( إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين )
من المعلوم أن الله عز وجل قد وصف كتابه الكريم بعدة أوصاف تعظيما لكلامه جل في علاه ، ومن تلك الأوصاف أنه كريم ، ومجيد ، وعزيز ، ومبارك ، وبشرى ، ورحمة ، وشفاء ، وذكر ، وهدى، ونور ، وموعظة ، وبشير ، ونذير ...وهذه الأوصاف وغيرها مجتمعة، تعبر عن عظمته ، وهي ترد غالبا مقترنة بذكر المستهدفين به من المؤمنين خصوصا والعالمين عموما .
ومن الآيات التي ورد فيها استهدافه للعالمين قوله سبحانه وتعالى : (( إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين )) ، وقد وردت هذه الآية مباشرة عقب قسم عظيم من رب العالمين نفي بعده ما كان يرمي به الكافرون رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنون وهو يعرض عليهم القرآن الكريم ، كما نفي عن هذا الأخير أن يكون قول الشيطان الرجيم ، وأنه ذكر للعالمين إلى يوم الدين الغاية منه توجيههم إلى الاستقامة على صراطته المستقيم .
والذكر اسم جامع دال على معاني الاستقامة المطلوبة من العالمين حيث ينتفعون بما فيه من توجيهات إلهية تصحح عقيدتهم ، وتصلح أعمالهم ، وتهذب أخلاقهم ، وآدابهم ، وتصون حقوقهم ، وتوجه معاملاتهم ... والاستقامة هي صلاح الباطن عقديا ، وصلاح الظاهر أعمالا وأقوالا ، وهي استقامة جعلها الله تعالى في متناول العالمين أجمعين لمن شاء ذلك لئلا تكون لهم حجة عليه سبحانه وتعالى ، ولا يكون لهم عذر يتذرعون به ، وفي هذا إبطال للقائلين بالجبرية .
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد مكّن العالمين من مشيئة الاستقامة ، فإنه جعلها رهينة بمشيئته ، وبناء على هذا فليعلم كل من استقام أنه لم يفعل ذلك وفق مشيئته فحسب بل وراء ذلك مشيئة الله تعالى ، وعليه أن يحمده ويشكره على ذلك بكرة وأصيلا ، وفي استقامته دليل على أنه سبحانه وتعالى قد أنعم عليه بها وارتضاها له . ولقد جاء في كتب التفسير أن أبا جهل زعم أنه لو شاء لاستقام ، وهو يريد بذلك نفي أو تعطيل مشيئة الله عز وجل ، فبكته سبحانه وتعالى ، وكل من قال قولته إلى يوم القيامة يواجه بقوله الله تعالى : (( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين )) .
وقول الله تعالى : (( إن هو إلا ذكر للعالمين )) يدل على أن العالمين إلى يوم الدين على اختلاف أجناسهم، ألسنتهم، وألوانهم ،وأصقاعهم، وأزمنتهم يلزمهم جميعا هذا الذكر المنزل من عند الله عز وجل ، وقد ضمنه أسباب استقامتهم بما يمكنهم من سعادة الدارين ، ولا يرفض الاستقامة على هديه إلا الأشقياء . ومن الغفلة أن يظن كثير من البشر أن هذا الذكر لا يعنيهم ، وأنه شأن غيرهم ممن يؤمنون به وهؤلاء لا يكتفي بعضهم بالانصراف عنه، بل يحاربونه بشتى الطرق والوسائل محاولين بذلك صرف غيرهم عنه ابتغاء صدهم عن الاستقامة ، وقد ذكر الله تعالى هؤلاء في قوله : (( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون )) ، فهؤلاء لم يكتفوا بصد غيرهم عنه بل أمروهم باللغو فيه أي بالميل عنه، واللغط بباطل القول كي يعلو على ما جاء فيه من حق ، ابتغاء الغلبة . ولقد كان هذا حال الكافرين في كل زمان ، وسيبقى كذلك إلى أن تقوم الساعة ، كما أن حال المؤمنين مع القرآن الكريم سيبقى هو الإقبال عليه منه يقتبسون استقامتهم .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو استهداف كتاب الله تعالى في بعض بلاد الغرب بالتدنيس تمزيقا أو إحراقا ... ، وقد دأب بعضهم على ذلك ، الشيء الذي أثار حفيظة ، وغضب واستنكار المسلمين في كل أصقاع المعمور . ومع أن هذا السلوك المشين والأرعن لا يمكن أن ينال من كتاب الله العزيز وقد تعهد سبحانه وتعالى بحفظه حفظا يمنعه من كل ما يراد به من كيد ما ظهر منه وما بطن ، فإن المطلوب من المسلمين أن يكون ردهم على من يستهدفون كتابهم الكريم بالاستقامة على هديه كما أمروا بذلك .
وليس من نصرة كتاب الله تعالى أن تكون مجرد تعبير عن عواطف جياشة دون أن تكون نصرة بالإقبال عليه كما أمر الله تعالى بذلك تلاوة بقوله : (( فاقرءوا ما تيسر من القرآن )) ، وتدبرا بقوله : (( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقوالها )) ، وعملا به بقوله : (( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )) ، فبذلك يكون الرد على كل من يستهدفه ممن يريدون إطفاء نوره وهم من قال عنهم الله تعالى : (( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون )) .
ولا يجدر بالمؤمنين أن تكون نصرتهم لكتاب الله تعالى مجرد انفعالات عاطفية وأحوالهم مخالفة لتعاليمه ، فيسجل عليهم أعداؤهم بذلك تناقضا بين أقوالهم وأفعالهم ، علما بأن ما يغيظ هؤلاء هو استقامة المؤمنين على هديه ، أما انصرافهم عنه في حياتهم ، فهو في الحقيقة دعم لمن يستهدفونه وتعزيزا لهم ، وذلك ما يريدونه بالفعل .
اللهم إنا نسألك الاستقامة على هدي كتابك الكريم ، ونعوذ بك من التقصير في حقه حفظا وتلاوة ، وتدبرا، وتخلّقا .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1017