تزكية النفوس أولاً
[باختصار، من مقال منشور في مجلة الرائد – العدد 189 – بقلم: د. موفق الحكيم]
إنّ إعداد الأفراد وتربيتهم وتزكية نفوسهم وتوعيتهم هو المطلب الرئيس الذي يجب على قيادات العمل الإسلامي أن تضعه نُصب أعينها، وإن إعداد القاعدة الراسخة الصلبة والمتينة هو الأساس الصحيح لقيام أي بناء سليم. ويجب ألا نستعجل الأمور، وأن نتجنب حرق المراحل، وقد كان لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، حيث بقي ثلاثة عشر عاماً في مكة وهو يكافح من أجل هذا الهدف العظيم بكل صبر وحكمة وتؤدة، وعندما هاجر إلى المدينة لم يكن عدد الصحابة والمهاجرين يتجاوز بضع مئات، ولكنهم استطاعوا في خلال أقل من ربع قرن من الزمان أن يفتحوا العالم من أقصاه إلى أقصاه. يقول الأستاذ عصام العطار: "بناء الإنسان المسلم نفسه لا يتم بطرفة عين، ولا يكون بالأمنيات وأحلام اليقظة، ولكنه يحتاج إلى الباعث القوي والإرادة الصارمة، والجهد المخلص الذي لا يفتر ولا ينقطع، وإلى علم بغايته ومهمته في بلاده وعالمه وعصره، وبصرٍ بمتطلبات الحاضر والمستقبل وحسن تنظيم للوقت والجهد، واستفادة من أفضل ما توصل إليه العلم والفكر من وسائل، وما يعطيه الواقع الراهن من إمكانات، والمثابرة على ذلك كله إلى نهاية الحياة".
أما أن نغيّر الواقع الفاسد ونحن لم نغيّر أنفسنا بعد، ونأمل في أن نقيم دولة الإسلام على الأرض ونحن لم نرسّخ أركانها في النفوس، أن نضع النظريات ونرفع الشعارات ونحن نقتلها بممارساتنا العملية، فإنه خطر من أكبر ما يواجه الإسلام والمسلمين ويُلحِق أفدح الأضرار بهم وبإسلامهم على المدى القريب والبعيد.
لنقف ونتدبر ملياً دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام في سورة البقرة: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلّمهم الكتابَ والحكمةَ ويزكّيهم. إنك أنت العزيز الحكيم). {سورة البقرة: 129}. وبعد عدة آيات في نفس السورة يأتي البيان الإلهي العظيم ليضع الأولويات: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم ويعلّمكم الكتابَ والحكمة ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون). {سورة البقرة: 151}. فهذا يدل على الأهمية الكبرى في تزكية النفوس وتطهيرها وإعدادها، والذي يجب أن يقدَّم على كل شيء آخر. يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في الظلال: " ولكن الله أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم يطهّر أرواحهم من لوثة الشرك، ودنس الجاهلية، ورجس التصورات التي تُثقل الروح الإنساني، ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات فلا ترتكس أرواحهم في الحمأة، ويطهّر مجتمعهم من الرياء والسحت والغش والسلب والنهب، وهي كلها دنس يلوّث الأرواح والمشاعر ويلطخ المجتمع والحياة، ويطهر حياتهم من الظلم والبغي، وينشر العدل النظيف الصريح، ويطهرهم من سائر اللوثات التي تلطخ وجه الجاهلية في كل مكان من حولهم".
إن قلة الاهتمام بإعداد النفوس وتزكيتها وتوعيتها يمكن أن تنجم عنه مشكلات خطيرة وأعباء ثقيلة، تُلحق أفدح الضرر بالحركة التي ينتمي إليها هؤلاء الأفراد، وبالحركات الإسلامية الأخرى، وبسائر المسلمين. ومن هذه الأخطار نذكر على سبيل المثال:
1- أن قلة العلم والوعي والدراية ستخلق للحركة وعلى مدار السنين مشكلات لا تُحصر ولا تنتهي، وخاصة عندما تتضارب مصالح هؤلاء الأفراد وأهواؤهم مع ما تراه الحركة، وغالباً ما ينتهي الأمر بعد شهور أو سنوات من المناقشات العقيمة والجلسات الطويلة إلى الانشقاق والتحزب، وما يسبقه وما يلحقه من تبادل أبشع الاتهامات وأحقر العبارات.
2- أنهم سيُلحقون أفدح الضرر بالطاقات المنتجة المعطاء في هذه الحركة، وخاصة إذا كان لهم قصب السبق والرأي النافذ، وعندما تشعر هذه الطاقات المنتجة أنها تسبح في بحر لا ساحل له من الخلافات السطحية، وأنها تغوص في لجة بحر عميق لا قرار له بحثاً عن الجذور المريضة بقصد إصلاحها أو اقتلاعها، وعندما تشعر أن نتاج عملها بعد سنين هو حصاد الهشيم وقبض الريح، وأن الجهل والغفلة والسطحية وحب الظهور، وعبادة الميكروفونات، قد ملك زمام الأمور أو جُلّها، عندها ستقف، وتتأمل، وتفكّر، وتبحث عن البدائل، وتتحرّى في أي القوافل تكون فيها من الإبل بمنزلة الرواحل.
وسوم: العدد 817