أحدثكم عن الدكتور عدنان النحوي!
في أواخر التسعينيات من القرن الماضي؛ انعقد بالقاهرة "مؤتمر الأديبات الإسلاميات"، وقد طلبتْ مني إحدى الإعلاميات أنْ ادلَّها على أحد الأدباء الكبار المشاركين في المؤتمر؛ لمحاورته ... فأشرتُ لها على الدكتور/ عدنان النحوي.
قبل أنْ تصل إليه بخطوات؛ رجعتْ القهقرى، وطلبتْ مني أنْ أحضر اللقاء، عسى أنْ أطرح سؤالاً قد يثري الحوار .. فترددتُ قليلاً؛ لعدم ارتدائها "الزيّ الإسلامي" المناسب!
لكني راجعتُ نفسي، ورأيتُ أنَّ "السلبية" ليست حلاًّ، وأنه من الأفضل المشاركة؛ لاسيما أنني من أشدّ المعجبين بالأديب الإسلامي/ عدنان النحوي.
بمجرد أنْ أقبلنا نحوه؛ تهلَّل وجهه بالسرور، ورحَّبَ بحفاوةٍ بالغة ... واستهلَّ ترحيبه بالكلام عن الشعوب، والأوطان، ودور المسلمين الغائب في هذا الزمان ... وألقى علينا محاضرةً عصماء فيما ينبغي عمله؛ لانتشال الأمة ممَّا حلَّ بها من التراجع الحضاري الذي أصابها!
في تلك الأثناء؛ كانت (الإعلامية) مشدوهة بما تسمع، وكأنه نبَّهها إلى موضوعٍ مهم، وأطلعها على جرحٍ غائر، ووضع يدها على جرحٍ نازف، وفتح أعينها على جرحٍ آخر!
لــــذا؛ غيَّرتْ الأسئلة التي كانت معدَّة لطرحها للحوار الإذاعي، وراحت تسأل: كيف نصنع أدباً راقياً يتوافق وعقيدتنا، وهويتنا الحضارية، وكيف ننشئ جيلاً من الأدباء الذين يحملون رسالة الأمة، وينافحون عن قضاياها .... إلخ!
المهـــم؛ أنها صارت منذ ذلك اليوم؛ أديبة، وكاتبة إسلامية، بلْ ومن تلامذة الدكتور النحوي .. وظلتْ تترصَّد مجيئه إلى القاهرة؛ لمحاورته، ومعرفة آخر همومه الفكرية، ونتاجه الأدبي والثقافي!
الأهـــم في هذا الصدد؛ أنها لقبَّتْ الدكتور/ عدنان بــــ(محامــي لغـــة الضـــاد)!
* * *
نعـــــم! عدنان النحوي (محامـــي لغـــة الضـــاد) ... ولِـــــــمَ لا؟
أليس هو الشَّاعر الكبير، والناقد المبدِع، والكاتب الكبير، والمؤلف الموسوعي؟
أليس هو الذي أبدع الملاحم الشِّعرية العديدة، وألَّف الروائع الإسلامية البديعة؟
أليس هو الذي ملأ الصحف والمجلات بالمقالات البنَّاءة في مختلف القضايا؟
أليس هو الذي شارك في جميع الندوات والمؤتمرات الأدبية بإبداعاته، وتنظيراته؟
أليس هو الذي ردَّ على شبهات التغريبيين، ونازل فلول الحداثيين؟
أجــل! هو كل هذا، وأكثر من ذلك ... حسبه كتابه (العربية بين مكر الأعداء وجفاء الأبناء) الذي يعدُّ من أوفى الكتب في موضوعه، فعنوانه دالٌّ على محتواه؛ إذْ يتناول حجم المؤامرة على لغة القرآن المجيد من جانب، وعقوق أبنائها، وجفاء أهلها من جانبٍ آخر.
