الشهيد المهندس مصطفى قصار
وقضى مصطفى..
ترجل الفارس بعد أن أعيا - عشرين شهراً - صهوة الجواد.. وبكت عليه أرض طالما غدا عليها وراح يزرع الخطو ربيعاً أخضر، وشيعته قلوب أمة أعاد إليها مصطفى، وإخوانه ثقتها بذاتها وأملها في غد إسلامي حر كريم.. وغردت حوصلة طير أخضر آلت إليها روح مصطفى..
قضى مصطفى...
ومصطفى رجل صنعه الإسلام، وبطل تخرج في مدرسة (الإخوان) وفرع طابت أصوله فطاب.
لم يكن مصطفى، يوم انتسب إلى الإخوان المسلمين في عام تسعة وستين أكثر من فتى، في قلبه إيمان.. وفي ذهنه ذكاء.. وعلى وجهه حياء كثير.. تعجب لطول صمته فتستثيره ليتكلم فيعطيك القليل من الكلام. وتعاتبه إذ تعلم أن ترتيبه (الثاني) على صفه.. فيبتسم، ويعدك أن يكون الأول، ويفعل...
وتمضي الأيام، ومصطفى يتردد على حلقات الإخوان، ثقفاً.. فطناً.. يتلقى.. ويترقى.. بصمت وحياء.
وتتفحصه الأعين فترى فيه ما شاء الله أن ترى من جوامع خير، ومعالم فضل كانت تبحث عنها في رجال أرادتهم لعهد الكتيبة الخرساء.
ويفرح مصطفى إذ تقرر قيادة جماعته أن يكون من رجال هذه الكتيبة، ويعطي صفقة يده.. وينتقل الفتى، من ميدان التلقي النظري إلى ميدان التدريب العملي، ويتسابق مع إخوانه، عصام، وعبد الله ومحمود ورامز ووليد...
في إثبات صدق فراسة من انتقى واختار.. وفي ميدان التدريب العملي يتحول الفتى إلى رجل.. رجل يملك كل مقومات الرجولة ومعالمها..
ويدوي في سماء الشام صوت محنة مزلزلة، كان المجاهدون الصامتون في جماعة الإخوان المسلمين ينتظرونها بصبر وأناة طوال أربعة أعوام مضت من جهادهم السري بعد أن أعدوا لهذه المحنة ما استطاعوا من قوة.. وكان كثير من الناس عنها غافلين..
وتدور مع المحنة الرؤوس، ويحار الحليم أو يكاد.. ثمة ضربات متلاحقة وخطاطيف تمتد مع ظلام كل ليل لتخطف أبناء الدعوة وقادتها..
ويلتقط مصطفى وإخوانه، من رجال الكتيبة الخرساء أنفاسهم، لقد ذهب مدربهم أمين، ولحق به مربيهم عدنان، وسبقهما من قبل مسؤولهم عبد الله، بعد أن وقعوا أسرى في أيدي الظالمين.
يلتقط الأبطال أنفاسهم ثم يمضون في سبيلهم فهم يعرفون الدرب جيداً.. إن الدم والنار هما سبيل الخلاص الوحيد لهم، ولإخوانهم، ولأمتهم.. فلقد أعدوا أنفسهم لها طويلاً، وطال انتظارهم واشتياقهم لملاقاتها..
وفي ساحة المعركة المكشوفة كان مصطفى جنباً إلى جنب مع إخوانه المجاهدين يقود واحداً من تشكيلاتها المجاهدة.
وفي منتهى الإيمان والرجولة خاضوا المعركة في أحلك ساعاتها وحازوها نصراً مؤزراً.. حين أقنعوا شعبنا المؤمن الصادق الذي كان يرقب وجلاً مذعوراً، أن الطغاة أضعف مما يتصور، وأن أسود الأقبية أرانب في ساحات الرجولة...
