( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون )
من المعلوم أن أعظم ذنب يقترفه الآدمي على الإطلاق ، هو الشرك بخالقه سبحانه وتعالى وقد خلقه ، و كرّمه ، وفضّله على كثير ممن خلق تفضيلا ، وأسبغ عليه من نعمه ظاهرة وباطنة ، وتفضّل عليه بالصفح والعفو إذا أذنب، رحمة منه ،ورأفة، وجودا، وهو عليه قادر ، وفوقه قاهر . وقد جاء في كتاب الله تعالى على لسان لقمان الحكيم ، وهو يعظ ابنه : (( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشك بالله إن الشرك لظلم عظيم )).
ولقد كان الشرك ظلما عظيما، لأن من يقع فيه ينسب لغير الله تعالى ما هو له جل في علاه وحده دون شريك ، وهو بذلك لا ينزّهه ،بل يتجرأ على قدرته وعظمته وسلطانه العظيم .
والله تعالى في كل سور القرآن الكريم، يبرهن لبني آدم بالبراهين، والأدلة، والحجج الدامغة من عالم الشهادة ، والتي تعقلها وتسوعبها عقولهم ، ولا ينكرها إلا معاند أنه لا إله إلا هو ، ولا شريك له في ملكه ، وهو يثبت تفرده بالملك في الحياة وفي الآخرة ،كما جاء في قوله تعالى : (( ما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون )) ، ففي هذه الآية الكريمة ، وبعد إخبار الله تعالى بحال من ينكرون ربوبيته وألوهيته سواء كانوا من الكافرين الجاحدين أو من المشركين الذين يجعلون له أندادا ، وكل هؤلاء لا ينزهونه سبحانه وتعالى التنزيه اللائق بذاته المقدسة و سلطانه وبعظته وجلاله ، ذكرهم بسلطانه في الآخرة بعد زوال الدنيا الفانية ، وأخبرهم بما سيكون عليه حال هذه الأخيرة حيث تصير الأرض والسماوات على غير الهيئة التي كانتا عليها ، ذلك أن الأولى تقبض في قبضة كناية عن تمكن الله عز وجل منها وقدرته عليها ،وهو الذي خلقها أول مرة ، وهو القادر على أن يغير هيئتها كما يشاء تماما كما خلقها أول الأمر كما شاء . ومعلوم أن الشيء المقبوض يكون مُتمكَّنا منه مُستحوَذا عليه ـوهو خاضع، ومستسلم. أما الثانية فتطوي باليمين كناية أيضا عن اقتدار الله تعالى عليها ، وتحويلها من حال إلى حال أو من هيئة إلى أخرى ، ومعلوم أن الطي يحصل للشيء المبسوط أو المنشور، حيث يرد أو يلف بعضه على بعض ، وبذلك تتغير هيئته من انبساط إلى طي .
وذكر الله تعالى قبض الأرض في قبضة ، والقبضة تدل على قوة وقدرة القابض مقابل ضعف المقبوض ، وذكر أيضا قدرته على طي السماء وذلك يدل أيضا على قوة وقدرة الطاوي مقابل ضعف المطوي ، وبهذا يفحم الله تعالى من يجحدون قوته وقدرته في الحياة الدنيا بما فيها من أرضها وسماواتها ، وهم يستعظمونهما عوض تعظيم من خلقهما ، وذلك بذكر قدرته عليهما في الحياة الأخرى بحيث ينهي ما كانت عليه هيئتاهما ، ويصيّرهما هيئتين أخريين ،الشيء الذي يزيد من تأكيد قدرته وقوته وعظمته . ولقد كان حريا بمن يجحدون قوته وقدرته سبحانه وتعالى في الحياة الدنيا التي كتب عليها الزوال أن يتدبروا قدرته وقوته في الآخرة التي كتب عليها البقاء . ومن كان أقدر وأقوى على ما يزول ، فلا مشاحة في قدرته وقوته على ما يبقى ولا يزول. ولا شك أن ذكر قدرة وقوة الله عز وجل في الآخرة بدءا بقبض الأرض وطي السماوات، ثم ما يليهما بعد ذلك من أمور عظيمة ذكرها سبحانه وتعالى في محكم التنزيل ، تنبه كل غافل من غفلته ، وتنذره من نهاية جعلها الله تعالى حتمية للبداية.
مناسبة حديث هذه الجمعة ،هو تذكير المؤمنين بضرورة استحضار قوة وقدرة وعظمة الله عز وجل خصوصا ، وقد جاءنا تنبيه منه عبر كارثة الزلزال الذي ضرب بلادنا ، وكارثة الفيضان الذي ضرب أرض غيرنا في ليبيا . وهذا التذكير منصوص عليه في كتاب الله تعالى في أكثر من موضع ، وفيه تحذير وتخويف من عذابه سبحانه وتعالى في الدنيا، خصوصا وأن الزلازل والفيضانات مما عذّب بها أمما بائدة لما كفروا أو أشركوا به ، وكذبوا رسله مصداقا لقوله تعالى : (( فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا بهم الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )) .
