القرضاوي من المنفي إلى الميدان (2-2)

وقف الشيخ في معسكر الثورة ، وكان عليه أن يصمد في مواجهة الحملات الضارية في وسائل إعلام الإنقلاب وصحفه وإذاعاته ، وهي حملات تدنت إلى مستوى من الانحطاط والفجور، تعبر عن أخلاق أصحابها ومستواهم الفكري والاجتماعي . وأقدم للقارئ بعض النماذج التي تنسب إلى كبار متعهدي الحملات وصغارهم وتكشف زيف مواقفهم وتضليلهم وتدليسهم وتهافتهم ..

تدليس وتضليل

ها هو مكرم محمد أحمد رجل الحكم العسكري منذ عمله في الصحافة عام 1958يكتب في الاهرام 3/2/2016 متسائلا في خبث ماذا تبقى من فكر القرضاوي سوى الخرف والإمعان في سوء استخدام وتأويل النص الديني انتصارا لجماعته التكفيرية الإرهابية جماعة الإخوان المسلمين بالعاطل والباطل، التي تجاهر الآن بجرائمها الإرهابية (؟) عقابا للمصريين وقتلا لرجال الأمن والجيش الذين يذودون عن أمن مصر ويحرسون أمان شعبها، وتحريضا على الفتنة بين السنة والشيعة في ظروف مخيفة يعانى فيها العالم الإسلامي انقساما مروعا بسبب صراعات سياسية على المكانة والنفوذ! "

لا يكتفي صحفي النظام العسكري بهذا التدليس والتضليل فيهاجم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين قائلا : والمؤسف أن جماعة العلماء التي ينتمى إليها القرضاوي تجمع بين السنة والشيعة، وتعتبر الشيعة اجتهادا فكريا في تفسير النص القرآني لصالح العباد، لم يتجاوز ثوابت الشريعة الإسلامية ولم يخرج عليها..، وأخطر ما فى موقف القرضاوي أنه يصب المزيد من الزيت على نار فتنة مشتعلة ليزيد الحريق اشتعالا، مع علمه أن هناك من الجهلاء والسفهاء الذين ربما يرون فى قوله ذريعة لارتكاب جرائم فظة، آخرها جريمة العدوان على مسجد شيعي لقوات الأمن السعودي فى المنطقة الشرقية أسفرت عن قتل وإصابة العشرات، وقبلها جرائم عديدة مماثلة فى حرب خسيسة كافرة طالت مساجد الشيعة والسنة فى العراق والكويت والسعودية وأفغانستان".

نتيجة فاسدة

مكرم رجل النظام يريد أن يحمل القرضاوي مسئولية الجرائم التي ترتكب في أرجاء الأرض لأنه لم يؤيد النظام الانقلابي الذي يخدمه ، وينتهي إلى نتيجة فاسدة يقول فيها : " والأمر المؤكد أن أقوال القرضاوي لا تخدم الإسلام ولا تخدم السنة ولا تخدم المسلمين، وهى فى جوهرها مجرد تحريض ولغو فاسد يسيء إلى الإسلام الذى يدعو إلى تكاتف المسلمين جميعا سنة وشيعة كالبنيان المرصوص، كما يدعو إلى احترام الأقليات الدينية والعرقية والطائفية التي تعيش فى كنف المسلمين تحقيقا لرسالة الاسلام فى العدل والسلام والمساواة ".

وإذا كان مكرم رجل النظام العسكري قد توقف عند التدليس والتضليل والكذب فهناك من صبية البيادة من هبطوا إلى درك سحيق . يقول أحدهم معلقا على الخلافات التي جرت بين قيادات الإخوان المسلمين قبل الذكري الخامسة للثورة ، في مقال بعنوان «الأزهر» وتخاريف «القرضاوي» نشره في موقع " اليوم السابع " الكنسي المخابراتي بتاريخ 04 فبراير 2016 :

" انفجرت مؤخرًا داخل جماعة الإخوان الإرهابية صراعات قد تبدو لنا أنها صراعات حقيقية، ولكنها صراعات وهمية 100 % ، بل أستطيع تأكيد أنه لو كان هناك صراع فإنه صراع على قتل المصريين.. " ..

