( ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلا من سفه نفسه )

مما يصادف من يقرأ كتاب الله عز وجل، وصفه أنبياءه، ورسله صلواته وسلامه عليهم أجمعين  بأوصاف تنزيه وتشريف ، وتعظيم ...، وهي صفات تكرّم بها سبحانه وتعالى عليهم ، وقد اصطنعهم لنفسه أو صنعوا على عينيه . وإذا ما جمعت كل تلك الصفات ، فإنها تصور مدى ما بلغ الله تعالى برسله من تكريم ، وتنزيه ، وما فيها من حث للبشرعلى ترسم خطاهم والاقتداء بهم ، مع أنه لا أحد يبلغ شأوهم، لأنهم صناعة إلهية ،أريد بها هداية البشرية من أجل استقامتها على الفطرية السوية، وهي دين الله عز وجل أو الحنيفية، مصداقا لقوله تعالى : (( فأقم وجهك للدين حنيفا  فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم )).

وممن جاءت أوصافهم  من الرسل والأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في الرسالة الخاتمة الموجهة للبشر إلى قيام الساعة ، وهي حجة لهم أو عليهم، أوصاف شيخ الأنبياء والرسل الذي اتخذه الله تعالى خليلا مصداقا لقوله تعالى : (( و من أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملّة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا )).  وفي هذه الآية الكريمة، ما يدل على أنه سبحانه وتعالى، قد جعل خليله عليه السلام قدوة للبشرية ، وهو ما يؤكده قوله جل في علاه : ((  قد كانت لكم إسوة حسنة في إبراهيم والذين معه )).

ومعلوم أن الخليل هو الصفي الخالص المحبة ، وهي مرتبة أدركها نبي الله إبراهيم عليه السلام منة من الله تعالى ، وصناعة منه ، وقد كان أهلا لها، لأنه أخلص إسلام وجهه لربه ، وبلغ كمال الإحسان ، وهو الذي أمره ربه بذلك ، فكان له كامل الاستعداد لما فطرعليه من منتهى الطاعة مصداقا لقوله تعالى : (( ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون )).  وفي هذه الآيات الكريمة، بيان واضح لما كانت عليه ملّة نبي الله إبراهيم عليه السلام، التي هي  الحنيفية أو الإسلام . ولقد نفى الله تعالى عن ملّة خليله اليهودية، والنصرانية، فقال جل شأنه : (( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين )) . ولقد جادل الله عز وجل أهل الكتاب ،من يهود ونصارى في شأن ملّة خليله عليه السلام ،حين أرادوا لها غير الوجهة التي اختارها  لها  بقوله : (( يا أهل  الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون )) .  وأيّة حجة أفحم لأهل الكتاب وغيرهم من حجة الله عز وجل ؟ والتي دحضت كل ادعاء كاذب يراد به وصف ملّة خليل الله إبراهيم عليه السلام بغير الوصف الذي جاء في الرسالة الخاتمة المنزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، والموجهة إلى العالمين حتى يحين يوم الدين . وأية حجة  بعد حجة الله تعالى الذي رد على أهل الكتاب لدحض زعمهم الكاذب قائلا : ((  وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفا  وما كان من المشركين )) . وحسما لكل جدال بخصوص ملّة خليل الله إبراهيم عليه السلام قال الله تعالى : (( شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا  والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )).

ولقد ذم الله تعالى كل من يرغب عن ملّة خليله  بقوله : ((  ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلا من سفه نفسه )) أي لا يرغب عنها إلا سفيه  . ومعلوم أن السفه هو نقص عقل، أوحمق ، وجهل ، ، وسفاهة النفس خفتها وطيشها . وهذا وصف يلازم كل من يدعي خلاف ما كانت عليه ملّة إبراهيم ، وهو يرغب عنها ببدائل مما يخترعه أو يبتدعه جهلا، وضلالا ،وافتراء على الله عز وجل.