والذي دعا إلى هذا الحديث في هذه الجمعة، أن بعض الناس صدر عنهم ما يوهم غيرهم أن الزلازل والفيضانات مجرد كوارث طبيعية من فعل الطبيعة نفسها دون وجود مسبب لها ، ودون وجود متحكم فيها بدقة متناهية ، فوق دقة كل ما ينسبه هؤلاء للعلم والمعرفة البشريين ، وهما عندهم أقدر وأقوى على تفسير تلك الزلازل والفيضانات بحيث يلغي ذلك التفسير حسب زعمه ما جاء في كتاب الله عز وجل من حديث عنها . وما يقوله هؤلاء، يجعل من يتابعونهم ممن يستخفون بعقولهم، يغيّبون المعية الإلهية الساهرة على الكون بكل ما فيه بعناية ورعاية في منهى الدقة وبمنتهى الحكمة . والذين لا يعترفون بقوة وقدرة الله تعالى وتحكمه في ما يحدث في الأرض من زلازل وفيضانات ، وينسبون ذلك الى الطبيعة وحدها ،فإنهم يجعلونها في حكم الند له تعالى عما يصفون علوا كبيرا .
وشتان بين البحث في أسباب الزلازل والفيضانات دون ذكر مسببها سبحانه وتعالى ، وبين ذكرها مع استحضار مسببها ، ومعلوم أن كتاب الله تعالى كلما ذكر أسباب ما في الطبيعة مما يفسر العلم ، ذكر مسببها جل في علاه .
ومن غباء من يجعلون الطبيعة تتحرك من تلقاء نفسها دون أن تكون حركتها بإذن الله تعالى وقوته وقدرته، أنهم يتهمون المؤمنين بأنهم أغبياء حين يربطون بين حركتها وبين محركها ، لهذا يسوّي بعضهم بين تفسير أصحاب المرجعيات الوثنية القديمة للزلازل والفيضانات ، وبين تفسير أصحاب المرجعية الإسلامية ، بل يزعمون أن التفسير الوثني ، قد انتقل إلى الكتب المنزلة من عند الله عز وجل بما فيها القرآن الكريم الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، ويصفون ما في هذا الأخير من أخبار الزلازل والفيضانات، بأنه محض أساطير منكرين أن تكون الزلازل والفيضانات مما يعذب الله تعالى الظالمي أنفسهم بالخروج عن طاعته .
ولا يتردد المشككون فيما ذكر القرآن الكريم من أمر الزلازل والفيضانات في وصف أهل العلم بكتابه والدعاة إليه بالجهل والغباء، واتهامهم بالحقد على الناس حين يذكرونهم بالأمم التي عذبها الله تعالى بما يحدث في الطبيعة من زلازل وفيضانات وغيرهما ، ويفتري بعضهم الكذب على هؤلاء العلماء والدعاة ، ويتهمونهم بأنهم يشمتون بضحايا الزلزال الذي ضرب أرضنا ،وهذا بهتان ،إذ ليس بالضرورة أن يُحمل التذكير بعقاب الله تعالى لأمم بائدة على أنه شماتة وتشبيه لضحايانا بالأمم الظالمة ،علما بأن كل علمائنا ودعاتنا قد أجمعوا على أنهم شهداء عند الله عز وجل ،لأنهم مؤمنون دون تزكيتهم عليه سبحانه وتعالى ، ولم يقل أحد منهم أن هذا الذي حصل لهم هو عقاب من الله عز وجل، بل حذروا من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم التي عذبها الله تعالى بالخسف أو الغرق أو غيرهما. ومعلوم أن إنكار هذا هو تكذيب صريح وصارخ لما جاء في كتاب الله عز وجل .
اللهم إنا نعوذ بك من أعمال الذين ظلموا أنفسهم فحق عليهم عذابك . ونسألك اللهم أن تصرف عنا ما جعلته عذابا للظالمين . اللهم ارحم ضحايانا ،واجعلهم شهداء عندك . اللهم قد وعظتنا بما حدث ، فاجعلنا من المتعظين ، ولا تجعلنا من الغافلين ، ولا من الجاحدين المعاندين . اللهم إنا نسألك اللطف في قضائك ، ولا نجرؤ على طلب رده ، فأنت سبحانك فعّال لما تريد ، نواصينا بيدك ، وماض فينا حكمك ، اللهم اجعلنا من الصابرين على ما حل بنا، واجعلنا من المحتسبين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1050