلى تلك المرحلة يبدأ (العمران الحضري) شيئاً فشيئاً وتصبح السلطة الجديدة تفكر في تدعيم وضعها آخذة بعين الاعتبار جميع العصبيات التابعة لها، وبذلك فإنها لم تعد تعتمد على عامل النسب بل على عوامل اجتماعية وأخلاقية جديدة، يسميها ابن خلدون (الخلال). وهنا تدخل الدولة في صراع مع عصبيتها، لأن وجودها أصبح يتنافى عملياً مع وجود تلك العصبية التي كانت في بداية الأمر سبباً في قيامها، (يتراءى لنا مبدأ نفي النفي في المادية الجدلية - اضافة رابط المادية الجدلية إن وجد-). ومع النشوء يتخطى الملك عصبيته الخاصة، ويعتمد على مختلف العصبيات. وبذلك تتوسع قاعدة الملك ويصبح الحاكم أغنى وأقوى من ذي قبل، بفضل توسع قاعدة الضرائب من ناحية، والأموال التي تدرها الصناعات الحرفية تنتعش وتزدهر في مرحلة (العمران الحضري) من ناحية أخرى. ولتدعيم ملكه يلجأ إلى تعويض القوة العسكرية التي كانت تقدمها له العصبية الخاصة أو العامة (القبيلة) بإنشاء جيش من خارج عصبيته، وحتى من عناصر أجنبية عن قومه، وإلى إغراق رؤساء قبائل البادية بالأموال، وبمنح الإقطاعات كتعويض عن الامتيازات السياسية التي فقدوها. وهكذا تبلغ الدولة الجديدة قمة مجدها في تلك المرحلة، ثم تأخذ في الانحدار حيث أن المال يبدأ في النفاذ شيئا فشيئا بسبب كثرة الإنفاق على ملذات الحياة والترف والدعة. وعلى الجيوش ومختلف الموظفين الذين يعتمد عليهم الحكم. فيزيد في فرض الضرائب بشكل مجحف، الشيء الذي يؤدي إلى إضعاف المنتجين، فتتراجع الزراعة وتنقص حركة التجارة، وتقل الصناعات، وتزداد النقمة وبذلك يكون الحكم قد دخل مرحلة بداية النهاية، أي مرحلة الهرم التي ستنتهي حتما بزواله وقيام ملك جديد يمر بنفس الأطوار السابقة التي يجملها ابن خلدون في خمسة أطوار. (... وحالات الدولة وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار. -الطور الأول طور الظفر بالبغية، وغلب المدافع والممانع، والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة قبلها. فيكون صاحب الدولة في هذا الطور أسوة بقومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة والحماية لا ينفرد دونهم بشيء لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب، وهي لم تزل بعد بحالها.

- والطور الثاني طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة. ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنياً باصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع والاستكثار من ذلك، لجدع أنوف أهل عصبيته وعشيرته المقاسمين له في نسبه، الضاربين في الملك بمثل سهمه. فهو يدافعهم عن الأمر ويصدهم عن موارده ويردهم على أعقابهم أن يخلصوا إليه حتى يقر الأمر في نصابه.

- الطور الثالث طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال وتخليد الآثار وبعد الصيت، فسيتفرغ وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج، وإحصاء النفقات والقصد فيها، وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة، والأمصار المتسعة، والهياكل المرتفعة، وإجازة الوفود من أشرف الأمم ووجوه القبائل وبث المعروف في أهله. هذا مع التوسعة على صنائعه وحاشيته في أحوالهم بالمال والجاه، واعتراض جنوده وإدرار أرزاقهم وإنصافهم في أعطياتهم لكل هلال، حتى يظهر أثر ذلك عليهم في ملابسهم وشكلهم وشاراتهم يوم الزينة...وهذا الطور آخر أطوار الاستبداد.

