( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )
من المعلوم أن الدين الذي ارتضاه الله عز وجل للعالمين ،هو دين التوحيد الذي يقر له سبحانه وتعالى بالوحدانية إلها وربا لا إله ولا رب سواه . والإقرار له بذلك يجعل المقر مسلما ، وهو ما أمر جل جلاله الرسل والأنبياء بتبليغه لأقوامهم حتى انتهى أمر الرسالات المنزلة عليهم إلى آخر رسالة منزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، والتي جعلها عامة للناس أجمعين إلى غاية قيام الساعة بعدما كانت الرسالات السابقة خاصة بأمم بأعيانها . وليس بين الرسالات السابقة والمتتالية من فرق فيما يتعلق بتوحيد الله عز وجل ، وإنما الفرق في الشرائع التي جاءت فيها ، والتي اقتضتها أحوال مختلف الأمم وظروفها. ولقد خص الله تعالى الرسالة الخاتمة بشريعة اكتمل بها ما لم يكن في شرائع الرسالات السابقة ، وهي شريعة راعت أحوال العالمين إلى غاية نهاية العالم وقيام الساعة بحكم عالميتها وخاتميتها .
وببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم كمل دين الله عز وجل مصداقا لقوله تعالى : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )) ،وهذا خطاب إلهي موجه للعالمين . ومن مقتضيات كمال الإسلام في الرسالة الخاتمة ،وتمام نعمة الله تعالى على الناس بذلك أنه لم يقبل منهم دينا غيره فقال جل شأنه : (( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) ، وقد جاء في كتب التفسير أن أهل الملل السابقة وتحديدا أهل الكتاب، زعموا أنهم أسبق إلى الإسلام من المسلمين الذين نزلت فيهم الرسالة الخاتمة ، فسفه الله تعالى زعمهم، ففرض عبادة الحج ليتبين المسلم حقا من غير المسلم ، فحج المسلمون ، ولم يحج من كانوا يزعمون أنهم السابقون إلى دين الإسلام ، وقد ابتغوا غيره .
ومعلوم أن المقصود بالدين الذي ارتضاه الله تعالى للناس أجمعين هو الشريعة المحمدية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل تفاصيلها . وكل ما عارض أو خالف أو نقض هذه الشريعة كان في حكم ابتغاء غير الإسلام دينا ، وكان من يبتغون ذلك في حكم الخاسرين في الآخرة .
وقد تكون مخالفة الشريعة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق تقديم شرائع سابقة عليها هي قد نسختها في رسالة كمل بها دين الله عز وزجل ، أو تكون عن طريق ابتداع ما لا تقبله هذه الشريعة ، ولا تقره .
وقد يجادل البعض في هذا الأمر ، ويتذرعون بذرائع واهية لجعل بعض الشرائع السابقة مما نسخته شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أو بينت تحريفه مساوية لها ،علما بأن الله عز وجل نسب كمال الدين لهذه الشريعة ، كما أن البعض قد يبررون ما ابتدعوا و ما ألحقوا بشريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم بأنه لا يخرج عن إطارها ، وهو زعم باطل لأنه عليه الصلاة والسلام لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا وقد بلغ عنه كل ما أمر بتبليغه تبليغ كمال وتمام .