مناسبة حديث هذه الجمعة اقتضاها قرب مناسبة عيد الأضحى الأبرك ،الذي يرتبط بخليل الله إبراهيم  وبابنه إسماعيل عليهما السلام ، وفي هذا الحديث تذكير للأمة بدلالة حدث المناسبة الذي كان ابتلاء عظيما للخليل، ولابنه عليهما السلام ، وقد وصفه الله تعالى كذلك في قوله : (( وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا له البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين )) . ففي هذه الآيات البيّنات كشف لما ابتلى به الله عز وجل خليله إذ أمره في رؤيا رآها ـ  ورؤى الأنباء حق ووحي ـ بذبح ابنه الذي وهبه له على الكبر لينزع من قلبه كل مودة مهما كانت إلا مودة ربه سبحانه وتعالى ، وقد وجده مطيعا مستسلما لأمره، راضي النفس بذلك على ما كان في ابتلائه من شدة فوق ما تطيقه النفس البشرية التي زيّن لها حب الشهوات من النساء والبنين ،وهي شهوات تسكن القلوب ، وتزاحم  محبتها محبة  الله عز وجل التي يجب أن تكون خالصة له دون سواه ، وقد نجح خليل الله عليه السلام في إخلاص الخلة لله تعالى، فاتخذه لذلك سبحانه وتعالى خليلا.

ويجدر بكل مؤمن أن يكون على ملّة إبراهيم الخليل عليه السلام التي هي الإسلام ،دين الفطرة السوية التي فطر الله تعالى الناس عليها ، وهو الدين الذي جاء به سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والذي لا يقبل من أحد ابتغاء دين سواه ، وهو دين الخليل عليه السلام .

ويجدر بنا كمسلمين ، ونحن نحيي ذكرى الخليل وذكرى الذبيح عليهما السلام أن نستحضر ما ابتلاهما به الله تعالى من إفراغ قلبيهما من حب سواه ، ولو كان ذلك الحب مما يعزعلى النفس ، ومما تتعشقه ، و مما تتعلق به أيما تعلق كتعلق الخليل الشيخ الكبير بابنه الذي وهبه له على الكبر وبعد شيبة ، وأي تعلق هذا الذي كان على الكبر، وبعد طول انتظار؟

 ومعلوم أنه لكل مؤمن ومؤمنة في كل زمان ، وفي كل مكان، ما تتعلق به القلوب من زينة الحياة الدنيا، وشهواتها من أموال وأولاد ... ويزاحم حبها حب الله تعالى ، وهو ما يدعونا في هذه المناسبة العظيمة إلى مراجعة الذوات من أجل تخليص القلوب من حب الشهوات المزاحمة لحب الله تعالى ، فهل نحن فاعلون ؟ أم أننا  إنما نختزل المناسبة في مجرد لحوم تؤكل ، وتكون شهوة أكلها عندنا  هي القصد والغاية من إحياء  هذه الذكرى العظيمة التي هي مناسبة إسلام الوجه لله تعالى على طريقة خليله عليه السلام ، واقتداء برسولنا العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .

ولا بد ههنا من تحذيرالراغبين عن ملّة إبراهيم ، وهي ملّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، من سفه نفوسهم على اختلاف أنواعهم سواء أولئك الذين اتخذوا ما سموه "البيت الإبراهيمي" المزعوم خلافا لما في جاء في الذكر الحكيم الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، أوأولئك الذين يستكبرون عن منسك النحر محتقرين له ، ومستهزين بمن ينسكونه ساخرين منهم  ، فينصرفون إلى الأسفار طلبا للمنتزهات والشواطىء في هذه المناسبة العظيمة ، وقد ران على قلوبهم حب الشهوات ، أو أولئك الذين  لا يعني عندهم هذا النسك سوى فرصة استهلاك للحوم الأضاحي دون تشرب مغزاه ، ودون استحضار تجديد العهد مع الله عز وجل على التزام وملازمة دينه كما أمر بذلك في قوله : (( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) .

اللهم إنا نسألك الثبات على دينك، وعلى ملّة خليلك ، وعلى ملّة مصطفاك عليهما الصلاة والسلام ، نحيا بها ، ونموت عليها . اللهم إنا نعوذ بك من سفه النفوس .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله ، وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 1038