- الطور الرابع طور القنوع والمسالمة ويكون صاحب الدولة في هذا قانعاً بما أولوه سلماً لأنظاره من الملوك مقلداً للماضين من سلفه... ويرى أن الخروج عن تقليده فساد أمره وأنهم أبصر بما بنوا من مجده.

- الطور الخامس طور الإسراف والتبذير ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفاً لما جمع أولوه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته و في مجالسه، واصطناع أخدان السوء و خضراء الدمن، وتقليدهم عظيمات الأمور التي لا يستقلون بحملها، ولا يعرفون ما يأتون و يذرون منها، مستفسداً لكبار الأولياء من قومه وصنائع سلفه، حتى يضطغنوا عليه و يتخاذلوا عن نصرته، مضيعاً من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواتهم... و في هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه.. أي أن تنقرض) (المقدمة). وإذن فإن تحليل ابن خلدون بولادة ونمو وهرم الدولة هو ذو أهمية بالغة، لأنه ينطلق من دراسة الحركة الداخلية للدولة المتمثلة في العصبية، تلك المقولة الاجتماعية والسياسية التي تعتبر محور كل المقولات والمفاهيم الخلدونية. فقد اعتمد عليها اعتماداً أساسياً في دراسته الجدلية لتطور المجتمعات الإنسانية (العمران البشري) وكأنه يبشر منذ القرن الرابع عشر بما اصطلح على تسميته في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بـ (المادية الجدلية). وفي غمرة انطلاقته العلمية الرائعة الرائدة وضع أصبعه على العصب الحساس والرئيسي، وإن لم يكن الوحيد في تطور (العمران البشري) ألا وهو الاقتصاد.

إن النتيجة التي توصل إليها ابن خلدون في الفصل الثاني من مقدمته عند بحثه للعمران البدوي وهي: (إن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلهم من المعاش) قادته بالضرورة إلى دراسة عدة مقولات اقتصادية تعتبر حجر الزاوية في علم الاقتصاد الحديث، مثل دراسة الأساليب الإنتاجية التي تعاقبت على المجتمعات البشرية، وانتقال هذه الأخيرة من البداوة إلى الحضارة، أي من الزراعة إلى الصناعة والتجارة: (...وأما الفلاحة والصناعة والتجارة فهي وجوه طبيعية للمعاش. أما الفلاحة فهي متقدمة عليها كلها بالذات.. وأما الصناعة فهي ثانيها ومتأخرة عنها لأنها مركبة وعلمية تصرف فيها الأفكار والأنظار، ولهذا لا توجد غالباً إلا في أهل الحضر الذي هو متأخر عن البدو وثان عنه) (المقدمة).

ويركز ابن خلدون على الصناعة جاعلاً منها السبب الأساسي في الازدهار الحضاري: (إن الصنائع إنما تكتمل بكمال العمران الحضري وكثرته... إن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها). كما تناول مقولة تقسيم العمل بالتأكيد على أن (النوع الإنساني لا يتم وجوده إلا بالتعاون)، لعجز الإنسان عن تلبية جميع حاجاته مهما كانت قدرته بمفرده، حيث أن (الصنائع في النوع الإنساني كثيرة بكثرة الأعمال المتداولة في العمران. فهي بحيث تشذ عن الحصر ولا يأخذها العد..(مثل) الفلاحة والبناء والخياطة والنجارة والحياكة والتوليد والوراقة والطب...) أما القيمة فهي في نظره (قيمة الأعمال البشرية): فأعلم أن ما يفيد الإنسان و يقتنيه من المتمولات إن كان من الصنائع فالمفاد المقتنى منه قيمة عمله...إذ ليس هناك إلا العمل، مثل النجارة والحياكة معهما الخشب والغزل، إلا أن العمل فيهما أكثر فقيمته أكثر، وإن كان من غير الصنائع فلابد في قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل الذي حصلت به، إذ لولا العمل لم تحصل قيمتها...فقد تبين أن المفادات والمكتسبات كلها إنما هي قيم الأعمال الإنسانية)) (المقدمة). ولم يغفل أيضاً عن مقولة (القيمة الزائدة) وإن لم يعالجها بشكل معمق عند تعرضه لصاحب الجاه: (وجميع ما من شأنه أن تبذل فيه الأعواض من العمل يستعمل فيه الناس من غير عوض فتتوفر قيم تلك الأعمال عليه، فهو بين قيم للأعمال يكتسبها، وقيم أخرى تدعوه الضرورة إلى إخراجها، فتتوفر عليها، والأعمال لصاحب الجاه كبيرة، فتفيد الغني لأقرب وقت، ويزداد مع مرور الأيام يساراً وثروة) (المقدمة). من كل ما تقدم نستطيع المجازفة والقول إن أعمال ابن خلدون وبالذات (المقدمة) تعتبر موسوعة في العلوم الإنسانية، بل هي باكورة العمل الموسوعي العام قبل ظهور عصر الموسوعات بحوالي خمسة قرون.