ويستطرد الفتى خادم البيادة ليشير إلى قيادات الجماعة ويزعم أن القرضاوي على رأسهم ويصفه بشيطان الإخوان وأنهم أصبحوا خطرا على الإسلام، والدليل من وجهة نظر الفتي خادم البيادة الهجوم الأزهري على تخاريف القرضاوي، حيث انتفض علماء الأزهر الشريف وقياداته ( يقصد علماء السلطة وفقهاء الشرطة ) ضد الدكتور يوسف القرضاوي، ودعواته التحريضية للشباب، رافضين الصمت على تلك الدعوات التي وصفوها بالجرم العظيم، مطالبينه بكف لسانه وأن يتقى الله فى مصر، مشددين على أن 30 يونيو ثورة شعبية خرجت لتصحيح الوضع وإزالة نظام الإخوان الفاسد.

أكاذيب

ويستشهد الفتى خادم البيادة بما قاله الدكتور إبراهيم الهدهد، رئيس جامعة الأزهر، الذي قال ردًّا على كلمة الدكتور يوسف القرضاوي فى ذكرى ثورة 25 يناير: «لقد تابعت ما نشر على المواقع الإلكترونية فى ذكرى 25 يناير عام 2016 نقلاً عن قناة الشرق المغرضة التي تبث من تركيا ولا عمل لها إلا التحريض ضد هذا الوطن والحرص على إشاعة القلاقل، بدل الاستقرار ولم يتعظوا مما حاق بالبلاد من حولنا من الإطاحة بالاستقرار واستمرار القلاقل إلى هذه الساعة وإراقة الدماء على لسان القرضاوي. وقد جاء فى حديثه ما يندى له الجبين(؟)، ولكن حين تتابع هذا تقول يا أسفاه على عالم زل هذه الزلات، وهذه الزلات لا يمكن أن تدخل إلا في فكر الخوارج (؟)، من هذه الزلات، للأسف الشديد، أنه يرمى ملايين المصريين المسلمين بالكفر حينما يحرض الشباب على الخروج ويهون عليهم أمر الدماء ويهون عليهم أمر مقدرات البلاد ثم يستشهد بقوله تعالى «فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا»، نحن نقول «أنى لك بتكفير الملايين من المصريين وهل تتحمل إثم هذا أمام الله تعالى؟».. ويعد الفتي أن هناك بقية لحديثه الكاذب ولكني لم أطلع عليها.

العمائم الانقلابية

وكان الموقع الكنسي المخابراتي قد نشر تحقيقا يوم الأربعاء، 03 فبراير 2016 -  حمل العناوين التالية :

الأزهر يرد على القرضاوي بعد تحريضه للمصريين..

رئيس جامعة الأزهر: زلاتك تدخل فى فكر الخوارج..

والبحوث الإسلامية: 30 يونيو ثورة والجيش انحاز للشعب..

والمعاهد الأزهرية: تسعى لسفك الدماء

 وكتب الموقع الكنسي المخابراتي في مقدمة تحقيقه الطويل الذي استفتى فيه مجموعة من العمائم الانقلابية :

." انتفض علماء الأزهر الشريف وقياداته ضد الدكتور يوسف القرضاوي، ودعواته التحريضية للشباب، رافضين الصمت على تلك الدعوات التي وصفوها بالجرم العظيم، مطالبينه بكف لسانه، وأن يتقى الله فى مصر، مشددين على أن 30 يونيو ثورة شعبية خرجت لتصحيح الوضع وإزالة نظام الإخوان الفاسد، والتي أكدت أن المصريين أعقل وأحكم من أن ينساقوا وراء هذا التحريض المغرض."

وراحت العمائم الانقلابية تكيل الاتهامات والسباب للرجل الذي يدافع عن حرية بلاده وكرامة شعبه ويسعى إلى تحرير وطنه ممن اغتصبوا إرادته بقوة الدبابة وداسوا على كرامته بسطوة السلاح ، وفتحوا سجونها ومعتقلاتها للأحرار والشرفاء بمنطق النبوت .