وانقضت الجولة الأولى بضربة مسددة في مدرسة المدفعية، كان إخوان مصطفى أبطالها الميامين.. وأعلنت أسماؤهم ونشرت صورهم في صحف الخزي الأصفر، تغري بهم ضعاف النفوس، وتدفع الرشوة، من رئيس مرد عليها، لكل من يدل عليهم مئة ألف ليرة سورية.
ومن بعد، كانت معارك وجولات، وسارع إخوان مصطفى إلى صدق وعد الله وبقي الرجل الذي أصبح بطلاً، والفتى الذي غدا سيداً، ينتظر، مر عليه عسر ويسر... وشدة ورخاء.. ونصر وبلاء وهو هو.. الرجولة واليقين والثبات والإيمان.. وهو هو.. الصمت.. والحياء والورع.. والرجاء..
عشرون شهراً مرت عليه، وهو في الساح كلما سمع هيعة طار إليها.. بيقينٍ بالله.. وثقةٍ بوعده.. وأمل غض طري، وما أكبر آمال الرجال..
كان مصطفى يأمل.. ويترقب بالشوق واللهفة.. بألم المعرفة وحرقة الانتظار أن تضم كلمة الإخوان المسلمين بنيها إليها لتعود الشجرة الطيبة أصلاً ثابتاً وفرعاً في السماء.. كان ينتظر أن يرى صف الإخوان لحمة واحدة سداها الرشيد من جماعات الإسلام ورجالات المسلمين.
وكان ما أمل مصطفى.. وانتهى ليل الترقب، وزفّت إلى مصطفى البشرى ملائكة السماء.. فقد تحقق أمل الشهيد الثاني يوم تحقق الأمل الأول.. ونال مصطفى الشهادة.
وإني لألمحه الآن، قد أمسك بيد أخيه الشهيد عبد العزيز في ربا الجنة يتسامران.
وكأني بمصطفى قد قربه ربه وناجاه: تمن يا عبدي، وتكون الأمنية أن يعود إلى دار المحنة والاغتراب، أن يعود إلى دار الخوف والحزن – وما أظن مصطفى خاف يوماً طاغية أو حزن لمتاع زائل – أن يعود ليصاول الظالمين منافحاً عن دين الله.
ولكن.. لا يا أخي، لقد انقضى ليل التغرب الطويل، وذهبت أيام المحنة، واصطفى الله فيها مصطفى لجنته..
مصطفى، رحمه الله، أسمر أحور.. قصير القامة، ممتلئ الجسم.. دمث هادئ.. وادع، ودود لطيف، بعيد الغور.. دائم البسمة، غزير الدمعة.. كثير المواهب، فهو ميكانيكي وكهربائي وبناء ونجار ودهان وحلاق.
من مواليد سنة (1954) في مدينة حلب، التزم بدعوة الإخوان المسلمين وهو طالب في الأول الثانوي والتحق بمجاهديهم عام (1979) ولبى داعي الجهاد وهو في السنة الأخيرة من كلية الهندسة من جامعة حلب. ونال ما تمنى وأكرمه ربه بالشهادة في 14/1/1981 بعد ملحمة بطولية رائعة مع جنود الكفر والظلام دامت ثلاث ساعات كل سلاح مصطفى فيها الإيمان ومسدس وبضع مئات من الطلقات.. وكانت خسائر الأعداء المجرمين ثلاثين قتيلاً كما روى شهود العيان.
وشمت الطاغوت باستشهاد مصطفى.. وعرض صورته مضرجة بمسك الشهداء على شاشة التلفاز.. ألا أيها الشامت بمصطفى الشهيد كم أعددنا لك من مصطفى.
سلام عليك يا أخي أبا محمود.. وأنت ترتع في جنان الله.. وهنيئاً لك رضوان ربك الكريم وجواره، وإننا نغبطك من كل قلوبنا على لقاء الأحبة.. فكم كان حديث الجنة يتردد على شفتيك، وكم كان اشتياقك لإخوانك الذين سبقوك عظيماً؟ اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، وألحقنا بالصالحين من عبادك..
اللهم آمين.
وسوم: العدد 672