يرى ابن خلدون في المقدمة أن الفلسفة من العلوم التي استحدثت مع انتشار العمران، وأنها كثيرة في المدن ويعرِّفها قائلاً: ¸بأن قومًا من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله، الحسي منه وما وراء الحسي، تُدرك أدواته وأحواله، بأسبابها وعللها، بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قِبَل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل، وهؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف، وهو باللسان اليوناني محب الحكمة. فبحثوا عن ذلك وشمروا له وحوَّموا على إصابة الغرض منه ووضعوا قانونًا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق. ويحذّر ابن خلدون الناظرين في هذا العلم من دراسته قبل الاطلاع على العلوم الشرعية من التفسير والفقه، فيقول: ¸وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه ولا يُكبَّنَّ أحدٌ عليها وهو خِلْو من علوم الملة فقلَّ أن يَسلَمَ لذلك من معاطبها·.

ولعل ابن خلدون وابن رشد اتفقا على أن البحث في هذا العلم يستوجب الإلمام بعلوم الشرع حتى لا يضل العقل ويتوه في مجاهل الفكر المجرد لأن الشرع يرد العقل إلى البسيط لا إلى المعقد وإلى التجريب لا إلى التجريد. ومن هنا كانت نصيحة هؤلاء العلماء إلى دارسي الفلسفة أن يعرفوا الشرع والنقل قبل أن يُمعنوا في التجريد العقلي.

امتاز ابن خلدون بسعة اطلاعه على ما كتبه القدامى على أحوال البشر وقدرته على استعراض الآراء ونقدها، ودقة الملاحظة مع حرية في التفكير وإنصاف أصحاب الآراء المخالفة لرأيه. وقد كان لخبرته في الحياة السياسية والإدارية وفي القضاء، إلى جانب أسفاره الكثيرة من موطنه الأصيل تونس وبقية بلاد شمال أفريقيا الأمازيغية إلى بلدان أخرى مثل مصر والحجاز والشام، أثر بالغ في موضوعية وعلمية كتاباته عن التاريخ وملاحظاته.

بسبب فكر ابن خلدون الدبلوماسي الحكيم، أُرسل أُكثر من مرة لحل نزاعات دولية، فقد عينه السلطان محمد بن الأحمر سفيراً إلى أمير قشتالة لعقد الصلح. وبعد ذلك بأعوام، استعان أهل دمشق به لطلب الأمان من الحاكم المغولي تيمور لنك، والتقوا بالفعل.

كثير من الكتاب الغربيين وصفوا تقديم ابن خلدون للتاريخ بأنه أول تقديم لا ديني للتاريخ، وهو له تقدير كبير عندهم.