"العربية" لغة خطاب الله الأخير إلى البشر
يبدو أنَّ العرب والمسلمين المعاصرين لمْ يدركوا بعد قيمة لغتهم ورسالتها ... ففي اختيار "اللسان العربي" ليكون أداة التوصيل، ووسيلة الإبانة، ووعاء التفكير للرسالة الخاتمة الخالدة؛ قضية ذات أبعاد لغوية، وثقافية، وعلمية، وحضارية؛ حيث لم يعد ينكر اليوم، علاقة التعبير بالتفكير، ودور التعبير في التفكير والإبداع الأدبي والعلمي، والمحاكمات العقلية .. لذلك فمجرد اختيار (العربية) لتكون لغة الله -سبحانه- في مخاطبة البشر في النبوة الخاتمة، التي انتهت إليها أصول الرسالات السماوية كافة، والتي تحددت مهمة الرسول الكريمe فيها، بالبلاغ المبين، يعني امتلاكها هذه الأبعاد جميعاً .. قال تعالى: ]فإنما عليك البلاغ المبين[ [آل عمران:20]. ]وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِين[ [النور :54].
إنَّ اختيار (العربيـة) لتكون لغة التنزيل للخطاب السماوي، أوْ لتكون لغة خطاب الله الأخير إلى البشر، له دلالات كثيرة؛ لسعتها، ومرونتها، وغِنى مفرداتها، وكثرة مترادفاتها، التي تمتلك التعبير عن كل حالة شعورية، ولا يضيق لفظها عن استيعاب أيّ معنى، ولا يضيق سلُّمها الصوتي عن النطق بأيّ حرف، مهما كان معقداً في اللغات الأخرى. فضلاً عن قدرتها على تقديم الأوعية التعبيرية، والاستجابة لكل الظروف والأحوال، التي يكون عليها الناس، والاستجابة للإنتاج الحضاري، في سائر العلوم والفنون، حتى يرث الله الأرض، ومن عليها.
وحسبنا أن نقول: إنَّ التنزيل الخالد، الممتد إلى نهاية الزمان، والذي وصف الله أبعاده ومداه، بقوله: ] قُل لَّوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً[ [الكهف : 109]. وقوله: ]وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ[ [لقمان :27]. والذي كانت (العربية) وعاءه الخالد، هو الذي يجعلنا ندرك الطاقة التي تمتلكها العربية، والشرف الكبير، بجعلها لغة التنزيل.
ويجعلنا ندرك -أيضاً- التخاذل اللغوي والثقافي، الذي يعاني منه العرب والمسلمون اليوم، وكيف أنَّ المشكلة ليست في قدرة اللغة، وإنما في تخلف أهلها وعجزهم.
سطوة اللغات الأجنبية الوافدة
يتساءل "عدنان النحوي": هل فكرت الدول العربية في الحفاظ على كيانها من سطوة اللغات الأجنبية الوافدة؟ وهل اتخذتْ أيّ إجراءات لوقف زحف اللهجات الأجنبية على أراضيها؟
كلاَّ؛ بلْ إنَّنا نشهد غزواً سافراً من اللغات الأجنبية .. دون أيّ رد فعل إيجابي!
فكثير من البنوك والمصارف المالية، وكثير من الأنشطة التجارية والعلمية والثقافية، لا تتعامل إلاَّ باللغات الأجنبية، وتتخذ العربية ورائها ظِهريا.
ليس هذا فحسب؛ بلْ شهدتْ الحقبة الأخيرة موجة عاتية من التغريب، تحمل في طياتها "مؤامرة" تستهدف محو الأسماء والرموز والعلامات العربية، واستبدالها بمسميات أجنبية، خاصة أسماء الشوارع والمؤسسات والمدارس والمحلات، ومختلف المنتجات، وسائر الأنشطة المعيشية!
(العربيـــــة) أصـــل اللغـــات
تحدث الدكتور/ النحوي- عن تاريخ اللغة العربية؛ وأشار إلى أنَّ العلماء والفلاسفة والمؤرخين ذهبوا إلى أنَّ (العربيـة) هي أصل اللغات، وبقية اللغات انبثقت منها في صور لهجات؛ تحولت بعد ذلك إلى لغات مستقلة، تقترب من بعضها في الكتابة أوْ في النطق! ومازالوا ينقِّبون عن الحقيقة بين أطلال الحضارات ومجاهيلها حتى عثروا على أبجدية "أوغاريت" على الساحل السوري, وشهدوا بأقدميتها على ما سبقها من كشوفات!
