(أحسبتم أن تتركوا ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون)
من المعلوم أن الحقيقة الوجودية التي أخبر بها الخالق سبحانه وتعالى الخلق منذ بدء الخليقة ، وقد أيقنها منهم من أيقنها، وأنكرها منهم من أنكرها ،هي أن الحياة الدنيا إنما هي دار ابتلاء، تليها الآخرة دار الجزاء ، وفيها يجزى كل إنسان بما كسبت يداه في دنياه.
وقد يتصرف كثير من الناس في هذه الدنيا وكأنهم ليسوا في مرحلة ابتلاء يعقبه حساب وجزاء ، يجازون عما عملوا فيها ، وفيهم من هم مستيقنون في قرارات أنفسهم أن أعمالهم تحصى عليهم لحظة بلحظة ، لا يغادر الإحصاء منها كبيرة ، ولا صغيرة ، ومع ذلك لا يستقيمون على صراط ربهم المستقيم إلى أن يحين أوان فراقهم الدنيا ، وهم مثقلو الكواهل بأوزار سيئات كان الكاتبون الكرام يدونونها دون سهو أو نسيان . وهناك من لا يخطر لهم على بال أنهم يبتلون في حياتهم ، وأن المحاسبة تنتظرهم ، وهم مشغولون بلهو الحياة وزينتها، يسرفون في ارتكاب المعاصي ، والانحراف عن صراط الله المستقيم حتى يحين أوان رحيلهم عن الدنيا ، ويستيقنون لحظة الاحتضار ما كانوا عنه غافلين ، وهم يودون لو يمد في أعمارهم لتدارك ما فاتهم ، و هيهات لأن ما فاتهم لا استدراك له.
ولقد نبه الله تعالى في العديد من آيات الذكر الحكيم عباده ضالين، ومهتدين على حد سواء إلى الغفلة عن يقين الابتلاء في الحياة الدنيا ، وما ينتظرهم من حساب بعد رحيلهم عنها . ومن تلك الآيات قوله عز من قائل : (( أحسبتم أن تتركوا ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون )) ، ففي هذه الآية الكريمة من سورة التوبة، يخاطب الله عز وجل عباده المؤمنين ، ويخبرهم أن سنته في الخلق هي ابتلاؤهم بشتى أنواع الابتلاء ، ومنها فريضة الجهاد من أجل إعلاء كلمته ، واستقرار أمرهم ،على ما في هذه الفريضة من مشقة على نفوسهم ، كما أنه حذرهم من اتخاذ أهل الضلال كفارا ومنافقين بطانة أو دخيلة دونه سبحانه وتعالى ،ودون رسوله صلى الله عليه وسلم ، ودون المتقين منهم ، فيثقون فيهم ، ويسرون إليهم بما يفسد عليهم جهادهم ضد الكفر والشرك . وقد جاء في كتب التفسير أن سبب نزول هذه الآية الكريمة، هو ما كان من شيخ المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول يوم هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى غزوة أحد فأصر على صرفه عن منازلة الكفار ، بينما كان المؤمنون الصادقون يرجون أن يخرج به عليه الصلاة والسلام . ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يحفل بابن سلول ، فصلى الجمعة ، وصلى على جنازة أحد الصحابة ، ثم لبس لأمته ، وكان إذا لبسها لا يرجع حتى يقاتل ، فظن المؤمنون أنهم أكرهوه على الخروج ، واعتذروا على ذلك . وبينما كان عليه الصلاة والسلام في طريقه إلى أحد في ألف مقاتل، خذلهم ابن سلول ، وعاد إلى المدينة، ومعه ثلث الجيش ممن غرر بمن كانوا على مثل نفاقه أو ممن كانوا مرتابين ، فنزلت هذه الآية الكريمة وفيها تذكير بابتلاء الجهاد ،و تثبيت للمؤمنين الصادقين .
ولما كان الذكر الحكيم هو رسالة الله عز وجل للعالمين ، فإن العبرة بعموم لفظه ، لا بخصوص مناسبات نزوله ، فإن سبب نزول هذه الآية الكريمة سيتكرر في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة ، وسيحاول أهل النفاق دائما ثني المؤمنين عن فريضة الجهاد تماما كما فعل رأس النفاق ابن سلول مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ، ولهذا نبه الله تعالى كل المؤمنين إلى يوم الدين بأنه ممحص لا محالة صدق إيمانهم عن طريق ابتلائهم بأمرين : بجهاد في سبيله ، وبمنافقين يحاولون صرفهم عن هذه الفريضة التي بها تعلى كلمته ، وتصان بيضة دينه ، ويكون لهم بذلك عزة وكرامة ومهابة .
