كلمة في وداع حسن الترابي
غادرنا الدكتور الشيخ الكبير حسن الترابي، الفقيه العالم، والمجتهد المجدّد، والقائد السياسي ذو الزعامة الشعبية، وصاحب الأثر الباقي في الأمّة. فرحمة الله عليه وما أصعب أن نبحث عنه ولا نجده بيننا.
قلما، يُجمَع في رجل واحد ما اجتمع في حسن الترابي من مزايا وسمات تكفي الواحدة منها لو توّفرت في إنسان واحد ليكون عَلماً يُشارُ إليه بالبنان، أو يُعدّ من البارزين في عصره. ولهذا فإن فقدانه وغيابه سيثبتان مع الأيام أننا فَقْدَنا جللاً، وغاب عنا من يتعذّر أن نجد له بدلا.
على أنه قدر الله، وما على الشعب السوداني العظيم، وعلى ذويه ومحبيه وصحبه وبنيه وعلينا جميعاً إلاّ أن نتقبله حامدين وداعين له بالرحمة والغفران.
والمثل الشعبي يقول "من خلف ما مات". وهو يقصد الأبناء الأقربين. ولكنه أكثر انطباقاً أو صدقاً بالنسبة إلى من خلفهم الترابي وراءه من قادة وتلامذة ومقتدين به. ولهذا سيبقى الترابي حيّاً بيننا من خلال أولئك الخلّص، كما من خلال كتاباته وسيرته.
إن كاتب هذه السطور لا يتجرّأ على أن يُصدر أحكاماً فقهية بتأييد أو مناقشة ما تركه الترابي من اجتهاد في الفقه أثار الكثير من التأييد والخلاف. مما يؤكد، بأننا أمام عالم مجتهد بلغ مرتبة الاجتهاد وتحلّى بالجرأة على مخالفة المألوف، وما يُعتبَر من المسلمات. أما إذا كان كاتب هذه السطور لا يستطيع أن يعطي رأياً في عدد من اجتهادات الترابي الخلافية إلاّ أنه على يقين نزاهته واستقامته وتقواه في ما أقدم عليه من اجتهاد سواء أكان قد أخطأ أم أصاب. وهو بلا ريب مجدّد مجتهد. وان الاجتهاد في هذا العصر غير مأمون العواقب.
أما على مستوى قيادته السياسية فقد كان منذ وقت مبكر من شبابه قائداً سياسياً، ومسؤولاً أول، عن حركة إسلامية تجرّأت على خوض غمار السياسة بمستوى الاحتراف. قكان من أوائل علماء هذا العصر إقداماً على المشاركة في الحكم ثم الوصول إلى قيادة الحكم، وإرساء دعائم نظام سياسي على أساس المرجعية الإسلامية. وذلك في ظروف عهد نأى قروناً عن آخر عهد لتجربة إسلامية في الحكم. وقد عاصر تجربة إسلامية سياسية سبقته بعشر سنين وهي تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران. ولكن بالطبع بخلفية فقهية مختلفة. ولكن كلاهما، مع الفارق، خاض غمار تجديد لا سابق مطابقاً له في الماضي والحاضر. وذلك بسبب التعاطي الإسلامي مع الدولة الحديثة، وفي إطار سيادة الحضارة الغربية على العالم وتأثيرها في المجتمعات. ناهيك عما يسود من موازين قوى غير مؤاتية. وأن العمل السياسي غير مأمون العواقب كذلك.
لقد واجه الترابي في تجربته السياسية لا سيما وهو يشارك في الحكم الجديد الذي نشأ بعد تسلم السلطة في السودان عام 1989، من التعقيد ما لم يكن في الحسبان. وذلك بالرغم مما كان يتوقعه من تعقيد وصعوبات. الأمر الذي يوجب أن تنشر أفكاره وتنظيراته في تقويم تجربته لكي تضاف إلى ما خلّفه من تراث فقهي وفكري وسياسي. وهو ما يحتاج إليه جيل المنخرطين بالعمل السياسي والتغيير من أبناء الحركات الإسلامية وقادتها ودعاتها.
