ورحل الطود الإعلامي الشامخ
ورحل الطود الإعلامي الشامخ
أحمد موفق زيدان*
ستظل إطلالتك في قناة الجزيرة حين كنت تعلق على سقوط تمثال صدام حسين وسط بغداد ليلة دخول قوات الاحتلال الأمريكي إليها، ستظل إطلالة مميزة ومحفورة في أذهان الملايين من مشاهدي قناة الجزيرة إذ كنت تحاول جاهداً أن تبتعد عن الحدث اللحظي لتنطلق إلى أفق أرحب وهو ما تعانيه هذه الأمة من استبداد واستعباد، وما ينبغي أن تستخلصه الحكومات والشعوب من دروس تحطيم هذا الصنم.
كانت كل مساعيك ومجاهداتك تريد أن تقول لهذه الأمة بأن ما يحدث في عاصمة الرشيد ليس نهاية التاريخ وليس نهاية هذه الأمة وإنما سيكون بدايتها في الإقلاع، والتمرد على الظلم والاحتلال وعدم القبول به.
ربما كان من المفروض أن تدخل إطلالتك تلك كتاب جينيس للأرقام القياسية لاستمرارها لساعات طويلة تقذف فيها بالجواهر واللآلئ من فيك دون تكرار أو تلعثم، وإنما كنت كالنهر الهادر الذي لا تنقطع مياهه، كنت شارحاً للوضع وتداعياته والدروس التي يمكن أن تستخلص منه توعية وحضاً وتحفيزاً لهذه الأمة التي طال نومها وإن كانت طلائعها ما تزال تصر على القبض على الجمر في مقاومة الاحتلال في كل بلد يتعرض إلى الغزو والاحتلال والضيم.
ماهر عبد الله لم أعرف فيك إلا الأخ الوفي في زمن عز فيه الوفاء وعرفت فيك الشاب الطافح بكل معاني الرجولة والأخوة والزمالة والحرقة والأسى على هذه الأمة، إذ قلما خلت مجالسنا حين كنا في دوحة الجزيرة من التطرق إلى أوضاع الأمة وعوامل قوتها وضعفها، ولكن لم تكن في كل وقت من تلك الأوقات الجميلة والرائعة التي ستظل محل حزن للفراق ومكان دفعة للأمام بالمضي قدماً على نفس الطريق كلما تذكرتها.
ستبقى ذكرى تلك الجلسات محفزاًَ ومشجعاًَ كما كنت تقول لنا بأن عوامل قوة هذه الأمة أكبر بكثير من عوامل ضعفها، ويكفيها فخراً كما كنت تردد بأنها محل اهتمام العالم كله سياسياً وإعلامياً وفكرياً واقتصادياً.
أبا أسامة سيذكرك الكثيرون من محبيك ومشاهديك الذين كنت تطل عليهم في برنامجك الشريعة والحياة وسيذكرك زملاؤك ورفاقك وما أكثرهم، ومن بين هؤلاء شبيهك وسميك بالكنية أبو أسامة أيضاً تيسير علوني الذي كأنني أرى الدموع تترقرق في مآقيه، بينما هو بعيد عنا جسدياً فقط والملزم بالبقاء في أرض الأندلس وعدم مغادرتها بسبب أوهام وتصورات ثبت لنا وسيثبت لغيرنا أنها خاطئة كل الخطأ.
ماهر عبد الله الرجل الذي لا يكل ولا يمل من ملاقاة الأصدقاء والأحباب الذين يفدون إلى الجزيرة، ولا يكل ولا يمل من مسامرتهم والجلوس معهم لساعات طويلة حتى يصيح الديك، كان حريصاَ كل الحرص ألا يزعج أحداً بكلمة يفهم منها السلبية أو موقف يفهم منه الطرف الآخر إزعاجاً وانتقاصاً له، كان يسعى إلى تحمل واستيعاب كل المواقف والآراء وإن كانت لا توافقه أو تعجبه وهي صفة نادرة في هذا العالم الديكتاتوري الاستبدادي، لكن لا يمنعه ذلك كله من تبيان موقفه ورأيه بوضوح وقوة وعدم مجاملة.
ستظل ذكرى يا أبا أسامة في القلب والعقل وسنظل نذكرك مثال الزميل الذي يتفقد زملاءه برسالة عبر الجوال أو باتصال هاتفي أو بلقاء لساعات طويلة، كان آخر اتصال لي مع الفقيد قبل أيام من رحيله حين أرسل لي رسالة عبر الهاتف الجوال تقول" رف الحمام مغرب" ولتلك قصة ليس موضعها الآن، ولكن الشاهد من القصة هل كان يستشعر بأن حمامنا قد أوشك أن يغرب، وهل أدرك أن منيته قد اقتربت؟!
ولا نقول لأم أسامة وبناته وأقاربه وأحبابه وزملائه في قناة الجزيرة والإعلام العربي إلا ما قاله الرب تبارك وتعالى" إنا لله و إنا إليه راجعون" ونسأل الله أن يجزل له المثوبة ويسكنه فسيح جناته ويرحمه برحمته الواسعة وأن لا يحرمنا أجره ولا يفتنا بعده وأن يغفر لنا وله.
* إعلامي سوري مقيم في إسلام أباد