الدكتور شكري فيصل في الجزائر
لقد استعانت الجزائر بعد استعادة الاستقلال بنخبة من العلماء العرب في مجال التعليم العالي. وهكذا أعارت الجامعات العربية عددا من أساتذتها إلى الجامعات الجزائرية الثلاث الموجودة آنذاك (الجزائر، قسنطينة، وهران) لتدريس الطلبة الجزائريين والإشراف على رسائلهم العلمية. وسأقتصر هنا على دراسة واحد منهم، وهو الأديب والعالم السوري الدكتور شكري فيصل (1918-1985) رحمه الله.
ومضات من حياته:
ولد شكري فيصل في حي العقيبة بدمشق القديمة في عام 1918. نشأ في بيت علم، فدرس على خاله العالم المحدّث الشيخ محمود ياسين في مدرسة التهذيب الإسلامي، ثم أكمل دراسته في مدارس أخرى، وتتلمذ على كبار أساتذتها أمثال الشيخ زين العابدين التونسي، والشيخ عبد القادر المبارك، والأستاذ سليم الجندي...، وحصل على شهادة الباكالوريا في العلوم أخرى في الآداب في عام 1938.
وانتقل بعد ذلك إلى مصر للدراسة في جامعة القاهرة حيث نال شهادة الليسانس في الأدب في عام 1942، وعاد إلى سوريا للعمل في ميدان التعليم الثانوي، دون أن ينقطع عن الدراسة، فقد حاز على الإجازة في الحقوق في سنة 1946 من جامعة دمشق.
عاد مرة أخرى إلى مصر لمواصلة تحصيله العلمي، ونال شهادة الماجستير في سنة 1948 من جامعة القاهرة، وكان موضوع بحثه: "مناهج الدراسة الأدبية. عرض ونقد واقتراح". وحصل بعد عام على دبلوم معهد اللهجات العربية. وفي سبتمبر 1951 نال شهادة الدكتوراه في الآداب من الجامعة نفسها وكان موضوع أطروحته الأصلية: "المجتمعات الإسلامية في القرن الأول: نشأتها، ومقوماتها وتطوّرها اللغوي والأدبي" بإشراف الأستاذ أمين الخولي الذي قال عنه تلميذه فيصل: «لقد عودني الصبر وحبب إليّ الأناة وأخذني بالعمل الدائب، وردني مرة ومرة إلى ما يجب أن يأخذ به الدارسون أنفسهم من النهج العلمي ومن الروح العالية التي تضيق بالطرق الوعرة الشاقة.»
كما تأثر خلال دراسته في جامعة القاهرة بالدكتور أحمد أمين وتعاون معه في الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية. وكذلك تأثر بأستاذه الدكتور طه حسين وأسلوبه الأدبي الراقي، وقد كان يحضر مبكرا إلى قاعة المحاضرة ليحتجز مكانا في الصف الأول حتى لا تفوته أية جملة يلفظ بها هذا الأستاذ الشهير.
وقد كتب شكري فيصل فيما بعد مقالا رائعا حول ذكرياته مع هذا الأديب المصري، فقال مستحضرا تلك الجلسات الممتعة والمفيدة: « لست أملك أن أقول إنه لم يكن هنالك خير من هذه الساعات.. ولكني أملك أن أقول إنه لم يكن هنالك أحلى من هذه الساعات. كان لها مذاق خاص.. الساعات التي كان يتحدث فيها الدكتور طه حسين عن الأدب الحديث، والساعات التي كان يتحدث فيها عن الأدب الأموي وعن الأدب العباسي ما تزال وكأنني أستمع إليها الآن.»
التحق الدكتور شكري فيصل بعد ذلك بجامعة دمشق أستاذا للأدب العربي القديم. وفي عام 1961 اختير عضوا في المجمع العلمي العربي، وفي عام 1972 انتخب أمينا عاما لهذا المجمع. كما اختير عضوا في مجامع اللغة العربية في مصر والأردن والهند.
