الشيخ جاد الحق على جاد الحق فى ذكراه العشرين
تمر اليوم الذكرى العشرون لرحيل الإمام المجدد ، جاد الحق على جاد الحق، شيخ الأزهر الأسبق، فقد مرت بهدوء دون أن يتعرض له أحد من وسائل الإعلام التى صدعت روؤسنا بمن هو دونه ...هذا الرجل الذى تولى مشيخة الأزهر فى وقت صعب، فالهجمات الموجه ضد الإسلام تزداد حدتها يوماً بعد يوم، من العالم الخارجى الذى يكيد له فى صراع تاريخى متجذر، وقاد هذه الحملات الشرسة أيضاً نفر من بيننا، يتبنى فكر أعداء الإسلام، وتنحاز السلطة وجهازها مع هؤلاء الذين يتعرضون للإسلام، ويقف الرجل يدافع بدون تشنج أو عصبية، يقارع هؤلاء بعد أن انتخب معه المخلصين جنوداً يحاربون معه ...
والشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر السابق، المولود في قرية "بطرة" مركز طلخا محافظة الدقهلية فى يوم الخميس الموافق (13 جمادى الآخرة سنة 1335 هـ - 5 إبريل 1917م)، تلقى تعليمه الأوْلِي في قريته فحفظ القرآن، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم الْتحق بالمعهد الأحمدي بطنطا، وأنهى المرحلة الابتدائية به، وانتقل إلى المرحلة الثانوية، واستكملها في القاهرة في معهدها الديني بالدَرَّاسَة، وبعد اجتيازه لها التحق بكلية الشريعة وتخرَّج فيها سنة (1363هـ - 1944م)، حاصلاً على الشهادة العالمية، ثم نالَ تخصص القضاء بعد عامين من الدراسة، وكان الأزهر يعطي لمن يحصل على العالمية في الشريعة أن يتخصص في القضاء لمدة عامين، ويمنح الطالب بعدها شهادة العالمية مع إجازة القضاء.
وقد كان الرجل مثالاً للالتزام الفقهى والعلمى وكان يتمتع بروح القاضى الملتزم بالشريعة والقانون، المترفع عن أن يبحث عن تقدير أى شىء، أو أحد غير ضميره النقى التقى الورع، وكان التزامه بالنصوص الشرعية والتشريعية وإلمامه بها وقدرته على الرجوع إليها ، والانتقاء من بينها ، والموازنة بين مقاصدها، وترجيح غاياتها ، كان فى كل ذلك نموذجاً نادراً إلى أبعد حدود القدرة فى العصر الذى عشنا فيه ...عمل طيلة حياته بسلك القضاء منذ أن تخرج من كلية الشريعة فى الجامع الأزهر فى عام1944 ثم نال منها درجة العالمية مع القضاء الشرعى عام 1945، ولم يعود لأى منصب فى الأزهر إلا عندما عين للجامع الأزهر كله شيخاً له فى عام 1982، بعد حوالى أربعين عاماً قضاها فى مجال القضاء الشرعى، الذى كان واحداً من أعلامه المتميزين، الذين استطاعوا أن ينهضوا به فى قدرة واقتدار وذكاء وشرف طيلة عهد القضاء الشرعى، ولما ألغيت المحاكم الشرعية عام 1958 تحول إلى القضاء المدنى، ولم يكتف ولى الأمر الذى فعل بهذا القضاء الشرعى ما لم يفعله الاستعمار طيلة فترته، بل ظلم هذه الفئة من القضاة الشرعيين فى الدرجات المالية والوظيفية ، وكان منهم إمامنا الأكبر.
وفى مطلع 1982 يتولى وزارة الأوقاف، وبعد شهرين يعين شيخاً للأزهر خلفاً للشيخ محمد عبدالرحمن بيصار . وقد شغله عمله فى القضاء عن التأليف وبالرغم من هذا فقد ترك من المؤلفات أشهرها : "بيان للناس" ، تناول فيه دون أن ينص على ذلك أزمة الفكر السياسى فى جماعات الإسلام المختلفة من منطلق شرعى، تسامى عن الدخول فى مناقشات ومهاترات، وله أيضاً كتب : "الفقه الإسلامي مرونته وتطوره"، و"بحوث فتاوى إسلامية في قضايا معاصرة"، و"رسالة في الاجتهاد وشروطه" ، و"رسالة في القضاء في الإسلام"
وقد واجه الرجل الأفكار التى كان تثار من العلمانين الذين يضيقون ذرعاً بالفكر الإسلامى ، فواجه الرجل هذا فى وقته ولم يحنى ظهره للريح أبداً ،فقد استعان بالعلماء الأكفاء من الأزهر ومن خارجه لهذا الأمر .. فقد نشر هؤلاء الكتب القديمة التى ألفت فى أزمنة ماضية مثل كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلى عبدالرازق ، و"فى الشعر الجاهلى"، و"مستقبل الثقافة فى مصر" لطه حسين، وكتابات سلامة موسى ولويس عوض المغرضة .. وبرغم هذا كان هؤلاء يعاندون فى صلف، فقد سخر الرجل منابر الأزهر للدفاع عن الإسلام وحضارته وتاريخه .
وكان الرجل متابعاً لأحوال المسلمين فى الداخل والخارج مهموماً بهم واضعاً نصب أعينه القول النبوى الكريم: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، فبعث البعوث إلى الشرق وأقصى الغرب وزار معظم دول الإسلام ليشاهد عن قرب ما يحياه الملمون فى هذه البلاد، وعندما سقط الإتحاد السوفيتى وثبت فشل النظرية الشيوعية المارقة، هرول الرجل إلى هذه البلاد الإسلامية (طاجكستان، وأوزبكستان، وقيرغيزيا، تركمانستان) التى استقلت عن هذا الإتحاد، وبعث برجال الأزهر يهدون الناس إلى صحيح الدين بعدما عمل الشيوعيون على إبعادهم عن هذا الدين قرابة البعين عاماً، وعقد مؤتمراً كبيراً فى رجاب جامعة الأزهر تحت رعايته بعنوان "الإسلام فى أسيا الوسطى والقوقار" فى مطلع العام 1994، وقد تعرضت جلسات المؤتمر وأبحاثه لهموم المسلمين وتاريخم فى هذه البلاد التى وصلها الإسلام مبكراً، وأنجبت المئات من الأعلام يأتى على رأسهم الإمام البخارى، ويقف الرجل موقفاً شجاعاً من حرب الإبادة فى البوسنة فقد حشد الناس لإدانة هذه الهجمة الصليبية الجديدة وبعث موفد من قبله بالمعونات ويستطلع عن قرب أحوال المسلمين هناك، وقد ايد أيضاً مقاومة المجاهدين الأفغان ضد الجيش الأحمر حتى تم النصر وانهارت الشيوعية تماماً كالثور الصريع.
وقد كرم الرجل فى حياته وبعد مماته فحصل على الجوائر والأوسمة اهمها وشاح النيل من مصر وهو أعلى وشاح تمنحه الدولة في (سنة 1403هـ - 1983م) بمناسبة العيد الألفي للأزهر، ووسام "الكفاءة الفكرية والعلوم" من الدرجة الممتازة من المغرب، وجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام سنة (1416هـ -1995م).
وقد رحل الشيخ جاد الحق فى شهر مارس عام 1996، ويرحل معه فى نفس الأسبوع فارسان اهترت الوجدان الإسلامى لرحيلهما هما الشيخ محمد الغزالى، والعلامة خالد محمد خالد ..رحم الله الجميع .
وسوم: العدد 659