( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير )
من كمال إيمان الإنسان المؤمن، أن تحصل لديه قناعة راسخة ، لا تتزعزع، بأن ما يحدث في الكون هو تدبير الله عز وجل السابق في علمه بمقتضى حكمته ، لا يتأخر منه شيء عن موعد وقوعه ولا يتقدم . وهذا أمر يتكرر ذكره في آيات من كتاب الله عز وجل، لترسيخه في عقول وقلوب عباده المؤمنين من أجل أن يكون لديهم أمرا مسلما به . ومن تلك الآيات قوله تعالى : (( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور )) ، ففي هاتين الآيتين إشارة واضحة إلى أن ما يقع في الكون ـ والأرض التي يعيشها على البشر وغيرهم من الكائنات الحية جزء منه ـ كان في علم وتقدير الخالق سبحانه وتعالى قبل البرء أو الخلق . وما يقع في الأرض هو أمران فيهما ما يسر به الإنسان ، وما يسوءه ، وهو ما أشارت إليه الآيتان ، أما ما يصيب الأرض، فهو كل الكوارث على اختلاف أنواعها من زلازل، وبراكين ، وفيضان أو طوفان ، وقحط ، وحرائق ,,, وأما ما يصيب الإنسان فيها، فهي فالأوبئة والأمراض ، والمجاعات ، والفتن ، والحروب ... ،وهذا الذي يصيب الأرض ، ويصيب من على ظهرها، هو مكتوب ومقدر في علم الله تعالى قبل برئهما أو خلقهما ، وهولا يتخلف عن موعد حصوله الذي قرره الله تعالى في وقته المعلوم .
والحكمة من ذكر هذا في كتاب الله عز وجل، هو أن يوطّن الإنسان المؤمن نفسه على أن المصائب نازلة به في نفسه ، وبالأرض التي يعيش فوقها لا محالة ، علما بأن ما يصيب الأرض يصيبه أيضا، لأنه يتأثر بمصابها من كوارث مختلفة وهي حضنه الذي يحتضنه ، ولقد أشار الله تعالى إلى تلك الحكمة في قوله عز من قائل : (( لكيلا تأسوا على فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور )) ، وهذا يعني أن المطلوب من الإنسان المؤمن، ألا يجزع مما يصيب الأرض التي يعيش فوقها من كوارث ، ولا مما يصيبه في نفسه، لأن ذلك كان قدر الله تعالى الذي لا راد له قبل خلق الأرض ، وقبل خلقه. ومعلوم أن جزعه إنما يكون بزوال فرحه ، وهذا يعني أن المصائب والمسرات تتناوبان ، وتتعاقبان كتعاقب الليل والنهار . ولا يقتنع الإنسان المؤمن بهذا التناوب إلا إذا استيقن أنهما كذلك قدرلهما يوم برأ الله تعالى الأرض ومن على ظهرها . و لهذا لا بد أن يضع الإنسان نصب عينيه، وبيقين راسخ لا يتزعزع قيد أنملة أو دون ذلك أنه إذا سره شيء لا محالة من زواله ، وبذلك يكون مصابه . ولهذا نبهه الله تعالى إلى أنه لا يجب عليه أن يحزن في حلول مصاب ،أو يفرح عند حلول النعم . والحزن المنهي عنه هو ذلك الجزع الذي يفقد الإنسان يقينه بالحقيقة التي كشفها له الله تعالى، وهي أن مصابه إنما هو مما قدره الله تعالى عليه قبل خلقه ، كما أن الفرح المنهي عنه إنما هو الفرح القاروني ـ نسبة إلى قارون ـ وهو الذي يكون فيه بطر وخيلاء ، ويغيب معه عن صاحبه أن زوال نعم الله تعالى عليه أمر واقع لا محالة ، وهو سنته سبحانه وتعالى في خلقه . ولقد عقب الله تعالى على هذا الفرح المنهي عنه بقوله : (( والله لا يحب كل مختال فخور )) .
مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تذكير المؤمنين بما أخبر به الله تعالى عند حلول النعم والنقم ، وهما ثنائية من تقديره سبحانه وتعالى ، يتعاقبان وفق إرادته ، خصوصا وقد حل بنا مصاب الزلزال الذي أصاب أرضنا ، وأصاب الإنسان فوقها ، وكان ذلك مقدرا قبل أن يبرأهما الخالق سبحانه وتعالى . ومعلوم أن طائفة من الناس قد جزعت فوق ما هو مطلوب عند حلول هذا المصاب ، وهي بذلك قد غفلت عما نهى الله تعالى عنه ، وطائفة صبرت واحتسبت ، وهي بذلك قد سلمت لله تعالى بما قدر وقضى . وعسى أن يكون الذي حدث بحلول هذا الزلزال خير واعظ لنا كمؤمنين ، نؤمن بالقدر خيره وشره ، وأن يجعلنا نقف عند قوله تعالى : (( لكيلا تأسوا على ما أصابكم ولا تفرحوا بما آتاكم )) ، وقفة تدبر حقيقي لهذا القول الرباني، وأن نستيقن تمام اليقين بأن كل من هو في نعمة ، يجب أن يعلم أنها زائلة لا محالة في يوم من الأيام ، وأن زوالها يكون هو مصابه ، وبهذا اليقين يتجنب الفرح القاروني المنهي عنه . ولا شك أن من يقطع صلته بهذا النوع من الفرح ، تنقطع صلته بالجزع عن المصاب لا محالة .
اللهم إنا نسألك الثبات على الصبرعند المصاب ، ونعوذ بك من الفرح عند العطاء . اللهم رسخ في قلوبنا الإيمان بأن ما قدرته قبل أن تبرأ الأرض وتبرأنا واقع لامحالة ولا مرد له ، وأن تلهمنا ما يرضيك عند العطاء ، وعند المصاب من قول وعمل .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1051