أما في مجال التأليف والتحقيق، فقد نشر الدكتور فيصل مجموعة من الكتب النفيسة، أذكر منها: المجتمعات الإسلامية في القرن الأول، حركة الفتح الإسلامي في القرن الأول، مناهج الدراسة الأدبية، تطور الغزل في الجاهلية والإسلام، الصحافة الأدبية، أبو العتاهية: أسفاره وأخباره، ديوان النابغة الذبياني، مقدمة المرزوقي في شرحه لحماسة أبي تمام، خريدة القصر وجريدة العصر للعماد الأصفهاني، تاريخ دمشق الكبير لابن عساكر...الخ.
كما ساهم في المجلات العربية المعروفة أذكر منها: الأديب (لبنان)، الرسالة (مصر)، دعوة الحق (المغرب)، الفكر (تونس)، العربي (الكويت)، العرب (السعودية)، المعرفة (سوريا)، مجلة المجمع العلمي العربي (سوريا)، ومجلة مجمع اللغة العربية (الأردن).
كانت للدكتور شكري فيصل مشاركات دائمة في الندوات والمؤتمرات الفكرية والأدبية المنعقدة في سوريا وخارجها، فكان لا يتردد في الاستجابة للدعوات التي تصله من المؤسسات العلمية والثقافية للمساهمة فيها بالمحاضرات والبحوث، وأذكر منها: مؤتمر الأدباء العرب (الكويت، ديسمبر 1958) وقدم فيه بحثا عنوانه "البطولة كما يصوّرها الأدب العربي بعد سقوط بغداد حتى بداية القرن التاسع عشر"؛ ومؤتمر المستشرقين التاسع والعشرين (باريس، 16-23 أغسطس 1973) ، والندوة الإسلامية الرابعة (القيروان، فبراير 1978)، وقدم خلالها محاضرة حول قضية الإصلاح والتجديد...الخ.
كان الدكتور شكري فيصل لا يغيب عن جل المؤتمرات السنوية التي كان ينظمها اتحاد المجامع العربية عبر العواصم العربية، وكان آخرها عقد في مدينة الرباط عام 1984، وقد قدم خلاله الدكتور شكري فيصل بحثا عنوانه: "تعريب التعليم العالي والجامعي في ربع القرن الأخير." ولقد «كان إصراره على حضور هذه المؤتمرات والندوات وتلبية رغبات الداعين إليها، موضع لوم وانتقاد بعض أصدقائه.»
الدكتور فيصل في رحاب الجامعة الجزائرية:
اكتشف شكري فيصل اسم الجزائر للمرة الأولى في مسقط رأسه دمشق التي كانت تستقبل كثيرا الجزائريين الذين فروا من البطش الاستعماري، وترحب بهم بما يليق بحق الأخوة الإسلامية والتضامن العربي. واستمع إلى القصص التي كانوا يروونها عن ثورات الجزائر المتعاقبة، وأدرك دور عائلة الأمير عبد القادر في الحياة السياسية والثقافية في سوريا.
وقرأ الكتب التي ألفها العلماء الجزائريون الذين استقروا نهائيا في العاصمة السورية أمثال الشيخ طاهر الجزائري وعبد القادر المبارك. والتقى بالشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي كان آنذاك مقيما في دمشق، ورأى بنفسه كيف كان يقدره علماء هذه الحاضرة العلمية ويعتبرونه « آية من الآيات في نصاعة الأسلوب، وحس الأداء وقوة العارضة، وسلامة المنطق، ونموذجا رائعا لقوة الشخصية ووضوح الحجة وسلامة المعتقد».
ولقد زادته معرفته بكل هؤلاء العلماء تعلقا بالجزائر، ورغبة في السفر إليها. لكن حلمه لم يتحقق إلا بعد تحرر البلاد واستعادة استقلالها.