وبناء على هذا، لا يحسب المؤمنون في أي زمان أو مكان إلى قيام الساعة أنهم يتركون ولمّا يجتازوا الابتلاء بالجهاد في سبيل الله عز وجل ، والابتلاء بمن يفسدون عليهم إيمانهم، ويثنونهم عما أوجب الله تعالى عليهم من المنافقين الذين نهاهم عن اتخاذهم وليجة من دونه سبحانه وتعالى، و من دون رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن دون من صدق إيمانهم ، علما بأن دأب المنافقين أن يؤلبوا عليهم أعداءهم ، ويفشون إليهم أخبارهم وأسرارهم ، و في نفس الوقت يصدونهم عن فريضة الجهاد التي فيها عزهم ونصرهم ، ويحاولون بث الفتنة بينهم لتشتيت صفهم ، وإضعاف شوكتهم بالتهويل من أعدائهم ، والتهوين من شأنهم .
مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تذكير المؤمنين في هذا الظرف العصيب بالذات من سطوة عقيدة وتيار النفاق الذي لا يخلومنه وطن من أوطان المسلمين ، وقد تغلغل فيها بتحريض من بني صهيون الماكرة والخبيثة مخططاتهم، وهم يوظفون ، ويستخدمون هذا التيار الفاسد المفسد من أجل إشاعة الخراب في تلك الأوطان على جميع الأصعدة فيها، وفي مختلف الآفاق والمجالات ، ومن ثم إضعاف المؤمنين لاستباحة بيضتهم، ومقدساتهم، ومقدراتهم، وخيراتهم ، وهم تحت نير الاستعباد .
وها نحن اليوم نرى رأي العين ما يفعله تيار النفاق السلولي في أمة الإسلام، حيث ينبري إلى صد المؤمنين عن فريضة الجهاد من أجل تحرير المسجد الأقصى من دنس الصهاينة ، وإنقاذه من خطر الهدم الذي يتهدده ، ومن أجل تحرير أرض فلسطين بلاد الإسلام، ومسرى ومعراج رسول الله صلى الله عليه وسلم . وها هي السلولية بكل أطيافها تعيب صمود المجاهدين في قطاع غزة ضد غزو المحتل الصهيوني المدعوم أطلسيا بأفتك آلة حربية تبيد الإنسان، وتدمر العمران . وها هم المرابطون في غزة يبادون إبادة جماعية تقتيلا ، وتجويعا ، وتهجيرا ، وآل سلول الجدد يتفرجون عليهم ، ويتسلون بذلك ، ويترقبون أن تأتي عليهم الإبادة الصهيونية الجماعية لأن المجاهدين والمرابطين يفسدون عليهم ولاءهم للصهاينة وتعاملهم المذل والمخزي معهم .
ولهذا، يجب ألا يحسب المؤمنون اليوم أن الله تعالى تاركهم ولمّا ينخرطوا في الجهاد في سبيله من أجل تحرير بيت المقدس و كل فلسطين ، وأن عليهم ألا يتخذوا من دونه ، ومن دون رسوله ، ومن دون المؤمنين المجاهدين وليجة . ويا له من ابتلاء عظيم ابتلي به المؤمنون في هذا الظرف بالذات ، يا لخسارة من خالف أمر الله تعالى ، وانساق وراء تيار السلولية ، وخذل إخوانه المؤمنين المجاهدين الذين أعلنوها حرب طوفان من أجل فك الأقصى من أسره ، وصيانته من الهدم ، علما بأن هذه مسؤولية تقع على كافة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، لا عذر لهم في النهوض بفريضة الجهاد التي أوجبها الله تعالى عليهم ، ولا عذر لهم إن هم اتخذوا نسل آل سلول وليجة من دونه سبحانه وتعالى ، ومن دون رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن دون من صدقوا من المؤمنين المجاهدين والمرابطين .
اللهم إنا نبرأ إليك من اتخاذ وليجة من دونك ،ومن دون رسولك ، ومن دون عبادك المؤمنين المجاهدين . اللهم انصر المجاهدين المرابطين في الأرض التي باركت ما حول مسجدها الأقصى. اللهم أفرغ عليهم صبرا ، وثبت أقدامهم ،وزدهم ثباتا ويقينا بوعدك الناجز،و بفرجك ، وبنصرك القريب . اللهم وسدد رميهم ، وامددهم بمدد قوي من عندك ، واحفظهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحتهم . اللهم أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، وعجل اللهم لهم بنصر تعز به دينك ، وترفع رايته عالية.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله ، وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسوم: العدد 1072