حديث رمضان 1+ 2
حديث رمضان : الحلقة الأولى : (( لعلكم تتقون ))
أول ما يستحضره كل مسلم عند حلول شهر عبادة الصيام، هو قول الله تعالى في محكم تنزيله : (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )) ، ففي هذه الآية الكريمة نداء خاص بأهل الإيمان ، وإخبارهم بأن عبادة الصيام قد فرضت عليهم، كما فرضت على من كان قبلهم ، وهي ركن من أركان الإسلام الخمسة ، وإخبارهم بعد ذلك بالغاية من ورائها، وهي تقوى الله عز وجل .
ولقد تناول أهل العلم قديما وحديثا التقوى بالتعريف ، والشرح ، والتحليل ، فأفاضوا لكنهم انتهوا جميعا إلى أنها حفظ للنفس ووقايتها من سخط وغضب الله تعالى من خلال طاعته فيما أمر به ، وما نهى عنه .
ومعلوم أن التقوى تتحقق بفعلين اثنين هما : الائتمار ، والانتهاء ، ذلك أن المسلم يكون في حالة تقوى ما دام يمر بهاتين الحالتين في حياته ، علما بأنه لا يكون في حال أخرى غيرهنما أو في وضع ما بين مؤتمر ومنته .
وإذا ما تتبعنا كلمة " تقوى " ومشتقاتها في كتاب الله عز وجل ، نجدها تقترن ضرورة بأوامره ونواهيه ، وقد تأتي مسبوقة بالحرف الناسخ " لعل " الذي يفيد التوقع والترجي ، وهو ما يسبق كل مرغوب فيه ،وهذا يعني أن التقوى مما يرغب فيها ، ويرجى تحقيقها . ولقد جعل الله تعالى مقر التقوى القلوب البشرية مصداقا لقوله تعالى : (( ذلك ومن يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب )) ، ففي هذه الآية الكريمة، أضيفت القلوب إلى التقوى ، وهذا يعني أنها حالة نفسية أو وجدانية يستشعرها الإنسان المؤمن ، وهو في إحدى حالتي الائتمار والانتهاء .
وقد ترد كلمة تقوى في كتاب الله عز وجل مرتبطة بأفعال معينة كقوله عز من قائل : (( وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب ))، ففي هذه الآية الكريمة، ربط الله تعالى التقوى بفعل الخير ، وهو تزوّد يتزوّد به المؤمن من أجل آخرته ، ووصف سبحانه وتعالى التقوى بخير الزاد ، ومباشرة بعد ذلك أمر بتقواه ، موجه الخطاب نداءَ إلى أولي الألباب ، وهي صفة غالبا ما تعقب في القرآن الكريم أمرا يقتضي التعقل والتدبر ، وبعد النظر . وهنا في هذه الآية الكريمة إشارة إلى ما يتزود به المؤمن في رحلته من الدنيا دار الزوال إلى الآخرة دار البقاء . وقياسا على التزود المادي في الدنيا أثناء السفر ، يدرك العقلاء من المؤمنين أنهم كما تتوقف حياتهم في الدنيا أثناء سفرهم على زاد فيه طعام وشراب ، فإن سفرهم إلى الآخر يتوقف على زاد قوامه تقوى الله عز وجل ائتمارا بأوامره ، وانتهاء عن نواهيه . وإذا كان خيرالزاد في الدنيا ما كان كافيا خلال السفر ، يصون النفس من الهلاك ، فإن خير الزاد في الآخرة ما كان كافيا لصيانة النفس من سوء المصير .
ومثل هذه الآية قوله تعالى : (( يا بني قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذّكرون )) ، ففي هذه الآية الكريمة امتنان الله عز وجل على بني آدم حيث جعل لهم سترا لسوآتهم في الدنيا بما أنزل عليهم من لباس وريش ، وهو ستر مادي ، وجعل لهم سترا معنويا هو لباس التقوى ، وقد جعله خير لباس لهم . ولما كانت تقوى الله عز وجل لباسا، فإنها تسد مسد اللباس المادي الساتر ، غير أنها لباس معنوي يستر ما يسوء من أخلاق وأعمال. ولقد جعل الله تعالى اللباسين معا آية من آياته ، يستوعبها من يذّكرون من أولي الألباب . .