كان الدكتور فيصل أستاذ ناجحا للأدب العربي في جامعة دمشق، وانتشرت شهرته خارج سوريا، وتلقى دعوات كثيرة من الجامعات العربية لإلقاء المحاضرات على طلبتها. فدرّس في لبنان والأردن ومصر (معهد الدراسات والبحوث العربية بالقاهرة)، والمغرب والجزائر قبل أن يستقر نهائيا في السعودية حيث عمل أستاذا في جامعة المدينة المنوّرة إلى غاية وفاته في يوم 11 محرم 1406 هـ / 6 أغسطس 1985. وقد لخص الدكتور شكري فيصل زبدة تجاربه في تدريس الأدب العربي في الجامعات العربية في مقال هادف نشره في مجلة "المعرفة" السورية عنوانه: "كليات الآداب في الوطن العربي بين الأصالة والتبعية".
أما علاقته بالجامعة الجزائرية، فقد درّس الأدب العربي في جامعتي الجزائر ووهران ثلاث سنوات أكاديمية بين 1969و1972، وقد أثّر خلالها على كثير من طلبته بفضل غزارة علمه ودماثة أخلاقه وتوجهه العربي الإسلامي. قال واحد من الذين درسوا عليه في جامعة الجزائر في هذا الشأن: «لعل الذي ربطني بأستاذي الدكتور شكري فيصل وبذر محبته في قلبي هو سلوكه الإسلامي القويم، والتزامه الشديد بالتعاليم والقيم الإسلامية، وتوجهاته الحضارية الواعية... وكان من النادر أن نجد في ذلك الأثناء أستاذا جامعيا له هذه التوجهات إذ كان أغلب الأساتذة قوميين أو اشتراكيين أو شيوعيين أو بعثيين، وغير ذلك من التوجهات التي لا تمت إلى الإسلام بصلة.»
أما طريقته الجذابة في التدريس، فقد وصفها طالب آخر بالشكل الآتي: «كان بارعا جدا في تحليل النصوص التي يقلبها على شتى وجوهها. ويعتصر زُبدة ما فيها من أفكار وخصائص وميزات. وكثيرا ما كنا نقضي ساعتين أو أكثر في دراسة النص الواحد الذي لا يتجاوز الأبيات العشرة، فيأتي بأفكار ومعان واستنتاجات كنا نستغرب كيف يفطن بها، ويصطادها خياله الخلاق المبدع».
وأشرف الدكتور شكري فيصل على عدد من المذكرات والرسائل العلمية التي أعدها الطلبة الجزائريون، وكان من أشهرهم الباحث القدير محمد ناصر الذي أنجز أطروحة الدكتوراه تحت إشرافه حول موضوع "المقالة الصحفية الجزائرية: نشأتها، تطوّرها، أعلامها"، وقد ناقشها في يوم 13 جوان 1972.
كما نسج شبكة علاقات مع الأساتذة الجزائريين خاصة الذين ينتمون لنفس الاتجاه الفكري مثل الدكتور أبو القاسم سعد الله، فعقدت بينهما صلة قوية سواء أثناء وجوده في الجزائر أو بعد عودته إلى سوريا وإشرافه على المجمع العلمي السوري باعتباره أمينا عاما ومسؤولا على لجنة الطبع والنشر.
والحقيقة أنه كان لا يتأخر في مساعدة الباحثين الجزائريين الذين كانوا يقصدونه في مسألة علمية، فعلى سبيل المثال كان يستقبل الدكتور أبا القاسم سعد الله في المجمع العلمي العربي بدمشق ويزوّده بالوثائق والمخطوطات التي كان في حاجة إليها. وهو الذي قدم لهذا البحاثة الجزائري نسخا من الرسائل التي كان يتبادلها العالم المجمعي الجزائري الدكتور محمد بن أبي شنب مع الأستاذ محمد كُرد علي رئيس هذا المجمع في العشرينات. وقد نشر الدكتور سعد الله هذا البحث في عام 1979 في مجلة "الثقافة".
