الشهيد بسام أرناؤوط

كان صبح ذلك اليوم يتنفس بسرعة، بل يكاد يلهث، وكانت حناجر النواعير من بحة خفيفة، مجهولة الصدر، تنبث عبر أصدائها المترامية في أرجاء (حماة)، وكانت أمواج (العاصي) تجفل في ذعر مبهم بين آونة وأخرى، والأشجار تلوي أعناقها للتهامس هنيهة في وجل، ثم تعود إلى أماكنها في تمرد قلق، وشموخ حزين.

لم تعد حماة وحدها تعيش في سر كبير، وفي مخاض كبير يولد فيه كل يوم جيش من الأسرار.. لا.. الشام كلها اليوم كذلك.. تودع سراً لتستقبل أسراراً، وتشيع بطلاً لتلد أبطالاً، لكن حماة اليوم في مأتم، مأتم يشبه أن يكون عرساً، بل هو عرس يرتدي ثوب حداد، تزغرد فيه الملائكة، وينتحب فيه البشر، وتبتسم فيه جراح العريس.

ها هي الساعات تمر بطيئة في الغابة، غابة المدافع والدبابات والذئاب، وها هي المدينة الشامخة، تفتح عينيها عبر الغابة الشرسة الصلدة، لتوحد الله، وتستمطر لعناته على الكافرين، ثم تهرول الثواني بعد رَيْث وتردد، تتسلل من بين الفوهات الحديدية الفاغرة، لتشهد المفاجأة، مفاجأة النور والدم، مفاجأة العرس المأساة. وتسمع الشمس دوي الرصاص، فتشق ملاءتها الرمادية لتطل من بين الغيوم فتسأل: أهو هو؟ أجل إنه بسام بسام اليوم ملحمة، ملحمة تغنيها الأجيال.لا يضيره أن قاتله نكرة فليس هذا شاذاً عن ناموس الكون...

وإذا كانت الملاحم لا تسطرها إلا الأمم الحية، فهذا دليل حياة، وبشير خير...

فمن هو:

اسمه بسام أرناؤوط، واسم والده محمود، وهو متوفى. ولد في حماة عام (1955) لكن هل هذه هويته؟ لا. من شاء معرفة هويته، فليبحث عنها في بيت المتنبي:

وإني لمن قومٍ كأن نفوسهم       بها أنف أن تسكن اللحم والعظما

إنه عبد من عباد الله نذر نفسه لله، وصدق ربه، فاختاره إلى جواره شهيداً، ورفع ذكره في الدنيا، فصار بطلاً.

حياته وجهاده:

درس في حماة حتى الصف الحادي عشر، ثم تفجرت في وجه حافظ (أسد) قنبلة الدستور الفاسق عام (1973)، فجرها الإخوان المسلمون، لتنغرس شظاياها في الجبين الخائن، حيث بدأت مطاردة الأحرار وزجهم في السجون، تمهيداً لخيانة تشرينية، تكمل صفقة حزيران (1967). وكان الشهيد البطل بين الملاحقين.. والتهمة الموجهة إليه: فضح الخيانة، ومحاربة الضلال، وحاول نقل دراسته إلى دمشق ليلازم قائده الشهيد مروان حديد – رحمه الله – الذي كان على رأس المطلوبين للاعتقال آنذاك. وهكذا كان التزم بخدمته وتابع معه الجهاد وكثيراً ما تبعه عملاء السلطة وأذنابها ليستدلوا من خلال تحركاته على مكان مروان – رحمه الله – ثم يعودون خائبين.

وفي هذه الظروف كان على البطل أن يختار جبهة واحدة للكفاح، يصب فيها جهده، ويؤازر إخوانه، ويرضي ربه، فتخلى عن الدراسة، ليكرس وقته لأشد الجبهات عتواً وأكثرها خطراً على دينه وأمته.

القائد الجديد:

ويشاء الله أن يقع الشيخ مروان حديد – رحمه الله – بين براثن الزبانية، حيث استاقوه أسيراً ليغدروا به في السجن، فكلل جهاده بحلمه الجميل " الشهادة في سبيل الله" فأعلن الجندي البطل (بسام) ولاءه لقائده عبد الستار الزعيم – رحمه الله – وبايعه على الجهاد. حتى ينتصر دين الله أو ينال الشهادة في سبيل الله.

ويقتل (محمد غرة) جزاء ما اقترفت يداه، وتذيع السلطة المجرمة بياناً تعلن فيه عن مكافأة قدرها /50,000/ ليرة سورية لمن يدل على أحد الإخوان الستة الذين كان منهم الأخ مهدي علواني والأخ فيصل غنام والأخ بسام، رحمهم الله جميعاً. ورد الشعب المؤمن الأبي على بيان الزمرة الآثمة، ببيان من نوع آخر، بيان ألصق على باب السراي، وإلى جانب بيان السلطة، ولكنه لا يعد بآلاف الليرات وإنما يعد بما هو أسمى وأغلى.. يعد بالجنة لمن يقتل عميلاً من عملاء السلطة..

ولا غرو إنها حرب الحق والباطل، لا خيار، إما إلى نار تَلظَّى وإما إلى جنة المأوى، وقامت قيامة الزبانية، ولعلها لن تقعد حتى يُركّسوا في جهنم جميعاً بإذن الله.

وتوالت العمليات، عنيفة جريئة دقيقة.. وكان البطل (بسام) من أبرز فرسان الحلبة في أحياء عدة، وفي محافظات شتى، داخل البلاد. وكثيراً ما عاد إلى قائده عبد الستار حين يوفقه الله في تنفيذ ما أسند إليه، فيقول: "إن الله برأ ساحتي" كناية عن قيامه بالواجب بلا تقصير.