ثمَّ وقفوا على كتابات أثرية في مملكة (ايبلا) شمال سورية مكتوبة بحروف عربية، ثبت أنها أقدم من الكشوفات الهيروغليفية والفينيقية.
ومن النقوش العربية القديمة: نقْش "عجل بن هفعم" الذي عُثِر عليه في الفاو (قرب السليل) في المملكة العربية السعودية، وقد كُتِبَ بالخط المسند، ويعود إلى القرن الأول قبل الميلاد.
وكذلك نقْش "عين عبدات" في صحراء النقب، ويعود تاريخه إلى القرن الأول الميلادي، وقد كُتِبَ بالحرف النبطي القريب من الخط العربي الحالي.
ومن النقوش العربية، نقش "النمارة" الذي اكتشف في الصحراء السورية، وهو نص مؤرخ بتاريخ 328م ومكتوب بنوع من الخط النبطي، وهو عبارة عن رسم لضريح ملِك الحيرة "امرئ القيس بن عمرو" وصِفَ فيه بأنه "ملِك العرب".
ومن النصوص الأثرية التي ورد فيه اسم العرب (اللوح المسماري) المنسوب للملك الآشوري "شلمنصَّر الثالث" في القرن التاسع قبل الميلاد، ذكر فيه انتصاره على تحالف ملوك آرام ضده بزعامة ملك دمشق، وأنه غَنِمَ ألف جمل من جنديبو من بلاد العرب.
هذا؛ وقد أكدَّ علماء اللغات: أنَّ كلمة (عرب) موجودة بالقصص والأوصاف اليونانية والفارسية، وكان يقصد بها أعراب الجزيرة العربية، ولم يكن هناك لغة عربية معينة، لكن مجموع اللهجات التي تكلمت بها القبائل سمِّيت لغات عربية، نسبة إلى الجزيرة العربية.
وقد وجد في أحد متاحف باريس لوحة منقوشة بالعربية، اكتشفت في قرية (جلوزل) الفرنسية، تعود إلى عشرة آلاف سنة؛ أيْ قبل العصر الذي يسمونه بالعصر الحجري الحديث!
عصـــر نزول الوحـــي
هذا؛ ويؤكد الدكتور/ النحوي- أنَّ (العربيــة) بلغتْ ذروة نضجها وتطورها في عصر نزول الوحي، بعد أن استقرَّت بياناً وقواعد، نثراً وشِعراً، حتى تظلَّ -لغة التنزيل- ثابتة القواعد والبيان، غنيَّة كل الغِنَى، ليظلَّ القرآن الكريم مُيسَّراً للذِّكر، مفصَّلاً بيّناً للعالمين.
ولذلك توالت الآيات الكريمة التي تُلحُّ بأنَّ القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين.
ولولا استقرار "العربيـة" بقواعدها؛ لما كان تيسَّر القرآن على هذا النحو البديع.
وبالفعل؛ فمازالت قواعد البيان القرآني، ثابتة مألوفة في شتى أنحاء الأرض، على مدى العصور. بلْ تميّزت (العربية) بخصائص الاستقرار والصفاء، حتى يظلّ "القرآن" يحمل خصائص إعجازه، وخصائص بلاغته، وقوّة حجّته.
كما عرفت قواعدها صافية منذ بكور نشأتها، وعرفت نحوها وصرفها -كذلك- في أجوائها النقية .. فعرفت المفرد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث، وضمائر الغائب والمتكلم والمخاطب، واسم الإشارة والاسم الموصول، والاسم المعرَّف بالألف واللام، والضمير المتصل والضمير المنفصل وأنواعهما، واسم الزمان واسم المكان، والنعت، والأعداد، والمجرّد من الأفعال والمزيد، إلى غير ذلك ... وأبصرهـم فسوف يبصـرون!
* * *
الحــقَّ أقـــول: إنَّ كتاب (العربية بين مكر الأعداء وجفاء الأبناء) جدير بقراءته، وفهمه، ونشره، والإشادة به، وتفعيل توصياته.
وإنَّ (عدنان النحوي) شاعر الملاحم، وفارس الأدب الإسلامي، ومحامـــي العربيــــــة!
فجزاه الله خيراً عن دينه، وعن أمته ولغتها ... وسلام عليه في دار الخلود!!
وسوم: 636