فعلى التأكيد، بأن ما سُرّب أو عُرف أو نُشر عن قراءة الترابي لتجربته قليل من كثير. وذلك لأسباب تتعلق بمواصلته العمل السياسي حتى آخر لحظة من حياته. فالمقربون المقربون منه، ولا سيما الشيخ الكبير ابراهيم السنوسي الذي خلفه في تحمّل الأمانة التي كان يحملها، هم من يملكون تلك القراءة بصورتها الدقيقة والكاملة. لأنها ستكون استثنائية من حيث أهميتها ودروسها. وأن من يحتكم لتجربة السودان وانفصال جنوبه عن شماله واشتعال الوضع في دارفور يدرك كم حمل المسؤولية وضيم العواقب، ولو حُملَّت للجبال لأبَيْنَ حملها.
فقد كانت حياة الترابي وتجربته جامعة بين العالم الفقيه الذي أبحر في هذا الميدان وقد جمع معه ثروة في الفقه القانوني الغربي (إن جاز التعبير) حتى ليكاد المرء يعجب كيف كان يخرج منه إلى السياسة والتنظيم والعمل الجهادي اليومي، وهو بحرٌ آخر يحتاج إلى ما يتجاوز المنهج الفقهي القانوني الصارم. لأنك هنا ستدخل في عالم موازين القوى والجيو-سياسي والصراعات التي تحكمها قوانين وسنن غير ما يحكم العلم الفقهي أو القانوني، أو مخاطر إنزال الأحكام على وقائع قد تتغيّر بين لحظة وأخرى، بل هي تتغيّر بين لحظة وأخرى. هذا ناهيك عن الدخول في المرحلة الأصعب وهي مرحلة الحكم وإدارة الحكم وما يسودهما من سنن وقوانين.
من هنا يكون الترابي قد عانى من التجارب ما يعانيه العالم والفقيه ورجل القانون، وما يكابده المناضل والمجاهد وهو يتدرج من العمل في الخلية السريّة إلى دخول السجن أو التشرّد خارج الوطن. وتعرّض لكل ما يتعرض له الحاكم من تعقيدات الصراع على السلطة والبقاء فيها، كما الخروج منها ليعود إلى مرحلة البدء من جديد، وليس إلى المنفى وكتابة مذكراته.
ومن هنا يمكن القول أن الترابي كان متجدّد الشباب دوماً حتى وهو في السبعين والثمانين. وهي سمة تندر في من تعدّوا الخمسين بل من تعدّوا الأربعين. والأكثر ندوراً أن تصل القمة ثم تجد نفسك في مواجهة الصعود إليها من جديد. وقد وهن العظم فيما الإرادة في عنفوان الشباب.
ثم هنالك سمة تحسب من الندرة في الوضع العربي وضغوطه وإغراءاته وما يتعرض له كل قائد شعبي وراءه تنظيم. ألا وهي الحفاظ على استقلالية القرار وعدم المساومة عليه أمام الحاجة إلى المال، أو إلى الدعم السياسي أو إلى الخروج من العزل والحصار والتجويع. فحسن الترابي حافظ على استقلالية قراره. ولم يضعف أمام المال ولا أمام الحصار، وهو ما يحتاج إلى شجاعة ورباطة جأش أعلى مما يحتاجه إليه المحارب في الوغى تحت قراع السيوف وصوْلات الردى.
لقد امتلك حسن الترابي من المؤهلات والعلم والإعداد والمواهب أكثر مما يحتاجه قبطان في قيادة سفينة. ولكن كل ذلك لا ينفع إذا جنّت العواصف حول السفينة وإذا علا الموج من تحتها كأن الأرض أخرجت أثقالها. وكان على القبطان أن يأخذ قرارات والسفينة ذاهبة إلى الصخور. فتلكم تجربته في معادلات وموازين قوى شديدة التعقيد فكيف قوّمها؟ فها هنا الدرس العظيم.
وختاماً ما جاء في هذا المقال لا يفي بحق الترابي ولا ينصفه كما يجب. ولكنه كلمة متواضعة في وداع أخ كبير وعالم فذ وقائد مدرسة، رحمه الله وجازاه خيراً وغفر له وأسكنه فسيح جنانه وألهَمَ ذويه وصحبه ومحبّيه الصبر والسلوان ومتابعة المسير.
وسوم: العدد 659