لقد تحولت القيادات الأزهرية المتواطئة مع الانقلاب إلى عون للسلطة العسكرية الظالمة ، وذراع لإصدار الفتاوى الحرام التي تساند الباطل ، وتروج له ، وتفتى للسلطان بما يريد لدرجة أن جعلته نبيا ورسولا ، وصعدت به إلى مستوى الصحابة والقادة العظام .. لا عجب أن ينقلبوا على شيخهم وإمامهم ، وأن يسلقوه بألسنة حداد ، وأن يتهموه بما ليس فيه ، وهم يعلمون جيدا أنه كان يمكن أيوفر على نفسه كثيرا من المتاعب ويتفادى الحملات التي وجهت إليه لو أنه قبل الظلم ورضي بالطغيان ، وصمت عن قول الحق .. ولكنه آثر طريق الحق الصعب ، خوفا من ربه وإيمانا بدينه ، وحبا لوطنه الجريح الذي أذله الانقلابيون الطغاة !

مشايخ السلطة

المفارقة أن مشايخ السلطة ووعاظ الشرطة كانوا في عهد مبارك يحرمون التظاهر والخروج على ولى الأمر ، وفي عهد الرئيس الأسير محمد مرسي أباحوا التظاهر والخروج عليه ، وفي عهد الانقلاب العسكري رجعوا مرة أخرى إلى تحريم التظاهر والخروج ! بئس ما يصنعون !

ولكن الشيخ بحسه الإسلامي المرهف ، وإخلاصه لربه ودينه ، وفهمه العميق لمقاصد الدين الحنيف في تحرير الإنسان من الاستبداد والاستباحة دعا في الذكرى الرابعة للثورة ( الأحد, 25 يناير 2015 ) الشعب المصري إلى الخروج والتظاهر في الذكرى الرابعة لثورة يناير، مؤكدا أن النزول "فرض عين" على كل مصري. وقال القرضاوي في كلمة نقلتها عنه قناة "مصر الآن" : " أدعو الشعب المصري كله ( أزهريين ومحامين وأطباء ومهندسين وكل طوائف الشعب ) أن يصطفوا لمواجهة هؤلاء الظالمين". وأضاف " يجب أن نرفض حكم العسكر الذي لم يأت لنا إلا بالفساد.. ولابد أن يحكم الناس أنفسهم ويحكم من ارتضوه رئيساً، ولا تصدقوا علماء السلطان وعلماء السوء الذين لم يأتوا لنا إلا بالشر".  

وتابع" النظام لن يستطيع مواجهة الشعب اذا احتشد ضده بقوة، والنزول للميادين ضد الظالمين أصبح فرض عين على الجميع رجالا ونساءً وشبابا، على المصريين أن يخرجوا جميعاً ويقفوا للمطالبة بحقهم أن يعيشوا أحراراً.. علينا أن ننقذ مصر قبل فوات الأوان، وعلي جميع المصريين النزول في 25 يناير وألا يخافوا . لن يستطيعوا قتل الشعب كاملا".

عودة الشرعية

ومضى "القرضاوي" قائلا : "اسطوانات الغاز في عهد مرسي لم تزد عن 8 جنيهات وفي عهد السيسي اسطوانات الغاز وصل سعرها إلي أكثر من 80 جنيه ولا توجد ". وخاطب علماء النفاق في مصر: " أنتم لست بعلماء ولا فقهاء وأنتم علماء وفقهاء السلطة وسوف يقتص منكم الشعب المصري".   وواصل القرضاوي كلمته قائلا :"نحن نريد أن نعيد الحياة لمجراها الطبيعي .. نعيش أحرارا في العالم نختار حكامنا بنفسنا، والدكتور مرسي كان لابد أن يفضح كل من تآمر على الوطن للشعب المصري، نحن من يحكمنا هم الغرب .. الذين رفضوا أن يستمر الدكتور مرسي في حكمه، وماذا فعل الآلاف من الشعب المصري حتي يقتلوا في ميادين مصر، قتلوا لأنهم أرادوا عودة شرعيتهم وعودة الديمقراطية والحكم للمدنيين". 

وفي الذكرى الخامسة للثورة كرر الشيخ نداءه للتظاهر والاحتجاج ضد الانقلابيين . لقد كان الشيخ وفيّا لدينه محبا لإسلامه ووطنه حين وجه يوم الاثنين، 25 يناير 2016 رسالة إلى شباب مصر بكل فصائله وتياراته في ذكرى الثورة قال فيها : "سينتصر الحق على الباطل، والعدل على الظلم، والخير على الشر .. هذه هي سنة الله".