نشاطه الثقافي في الجزائر:
شارك الدكتور شكري فيصل في الندوات والملتقيات الفكرية والأدبية التي كانت ازخر بها الساحة الثقافية الجزائرية في فترة السبعينيات من القرن العشرين، فألقى على سبيل المثال محاضرة في قاعة الهوقار بالجزائر العاصمة في شهر جوان 1972 حول القضية الفلسطينية. وكان حريصا على اكتشاف البلد والتعارف على علمائها. وفي هذا السياق، زار رفقة أسرته مناطق عديدة من التراب الجزائري واتصل بعلمائها وأعيانها. وقد استقبله في وادي ميزاب الشيخ إبراهيم بيوض والشيخ إبراهيم أبو اليقظان والشيخ عدون وغيرهم من علماء هذه المنطقة العريقة.
وبالإضافة إلى محاضراته وأسفاره، ساهم الدكتور شكري فيصل في الحياة الثقافية الجزائرية من خلال الكتابة في الصحف والمجلات الأدبية والتاريخية، أذكر هنا على سبيل المثال المقالات التالية:
-الأدب والغزو الفكري. المعرفة، العدد 18، أفريل 1965، ص 65-81.
- في ذكرى الهجرة. القبس، العددان 7-8، سبتمبر 1969، ص 6-26.
- فلسطين هل يعيد التاريخ نفسه؟ الأصالة، العدد 8، ماي-جوان 1972، ص 203-212.
- حركة التعريب وصل بين الماضي والمستقبل. الأصالة، العددان 17-18، جانفي-فبراير 1974، ص 119-121.
- قضايا الفكر في آثار الإبراهيمي. الثقافة، العدد 87، ماي-جوان 1985، ص 165-215.
ولابد أن أشير هنا إلى أن الدكتور شكري فيصل كان يراسل باستمرار أصدقاءه في سوريا خلال فترة إعارته إلى الجزائر، ويخبرهم عن الأوضاع الاجتماعية والثقافية في بلادنا، وقد نشر بعضهم هذه المراسلات بعد وفاته أمثال الدكتور عدنان الخطيب، والدكتور عبد النبي أصطيف، والأستاذ عيسى فتوح، والدكتور نسيب نشاوي الذي عمل أيضا أستاذا للأدب العربي بجامعة عنابة.
غادر الدكتور فيصل الجزائر في عام 1972، لكنه لم يقطع الصلة بها، فقد عاد إليها مرات عديدة للمشاركة في الملتقيات العلمية، أذكر منها: المؤتمر الثاني للتعريب الذي عقد في عام 1974، وملتقى الفكر الإسلامي الخامس عشر المنعقد في الجزائر من 1 إلى 7 سبتمبر 1981، وقدم خلاله محاضرة بعنوان: "نحو وجهة جديدة في إيضاح إعجاز القرآن". ورجع بعد سنة، للمشاركة في ملتقى الفكر الإسلامي السادس عشر المنعقد في الجزائر من 27 يوليو إلى 3 أغسطس 1982، وألقى خلاله محاضرة عنوانها: " البيان النبوي".
لقد بقي الدكتور شكري فيصل على صلة بالجزائر بزياراته لهذا البلد أو من خلال استقباله للعلماء والطلبة الجزائريين الذين كانوا يقصدونه في جامعة دمشق ثم جامعة المدينة المنوّرة التي انتقل إليها في بداية الثمانينيات. وإنه من الوفاء لكل الأساتذة السوريين الذين درسوا في المدارس والجامعات الجزائرية أن نرد لهم الجميل باستقبال أبنائهم وأحفادهم الذين يعانون اليوم كباقي إخواننا السوريين من تبعات الحرب الأهلية التي خربت البلاد وشردت العباد، ونعمل من أجل أن تستعيد سوريا أمنها واستقرارها.
وسوم: العدد 654