الوزير ابن العديم الحلبي المؤرخ الأديب الشاعر
هو الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد ، ينتهي نسبه إلى أبي جرادة عامر بن أبي ربيعة العقيلي ، وقد ولد في حلب الشهباء سنة 580 هـ في بيت مشهور ، فيه الأدباء والشعراء والفقهاء والعباد والزهاد والقضاة ، ثم أخذ من علماء حلب ودمشق وبغداد الأدب فأتقنه ، ودرس عليهم الفقه فأحسن ، ونظم القريض فجوده ، وأنشأ النثر فزينه ، وقرأ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعرف علله ورجاله وتأويله وفروقه وأصوله ، وهو في كل هذا ـ مثل اسمه ـ كمال في كل فضيلة ، لم يعتن في بشيء إلا وكان فيه بارزاً ، ولا تعاطى أمراً إلا وجاء فيه مبرزاً ، فقد كان عديم النظير فضلاً ونبلاً وذكاءً ودهاءً ومنظراً ورواء وجلالة ومهابة ، وترسل إلى الخليفة والملوك مراراً كثيرة ، وكانت له الوجاهة العظيمة عند الخلفاء والملوك ، وهو مع ذلك كثير التواضع لين الجانب حسن الملتقى والبشر بسائر الناس ، أرسله الملك الناصر الأيوبي ملك حلب إلى الخليفة العباسي فأكرم إكراماً كثيراً ، حتى قيل له : نحن نعظم الرسل لأجل مرسليهم ، ونحن نعظم مرسلك لأجلك ، وفي سفاراته إلى مصر أحاط به الشعراء ومدحه كثير منهم ، مثل البهاء زهير ، وأبي الحسين الجزار الذي رجاه أن يخاطب فيه السلطان الأيوبي لعله يحظى عنده ، وابن المرصص ، وأيدمر المسمى بعد ذلك إبراهيم الصوفي الذي حمل إليه شعره ليقومه .
لم يشغل ابن العديم عن التأليف على الرغم من حياته الحافلة بالسفارات والتنقل والأعمال الكثيرة ، لذلك خلف كتباً كثيرة جليلة أعظمها كتاب " بغية الطلب في تاريخ حلب " وقد توفي ابن العديم وبعضه مسودة ولو كمل تبييضه لكان أربعين مجلداً .
واختصر هذا الكتاب الكبير في كتاب : " زبدة الحلب في تاريخ حلب " . وكذلك له كتاب : " الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة " وغير ذلك كثير .
اقترب الغزو المغولي من حلب سنة 658 هـ فنزح ابن العديم إلى مصر مع من نزح ، وبعدما انكسر التتار أمام جيش المماليك بقيادة الملك المظفر قطز في عين جالوت واستطاع المماليك أن يحرروا دمشق وحلب ويستأصلوا شأفة التتار ببسالة وشجاعة ، ورجع ابن العديم إلى حلب فوجدها خراباً بعدما كانت عليه من عمارة وازدهار وغنى وقوة فرثاها رثاء فيه الكثير من الحرقة والألم ولم يستطع المكوث فيها فرجع إلى القاهرة ليقضي فيها بقية عمره حزيناً غريباً ، ولم يطل به المقام ، ولم تمهله الأحزان فسرعان ما توفي عام 660 هـ ودفن بظاهرها .
كان ابن العديم شاعراً مطبوعاً صادقاً ، نلمس ذلك فيما وصل إلينا من شعره في كتب التراجم ، ولو وصل إلينا ديوانه كاملاً لكان الحكم أدق وأشمل ، ولا شك في أنه طرق أبواب الشعر جميعها ونظم فيها وحلق إلى حيث أقرانه من شعراء العصر إن لم نقل : إنه لم نقل : إنه فاق الكثيرين منهم .
ولقد احتل الفخر مكانة مرموقة في شعره لأنه كان ينتمي إلى أسرة ذات نسب ورفعة ، واتسم فخره بالصدق والواقعية ، إذ جاء بعيداً عن الحماسة والحرب والقتال ، لأن أجداده لم يكونوا من أرباب السيوف والرماح ، وإنما كانوا قضاة أتقياء وخطباء فصحاء وكتاباً بلغاء ، فافتخر بهم وبمناقبهم التي عرفهم الجميع بها من غير تهويل أو مبالغة أو إضافة ، فقال :
وابن العديم أب حنون رؤوف تجمعه مع أولاده رابطة الصداقة فضلاً عن القرابة ، ومن البديهي أن يؤجج البعد والفراق ما في قلب ابن العديم من حب وشوق وحنين نحو ابنه فيسيل ذلك شعراً سامياً رائقاً يمثل أرقى المشاعر الإنسانية وأنبلها ، قال :
كما تجلت مشاعره الأصيلة الإنسانية الصادقة أيضاً في رثائه لمدينته حلب الشهباء ، بعد أن أحرقها التتار بوحشية قل أن نجد لها مثيلاً في التاريخ قديمه وحديثه ، وتركوها تسبح في دماء أهلها وجثثهم التي ملأت الشوارع حتى تعذر السير ، الأمر الذي أحزن ابن العديم حزناً شديداً منعه من الاقامة فيها فعاد إلى مصر ثانية ليغالب أحزانه وآلامه ، ولكنه سرعان ما غلبته فخر صريعاً غريباً .
وإننا لنلمح في رثائه لحلب المنكوبة رنة حزن عميق تسبل على أبياته سواداً وظلاماً وبخاصة عندما يصف جيوش المغول المتوحشة وفعالهم المشينة ، وحين يخاطب حلب ويسألها ويرثيها بدموعه وبكائه ونواحه ، قال :
إنها زفرات ودموع وقطرات دم من قلب تفطر ألماً بعد أن أضاع الوطن والأهل والأحبة في آن واحد.
وسوم: العدد 669