ودعا من خلالها كل الشباب إلى عدم اليأس والخروج ضد الظلم.. "الله سينصركم على أعدائكم مهما كثروا".

وأضاف " إن كانوا كُثر فجند الله أكثر منهم وإن كانوا أقوياء فالله أقوى منهم.. يد الله فوق أيديهم.. إن كانوا مكرة فمكر الله أسرع منهم".

وختم العلامة القرضاوي رسالته " يا شباب مصر انهضوا ولا تيأسوا ولا تستسلموا لهؤلاء الظالمين..

إن شاء الله سينتصر الحق على الباطل.. سينتصر العدل على الظلم .. سينتصر الخير على الشر.. هذه هي سنة الله".

الشعب المظلوم

 وبصفة عامة فقد كان الشيخ يتخذ من المناسبات المختلفة فرصة للتعبير عن آمال الشعب المظلوم ، ويشرح الفارق بين الحرية والاستبداد ، وما يترتب على كل منهما ، فعلى سبيل المثال تأتي ذكرى تحرير سيناء ، وانسحاب العدو النازي اليهودي منها ، ليتناول مسألة تعميرها ، وتقصير الحكومات الاستبدادية في هذا السياق . ويشير إلى أن الرئيس الشرعي محمد مرسى خصص 5 مليارات لتعميرها بينما  "الانقلاب" دفع أضعاف هذا المبلغ لتهجير أهلها واستهداف أبنائها بالقتل والتعذيب والتشريد، وهدم منازلهم، والتعتيم على تلك الجرائم، ويخاطب سكانها قائلا "لكم الله يا أهل سيناء".

لقد قدم القرضاوي صورة لعالم الإسلام الذي يؤمن بحق المسلمين في الحرية والعدل والكرامة واختيار من يحكمهم ، ويكشف دور علماء السلطة وفقهاء الشرطة الذين يساعدون الطغاة على قهر المسلمين وإذلالهم ومصادرة الإسلام نفسه ، وكان للانقلاب العسكري الدموي الغشوم دوره أيضا في فضح هؤلاء الذين ظنوا أن خداعهم للناس باللحى الطويلة والجلابيب القصيرة والتركيز على قضايا هامشية يخدمون الإسلام ، بينما كانوا يعملون لحساب الأجهزة الأمنية ويتحركون بتوجيهاتها الشيطانية لمحاربة الإسلام الذي جاء من لدن حكيم عليم .

الحكم بالإعدام

لقد كلف هذا الموقف المتقدم للشيخ القرضاوي أن تحكم عله إحدى المحاكم الانقلابية بالإعدام مع الرئيس الشرعي ومئات غيرهما من طلاب الحرية ، ولكن هذا الموقف لم يؤثر فيه ، فهو يعلم أنه حكم سياسي أو حكم مسيّس، وليس حكما عادلا . فهو لم يقترف جريمة في حق أحد ، اللهم إلا إذا كانت المطالبة بالحرية جريمة !

ولا عجب أن يكون موقفه راسخا لا يؤثر فيه هذا الحكم ، ولا تلك الحملات المجنونة المتدنية التي طالت شخصه وأسرته وعلمه وتاريخه ، فقد قال منذ زمان في نونيته الشهيرة ، التي سماها ملحمة الابتلاء التي نظمها ذات يوم وهو في معمعة الاعتقال بالسجن الحربي :

تالله ما الدعوات يهزمها الردى                 يوما وفي التاريخ بر يميني

ضع في يدي القيد، ألهب أضلعي             بالسوط ضع عنقي علي السكين

لن تستطيع حصار فكري ساعة               أو نزع إيماني ونور يقيني

فالنور في قلبي وقلبي في يدي                   ربي وربي ناصري ومعيني

سأعيش معتصما بحبل عقيدتي                وأموت مبتسما ليحيا ديني

 تحية للقرضاوي ولجهاده الذي لا يتوقف مع كرّ السنين فهو الثائر الحق الذي يبذل التضحيات مهما عظمت ولا يبالي بالنتائج ، فهي بيد الله في كل الأحوال.

وسوم: العدد 669