ويبرر البعض الآخر ما يبتغونه من شرائع عوضا عن شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأنها لا تعارض شريعته ، وفي ذلك افتراء عليه ، وقد يكون ذلك أيضا تشكيكا في شريعته واتهاما لها خصوصا عند الذين يرون أنه قد جد في واقع الناس اليوم ما لا يدخل تحت شريعة الإسلام ولا تستطيع مسايرته ، الشيء الذي يقتضي تجاوزها إلى شرائع أخرى ، وهذا أمر يتعارض مع قوله تعالى : (( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين )) .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو عدة أسباب منها: أولا الدعوة التي ظهرت مؤخرا وهي دعوة إلى ما يسمى بالديانة الإبراهيمية التي يزعم أصحابها أنها تقريب بين الملل والشرائع السابقة ، وملة وشريعة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي هذه الدعوة الباطلة ما يعارض ما أمر الله عز وجل به من عدم ابتغاء غير الإسلام دينا محذرا منه تحذيرا شديدا يفضي إلى خسارة في الآخرة. ولهذا يتعين على الأمة الإسلامية أن تحذر الحذر الشديد من هذه الدعوة الخطيرة ، وتقع مسؤولية تنبيهها إلى ذلك على العلماء الذين يتعين عليهم ،وهم ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يخشوا أحدا إلا الله عز وجل سيرا على نهجه صلى الله عليه وسلم في التبليغ عنه. ويبقى بعد ذلك على عموم المسلمين تحمل مسؤوليتهم كاملة ، والتزام الدين الذي ارتضاه لهم ربهم سبحانه وتعالى ، وتنكب ابتغاء غيره حذر خسارة الآخرة .
أما السبب الثاني لهذا الحديث ، فهو الدعوة إلى استبدال شريعة الإسلام بما يسمى بالشرائع المدنية ، وهي شرائع وضعية ، وهي دعوة العلمانيين المحسوبين على الإسلام ، وهم يسوقون العلمانية في بلاده نقلا عن العلمانيين في بلادها ، وهذا أمر يجب أن يحذر منه المسلمون أيضا ، وألا ينخدعوا بهذه الدعوة التي تعتمد أساليب ملتوية لخداعهم بأن حياتهم لم تعد بحاجة إلى شريعة الإسلام التي صارت متجاوزة ، وأنها بحاجة إلى شريعة لادينية أو مدنية بديلة عنها من أجل اللحاق بركب الأمم العلمانية المتقدمة ، علما بأن هذه الأخيرة بالرغم من تطورها المادي والتكنولوجي تعاني خرابا روحيا وأخلاقيا لا مجال للتفصيل فيه هنا،خصوصا وأن والواقع يشهد على ذلك ، ومن الغباء جعل خرابها الروحي والأخلاقي تطورا أيضا في مستوى تطورها المادي والتكنولوجي أو وسيلة إلى هذا الأخير ، إذ ليس بالضرورة أن تكون شريعة الإسلام مقترنة بتخلف مادي وتكنولوجي ، و تكون العلمانية مقترنة بالضرورة بتطور مادي وتكنولوجي . وما قيمة تطور مادي وتكنولوجي مع خراب روحي وأخلاقي ؟
أما السبب الثالث لهذا الحديث ، فهو ما تبتدعه بعض الفرق المحسوبة على الإسلام من بدع تمس الإسلام الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصميم ، وهي تبتغي بتلك البدع بديلا عنه ، وليس لديها أدلة من شاهدين عدلين كما يقال ،هما كتاب الله عز وجل ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . وعلى الأمة المسلمة أن تتحرى أمر تلك البدع الضالة ، وتحذر منها أن تخرجها عن الدين الذي ارتضاه لها ربها سبحانه وتعالى ، والتي تخسرها الخسران الأكبر في الآخرة .
أما السبب الرابع لهذا الحديث ،فهو بعض الدعوات التي تشجع على الرغبة عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال الدعوة إلى أمور لا تمت بصلة إلى سنته التي هي شريعته ، ويتعلق الأمر بعادات وتقاليد بالية وخرافية مسيئة إلى دين الله عز وجل بشكل أو بآخر ، وهو ما يجب أن تحذر منه الأمة المسلمة أيضا ، وتتحرى ما تدعو إليه تلك الدعوات ، وتعرف من العادات والتقاليد ما يكون سببا في نقض دينها الذي ارتضاه لها خالقها سبحانه وتعالى.
اللهم إنا نسألك الثبات على الدين الذي ارتضيته لنا ، ونسألك التزام شريعة رسولك عليه الصلاة والسلام ، ونبرأ إليك من كل ما يبعدنا عنها . اللهم احفظ أمة الإسلام مما يراد بها من كيد الكائدين ، واجعل كيدهم في نحورهم . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، واخذل يا مولانا من خذل الإسلام والمسلمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 964