أما أطاريفه مع (القوشجي)، المحافظ الدمية، فما تثير ضحكاً ولا بكاء، بقدر ما تثير السخرية المرة من هذا القزم البائس، ومن تعاليه وتجبره أمام النسوة والصبية.. فقد قام هذا المخلوق الهش بالإساءة إلى والدة الأخ المجاهد، بالكلام البذيء تارة، وبالتهديد والوعيد تارة أخرى. كما قام أذنابه في المدينة باعتقال أخوي الثائر البطل (هشام وغياث) رهينتين، ليسلم نفسه للسلطة، فما أفلحت حملة الضغط هذه بما فيها من سفاهة وجور، بلى، أفلحت في شيء واحد، فقد جعلت القوشجي أُلهية يتندر بها الناس في حفلات السمر، فتهديدات بسام تخترق أذنيه مرة بعد أخرى، تارة بالهاتف، وحيناً بالبريد، وأحياناً يراها في نومه... وهو، مع حراس قصره الأشاوس، يرتعدون فَرَقاً، "ولو وجدوا مغارات أو مدخلاً لولوا إليه، وهم يجمحون".

وعرض زبانية أسد صورة المقاتل الشهم في التلفاز، مع صور عدد من إخوانه، ليحفظها الناس، فيدلوا عليه، وينالوا الجائزة ( 100,000) ليرة سورية فحفظ الناس الصور في قلوبهم وحفظوا صاحبها في بيوتهم، ونظروا إلى جائزة أسد ساخرين: من أين لأسد هذه الآلاف كلها؟

الشرطيان:

برغم فساد أسد، لم يستطع إفساد كل شيء، فقد ظل في البلاد جند مجهولون، يؤدون واجبهم بلا حساب للعواقب، إنهم نكرات في معجم الجاه والسلطان، لكن الوطن وطنهم، قبل أن يكون وطن أسد وثعالبه من الأغراب الذين لا يُعرف لهم أصل من فصل. ومنهم هذان (الشرطيان..): وما أكثر أمثالهما في شعبنا الأبي الغيور. ولنعد إلى بسام.

صباح الأربعاء 18 ربيع الثاني 1400 هـ: 5/3/1980م كان بسام يقود سيارة في شارع (المرابط) بحماة، فاعترضته شرطة السير – وقوامها عنصران – فتوقف، ونزل من السيارة ليسأل عما يريدان. فطلبا منه الأوراق – أوراق السيارة – وأعلماه بأنها محجوزة. فذكرهما بأن من حقهما كتابة المخالفة، وليس لهما أن يحجزا السيارة. وحدثت مشادة، هدداه خلالها بالاعتقال، وهمّا به، فأنذر أحدهما طالباً منه الابتعاد، فأمسك به الآخر من الخلف مطوقاً ذراعيه فأطلق النار من مسدسه إلى الخلف، ليتلقى بعدها طلقات من الشرطي المقابل، تختم حياته، وتنهي ملاحمه وبطولاته.

يا للطلقات الطائشة، هل عرفت أي جسد تخترق..؟ ويا للشرطي المسكين ما أشد حزنه، وما أقسى ندامته حين يقول: (ليتني تركته يقتلني، ولم أقتله) وذلك بعدما علم أن قتيله هو بسام، وأن رصاصاته، إنما قتلت رمزاً من رموز البطولة والتضحية قبل أن تقتل شاباً مخالفاً لقانون السير، بل إنه أخ يقتل أخاه، بلا سابق ثأر أو معرفة بينهما.

أهذا ما يريده أسد وأعوانه.؟ ألا لعنة الله على الظالمين.

ونقل الشرطي المسكين من المحافظة كلها خوفاً من الانتقام.

أما حماة، حماة الباسلة فما تدري ما تصنع، تنتحب على بسام أم تزغرد له؟ ها هي المدارس تعلن إضرابها لتنطلق منها قوافل البنات المحجبات الصيّنات يهتفن بحياة بسام ويستمطرن شآبيب النقمة والموت على الخونة الجبناء.

ذاكرة الزمن:

بسام عند ربه الآن. لقد غادر الأرض وترك دنيا الناس. لكنه ترك بعده الكثير مما يحفظه هذا الجيل، ومما تختزنه ذاكرة الزمن للأجيال القادمة. لقد ترك الرمز الحي المتجدد، رمز البطولة والإباء والتضحية والفداء. وترك رعباً دائماً وهماً مقيماً في قلوب الأقزام الرعاديد، عبيد المال والرجال والشهوات. وترك صورتين مشرقتين.

صورة الشاب الإنسان، وصورة المقاتل المؤمن.

صورة الشاب الإنسان: قامة معتدلة /170/ سم، بنية رشيقة، شعر خرنوبي اللون، يميل إلى الشقرة، وجه حنطي ذو عينين عسليتين واسعتين حادتي النظر، شاربان خفيفان جميلان. حلق لحيته بعد أن أصبحت اللحية دليل اتهام في عهد أسد.

محبوب لدى والدته وإخوته، ويحظى بالثقة والحب والاحترام لدى إخوانه وزملائه وأقرانه، كما يبادلهم الحب والوفاء.

صورة المقاتل المؤمن: عنيف، حاد الذكاء، مع ثقة كبيرة بالنفس. ثقافته الإسلامية جيدة، يكثر من مطالعة الكتب العسكرية ومذكرات القادة العسكريين، والكتب المتعلقة بحرب العصابات، والمتفجرات، اشترك في دورة تدريبية مع إخوانه، كان فيها مثالاً للنشاط والحيوية بشهادة أقرانه جميعاً، رحمه الله، وأسكنه فسيح جنانه.

 "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي، وادخلي جنتي".

صدق الله العظيم

وسوم: العدد 672