وربما تكون ترجمة حياة ابن خلدون من أكثر ترجمات شخصيات التاريخ الإسلامي توثيقا بسبب المؤلف الذي وضعه ابن خلدون ليؤرخ لحياته وتجاربه ودعاه التعريف بابن خلدون ورحلته شرقاً وغرباً، تحدث ابن خلدون في هذا الكتاب عن الكثير من تفاصيل حياته المهنية في مجال السياسة والتأليف والرحلات، ولكنه لم يضمنها كثيراً تفاصيل حياته الشخصية والعائلية.

كان شمال أفريقيا أيام ابن خلدون بعد سقوط دولة الموحدين الأمازيغية تحكمه ثلاث أسر: المغرب كان تحت سيطرة المرينيين الأمازيغ (1196 - 1464م )، غرب الجزائر كان تحت سيطرة آل عبد الودود الأمازيغ (1236 - 1556م )، تونس وشرق الجزائر و برقة تحت سيطرة الحفصيين الأمازيغ أيضا (1228 - 1574م ). التصارع بين هذه الدول الثلاثة كان على أشده للسيطرة ما أمكن من المغرب الكبير ولكن تميزت فترة الحفصيين بإشعاع ثقافي باهر. وكان المشرق العربي في أحلك الظروف آنذاك يمزقه التتار والتدهور.

كان ابن خلدون دبلوماسياً حكيماً أيضاً. وقد أُرسل في أكثر من وظيفة دبلوماسية لحل النزاعات بين زعماء الدول: مثلاً، عينه السلطان محمد بن الاحمر سفيراً له إلى أمير قشتالة للتوصل لعقد صلح بينهما وكان صديقاً مقرباً لوزيره لسان الدين ابن الخطيب .كان وزيراً لدى أبي عبد الله الحفصي سلطان بجاية، وكان مقرباً من السلطان أبي عنان المرينى قبل أن يسعى بينهما الوشاة. وبعد ذلك بأعوام استعان به أهل دمشق لطلب الأمان من الحاكم المغولي القاسي تيمورلنك، وتم اللقاء بينهما. وصف ابن خلدون اللقاء في مذكراته. إذ يصف ما رآه من طباع الطاغية، ووحشيته في التعامل مع المدن التي يفتحها، ويقدم تقييماً متميزاً لكل ما شاهد في رسالة خطها لملك المغرب الخصال الإسلامية لشخصية ابن خلدون، أسلوبه الحكيم في التعامل مع تيمور لنك مثلاً، وذكائه وكرمه، وغيرها من الصفات التي أدت في نهاية المطاف لنجاته من هذه المحنة، تجعل من التعريف عملاً متميزاً عن غيره من نصوص أدب المذكرات العربية والعالمية. فنحن نرى هنا الملامح الإسلامية لعالم كبير واجه المحن بصبر وشجاعة وذكاء ولباقة. ويعتبر ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع. ساهم في الدعوة للسلطان أبى حمو الزيانى سلطان تلمسان بين القبائل بعد سقوط بجاية في يد سلطان قسنطينة أبى العباس الحفصى وأرسل أخاه يحيى بن خلدون ليكون وزيراً لدى أبى حمو.

توفي ابن خلدون في مصر عام 1406م، ودفن في مقابر الصوفية عند باب النصر شمال القاهرة. وقبره غير معروف. والدار التي ولد بها كائنة بنهج تربة الباي عدد 34 بتونس العاصمة بالمدينة العتيقة.

وله قصيدة في الحنين لموطنه تونس يقول في أولها:

أحن إلى ألفي وقد حال دونهم ... مهامه فيح دونهن سباسب

ويبقى ابن خلدون اليوم شاهداً على عظمة الفكر الإسلامي المتميز بالدقة والجدية العلمية والقدرة على التجديد لإثراء الفكر الإنساني.

تاريخ ابن خلدون، المسمى بكتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.

شفاء السائل لتهذيب المسائل. نشره وعلق عليه أغناطيوس عبده اليسوعي.

مقدمة ابن خلدون

كتاب مذكراته، التعريف بابن خلدون

وسوم: العدد 806