إنها السَّكينة
حين يمر الإنسان بمحنة وكرب وضيق، وتبدو له الدنيا قد انسدّت أبوابها... فما أحوجه إلى السَّكينة يُنزلها الله في قلبه، فيزول عنه كل همّ، ويتصل بمالك الحول والقوة، فيشعر بطمأنينة كاملة، ويحسّ بمعيّة الله، وعطاء الله، ورحمة الله.
بمقابل الكافر الجاحد الذي تسوَدّ الحياة في عينيه، ويقع فريسة القنوط والإحباط، ويهرب من واقعه إلى عالم الخمر والمخدرات، أو ينتحر ليهرب من الحياة كلها...
وننظر في حياة سيد المؤمنين صلّى الله عليه وسلّم، لنرى السَّكينة التي يُنزلها الله تعالى في قلبه وفي قلوب أصحابه، في أحلك الظروف، ثمرةً للإيمان الحق الذي عمر تلك القلوب.
لقد أوذي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مكّة، حتى خرج، بأمر الله ووحيه، مهاجراً إلى المدينة، خرج والمشركون يطاردونه ويبذلون المال الوفير لمن يدّلّ عليه. حتى إنهم يصِلون إلى الغار الذي أوى إليه ومعه صاحبه الصدّيق رضي الله عنه، ويكون الهلاك، وفق الموازين البشرية، محققاً، ويبقى قلب النبي الكريم مطمئناً واثقاً وقد نزلت عليه السَّكينة: (... إذ يقول لصاحبه: لا تحزن، إنّ الله معنا. فأنزل الله سكينته عليه، وأيّده بجنودٍ لم تروها). {سورة التوبة: 40}.
وفي يوم الحديبية حين خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم وجمع من أصحابه معتمرين، متشوقين لزيارة مكة أحب أرض الله إلى الله، وأحبها إلى قلوبهم، وللطواف بالبيت الحرام... وأراد سفهاء قريش صدّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، وراحوا يتحرشون بمعسكر المسلمين، حتى أرسل إلى زعمائهم عثمان بن عفان يطمئنهم أن المسلمين إنما جاؤوا معتمرين غير محاربين... واحتُبِس عثمان بمكة وأشيع أنه قُتل، فأخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم البيعة من أصحابه على القتال في سبيل الله... وأنزل الله السَّكينة عليهم فبايعوه في هذا الموقف العصيب، ونالوا رضوان الله: (لقد رضي اللهُ عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلِمَ ما في قلوبهم فأنزل السَّكينة عليهم، وأثابهم فتحاً قريباً). {سورة الفتح: 18}.
استحقوا هذه السَّكينة لأن الله عَلِمَ ما في قلوبهم من الإيمان الراسخ والحب الصادق لله ولرسوله ولدينه.
وفي موقف آخر، وبعد النصر الكبير في فتح مكة، وشعور المؤمنين بقوّتهم وكثرتهم يوم حنين، أراد الله تعالى أن يبيّن لهم أن النصر ليس بالعَدَد والعُدَد، وإنما بالاعتماد على الله وحده.. (... إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغنِ عنكم شيئاً، وضاقت عليكم الأرض بما رحُبت، ثم ولّيتم مدبرين. ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها..). {سورة التوبة: 25 و26}.
إنها السَّكينة التي تَسكُبُ على القلب الطمأنينة والنور، فيحسّ بالعون والمدد، ويتجاوز المصاعب، بل يخوض غمرات الموت غير عابئ بما يلقاه، وغير مكترث بغير رضوان الله.
ومن مواقف أصحابه صلّى الله عليه وسلّم ترى موقف عمير بن الحمام يوم بدر حين دنا المشركون فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض. فقال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟. قال صلّى الله عليه وسلّم: نعم. قال عمير: بخٍ بخٍ [كلمة تدل على تفخيم الأمر]... وقال: والله يا رسول الله [ما قلتها] إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال صلّى الله عليه وسلّم: فإنك من أهلها. فأخرج تمرات فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. فرمى بها ثم قاتلهم حتى قُتل. (باختصار من حديث رواه مسلم).
وموقف سعد بن خثيمة رضي الله عنه: قال ابن حجر: استهم [اقترع] يوم بدر سعد بن خثيمة وأبوه [أيهما يخرج إلى المعركة]، فخرج سهم سعد، فقال له أبوه: يا بني آثرْني اليوم. فقال سعد: يا أبت لو كان غير الجنة فعلت. فخرج سعد إلى بدر فقُتل بها، وقُتل أبوه خثيمة يوم أحد.
وموقف الزبير بن العوام، رضي الله عنه، في اليرموك: يقول ابن كثير: وكان فيمن شَهِدَ اليرموك الزبير بن العوام، وكان من فرسان الناس... فلما واجهوا صفوف الروم أقدم فاخترق صفوف الروم حتى خرج من الجانب الآخر وعاد إلى أصحابه، ثم فعل ذلك مرة ثانية.
وعن أنس بن النضر قال: غبتُ عن أوّل قتال النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر. لئن أشهدني الله لقاءً آخر ليرينّ ما أصنع. فلقي يوم أحد، فهُزم الناس، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء [يعني المسلمين]، وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدّم بسيفه، فلقي سعد بن معاذ فقال: أين يا سعد؟ إني أجد ريح الجنة دون أُحد. فمضى فقُتل، فما عُرف حتى عرفتْه أخته بشامة أو ببنانه، وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم.
وموقف البراء بن مالك (وهو أخو أنس بن مالك)، وكان بطلاً مقداماً. ففي حروب الردة احتمى جيش مسيلمة الكذاب داخل حديقة كبيرة ذات أسوار. فصعد البراء فوق ربوة وصاح: يا معشر المسلمين، احملوني وألقوني عليهم في الحديقة.. ثم اعتلى الجدار وألقى بنفسه داخل الحديقة وفتح الباب واقتحمه جيش أبي بكر، وتلقّى جسد البراء بضعاً وثمانين ضربة!.
وقصة صاحب النقْب: ففي بعض الفتوحات، في العصر الأموي، وكان الجيش بقيادة مَسْلمة بن عبد الملك، واستعصى عليهم فتحُ أحد حصون الروم، حتى تمكّن رجلٌ من إحداث نقب في الحصن، ثم الدخول منه وفتح الباب، حتى تدفق الجيش وقهر الروم... وأراد القائد مسلمة أن يعرف مَن هذا البطل الذي قام بهذا العمل الفدائي.. لكن البطل أبى أن يعرّف بنفسه، يريد أن يحفظ عمله من الرياء.. فكان مسلمة كلما صلى دعا: اللهم احشرني مع صاحب النقب.
والخنساء، تماضر بنت عمرو، التي اشتُهرت برثاء أخيها صخر الذي مات في الجاهلية، وهي نفسها التي حين علمت باستشهاد أبنائها الأربعة يوم القادسية قالت: الحمد لله الذي شرّفني باستشهادهم، وأسأله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
وتستمر أخبار المؤمنين الذين عمر الإيمان قلوبهم فأيقنوا أن الله ربٌّ كريم ودود رحيم حكيم... وأنه مع الصابرين، وأنه يجزي الشاكرين فأنزل الله عليهم السَّكينة فمضَوا في الحياة يقتحمون الصعاب، ويسطّرون آيات البطولة منذ عهد نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم وإلى يومنا هذا، وإلى أن تقوم الساعة. إنه الإيمان، وإنها السَّكينة.
وسوم: العدد 1037