تأملات في القران الكريم ح368، سورة الجاثية الشريفة
للسورة الشريفة خصائص وفضائل كثيرة منها ما جاء في كتاب ثواب الاعمال عن الامام الصادق عليه السلام : من قرء سورة الجاثية كان ثوابها أن لا يرى النار أبدا ولا يسمع زفير جهنم ولا شهيقها وهو مع محمد صلى الله عليه وآله .
بسم الله الرحمن الرحيم
حم{1}
تقدم مثلها .
تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ{2}
تستهل الآية الكريمة ( تَنزِيلُ الْكِتَابِ ) , القرآن الكريم , ( مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ ) , في ملكه وملكوته , الغالب امره , ( الْحَكِيمِ ) , في صنعه وتدبيره .
إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ{3}
تقرر الآية الكريمة ( إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) , في خلقهما وتصريفهما , ( لَآيَاتٍ ) , علامات ودلائل على قدرته ووحدانيته جل جلاله , ( لِّلْمُؤْمِنِينَ ) , خصّ المؤمنين لانهم الاكثر انتفاعا بها .
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ{4}
تستمر الآية الكريمة في تقريرها ( وَفِي خَلْقِكُمْ ) , وايضا دلالات وعلامات في خلقكم بدءا من نطفة حتى نهاية المطاف , ( وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ) , وكل ما يدب على الارض , ( آيَاتٌ ) , فأن كل ذلك فيه من الدلالات والعلامات على قدرته ووحدانيته وتدبيره جل جلاله , ( لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) , وصلوا درجة اليقين بالله تعالى والبعث والحساب .
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ{5}
تستمر الآية الكريمة في تقريرها ( وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) , تعاقبهما , ( وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ ) , الغيث , ( فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) , حيث ان الماء السبب الاول لاستمرار الحياة وديمومتها { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } الأنبياء30 , ( وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ) , من حيث الاتجاه والحال , فمرة رياحا حارة ومرة رياحا باردة , ومنها عاصف ومنها خفيف , ومنها ضار ومنها نافع ... الخ , ( آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) , فأن في كل ذلك لدلالات لقوم يعقلون فيؤمنوا , وخصّ العاقلون لانهم الاكثر انتفاعا بها .
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ{6}
تستمر الآية الكريمة مخاطبة الرسول الكريم محمد "ص واله" ( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ) , تلك الآيات المذكورة الدالة على وحدانيته جل وعلا نتلوها عليك بالحق الذي لا تشوبه شائبة , ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ) , ان لم يؤمنوا بحديث الله تعالى فبأي حديث غيره يؤمنون , وذلك لحجية وثبوت كلام الله عز وجل على كل الاحاديث والحجج الاخرى التي مصدرها وساوس الشيطان واهواء الناس وخواطر النفوس .
وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ{7}
تضمنت الآية الكريمة تهديد ( وَيْلٌ ) , كلمة تهديد وعذاب , ( لِّكُلِّ أَفَّاكٍ ) , كذاب , ( أَثِيمٍ ) , كثير الاثم .
يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ{8}
تستمر الآية الكريمة مضيفة ( يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ) , فتلقى بذلك عليه الحجة , ( ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً ) , فيقيم على الكفر مستكبرا عن الايمان , ( كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ) , كأنها لم تطرق مسامعه , ( فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) , البشارة هي الخبر السار المفرح , والبشارة هنا للسخرية به وبحاله "الاصرار على الكفر" .
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ{9}
تستمر الآية الكريمة مبينة ( وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً ) , اذا بلغه شيئا من الآيات وادرك انها من القرآن , ( اتَّخَذَهَا هُزُواً ) , سخر منها او أستهزأ بمعناها , ( أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) , من هذا حاله وكل على من شاكلته وكل من رضي بفعله وشايعه وعاضده فأولئك لهم عذاب بالغ في الذل والاهانة , وهذا في الدنيا , اما في الاخرة :
مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئاً وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{10}
تستمر الآية الكريمة مضيفة ( مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ ) , مقدمون عليها , ( وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئاً ) , لا ينفعهم ولا يدفع عنهم ما كسبوه من المال والاولاد والجاه , ( وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء ) , من الاصنام والرؤساء حيث اعتقدوا بشفاعتهم , ( وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) , لا يحتمل .
هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ{11}
تستمر الآية الكريمة مبينة ( هَذَا هُدًى ) , هذا القرآن هدى من الضلالة , ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ ) , فأن حظهم ومصيرهم , ( عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ) , وهو اشد انواع العذاب المؤلم .
اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{12}
تضيف الآية الكريمة ( اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ) , الله جل جلاله هيأ الاسباب المناسبة لجريان السفن في البحار وذللها لكم بأمره جل وعلا , ( وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ) , طلبا للتجارة او الصيد او استخراج الحلي , ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) , هذه النعم .
وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{13}
تستمر الآية الكريمة مضيفة ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ ) , وذللك كل الموجودات بأن جعلها ذات نفع لكم , ( إِنَّ فِي ذَلِكَ ) , المذكور , ( لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) , لعلامات ودلائل يصيبها ويدركها ويتوصل اليها المتفكرون .
قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ{14}
تخاطب الآية الكريمة النبي الكريم محمد "ص واله" ( قُل ) , لهم يا محمد "ص واله" , ( لِّلَّذِينَ آمَنُوا ) , للمؤمنين , ( يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ ) , يغفروا ويصفحوا عما وقع عليهم من اذى الكفار لهم , وذلك قبل آية الجهاد على بعض الآراء , اما ( أَيَّامَ اللَّهِ ) وقائعه في الكفار والمعاندين , كيوم قوم نوح ويوم قوم عاد ويوم قوم ثمود ويوم قوم لوط , ( لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ ) , ليجزي جل وعلا كلا بما اكتسب .
مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ{15}
تستمر الآية الكريمة مبينة ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ) , العمل الصالح النافع يعود نفعه على صاحبه في الدنيا وفي الاخرة يعود عليه بالثواب والاجر الجزيل , ( وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ) , اما عمل السوء فيسوء صاحبه ويعود عليه بضره وأذاه في الدنيا وبالعذاب الاليم في الاخرة , ( ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) , ثم ان الجميع راجع اليه جل وعلا يوم القيامة , فينال كلا جزاءه العادل .
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ{16}
تؤكد الآية الكريمة محققة ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) , انه جل وعلا أتى بني اسرائيل وخصهم بعدة اشياء :
1- ( الْكِتَابَ ) : التوراة .
2- ( وَالْحُكْمَ ) : يختلف المفسرون فيه فمنهم من يرى :
أ) الحكمة .
ب) الفصل بين الخصومات بالتوراة .
3- ( وَالنُّبُوَّةَ ) : حيث ان اغلب الرسل والانبياء "ع" منهم .
4- ( وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ) : مما احل الله تعالى لهم من اللذائذ , وقيل هي المن والسلوى .
5- ( وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) : عالمي زمانهم .
وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ{17}
تستمر الآية الكريمة مبينة ( وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ ) , وهذا الامر :
1- بيان امور الدين وشرائعه .
2- بشارات بعثة النبي الكريم محمد "ص واله" ونعته ووصفه .
( فَمَا اخْتَلَفُوا ) , في ذلك الامر , ( إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ ) , العلم ببيان الحال , ( بَغْياً بَيْنَهُمْ ) , فبغى بعضهم على بعض حسدا وعداوة , ( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) , فيما اختلفوا فيه , فيؤاخذهم به ويجازيهم عليه .
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ{18}
تستمر الآية الكريمة مخاطبة الرسول الكريم محمد "ص واله" ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ ) , ثم جعلناك يا محمد على طريقة من امر الدين , ( فَاتَّبِعْهَا ) , فأتبع الشريعة , ( وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) , ولا تتبع اهواء الجهال فأنها نابعة من الشهوات متابعة لها , وهم رؤساء قريش حيث قالوا له "ص واله" ( ارجع الى دين ابائك ) .
إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ{19}
تستمر الآية الكريمة مضيفة ( إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً ) , انهم لن ينفعوك او يدفعوا عنك شيئا مما اراده الله تعالى لك او بك , ( وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ) , يقرر النص المبارك ان الكفار يوالي بعضهم بعضا , فلا تتبع اهوائهم فتكون لهم وليا , ( وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ) , وهو جل وعلا متولي المؤمنين , فتولاه , يقول القمي في تفسيره "هذا تأديب لرسول الله صلى الله عليه وآله والمعنى لامته" .
وسوم: العدد 757