ويمضي القرآن الكريم على هذه الوتيرة من الجمع بين أعمال وأحوال معلومة للناس ، وبين تقوى الله عز وجل كما هو الشأن في قوله تعالى : (( لن ينال الله لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم )) ، ففي هذه الآية الكريمة ذكر لفعل النحر سواء تعلق الأمر بمناسك الحج أو بالأضاحي في غيره ، وبيّن الله تعالى ما الذي يعنيه هذا الفعل بالنسبة إليه ،ذلك أنه تعبيرعن طاعته أو تقواه ، لأنه أمر من أوامره حين يطاع فيه تتحقق التقوى لفاعله ، والتقوى ههنا تكون بمثابة تثمين لهذا الفعل الذي لا يعدو أن يكون إهراق دماء الذبائح ، وأكل لحومها.
وهكذا نجد التقوى في كتاب الله تعالى، تقترن ببناء المساجد الذي يكون مسبوقا بنية تقوى الله عز وجل، كما هو الشأن في قوله تعالى مخاطبا نبيه، ومن خلاله كل المؤمنين : (( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه)). وهنا نتساءل كم هي المساجد في زماننا هذا التي أسست من أول يوم على تقوى الله عز وجل ، وهو وحده تعالى العليم بها ؟ .
وقد تقترن التقوى بشأن من شؤون الأحوال الشخصية، كما هو الشأن بالنسبة لقوله تعالى : (( وإن طلّقتموهن من قبل أن تمسّوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفو أقرب للتقوى )) ، ففي هذه الآية الكريمة، يحث الله تعالى على العفو ، ويجعله من تقواه ،بعدما فرض للمطلقات قبل الدخول بهن .
وكهذه الآية قوله تعالى أيضا قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون )) ، ففي هذه الآية الكريمة حضّ الله تعالى على الشهادة بالقسط ، والعدل مع وجود الشنآن ، وجعل ذلك من تقواه ، وقد تكرر مرة أخرى الأمر بالتقوى بعد ذكرها تأكيدا للحض عليها لما يتحقق بذلك من قسط وعدل يصون الحقوق التي قد تضيع بسبب تأثير الشنآن في النفوس.
ومثل هذه الآية الكريمة أيضا قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون )) ، ففي هذه الآية الكريمة يحضّ الله تعالى على التناجي بالبر وبالتقوى ، ويكرر الأمر بالقوى أيضا لما يحول بذلك دون التناجي بالإثم والعدوان ،ومعصية الرسول ، وهو ما قد يترتب عنه ما لا تحمد عقابه من فساد المودة بين المؤمنين .
ولقد جعل الله تعالى تقواه منة وعطاء حين يهتدي المهتدون بطاعته ائتمارا وانتهاء مصداقا لقوله تعالى : (( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم )) ، ففي هذه الآية الكريمة المهتدون يزيدهم الله تعالى هدى ، ويبلغهم منة وعطاء التقوى، وهي أعلى درجات طاعتة .
وخلاصة القول أن الله تعالى قد جبل النفس البشرية على فجور أو تقوى ، وصاحبها هو من يزكّيها أو يدسّيها مصداقا لقوله تعالى : (( ونفس وما سوّاها فألهماها فجورها وتقواها قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها )) ، ففي هذه الآية الكريمة ، قابل الله تعالى بين تقوى النفس و بين فجورها ، وهذا يعني أن هذه النفس إنما تكون على حالين لا ثالث لهما: فجور مصيره خيبة أو تقوى مصيرها فلاح .
ولنعد الآن إلى تقوى الله تعالى الحاصلة بعبادة الصيام التي تعبّدنا بها خلال شهر رمضان ، والتي يرجى من ورائها تحصيل تقواه من خلال إمساك عن شهوتي البطن والفرج ، والتحكم فيهما خلال وقت معلوم من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس تحكما لا بد له من إرادة مع توفيق من الله عز وجل وفق قاعدة : (( والذين اهتدوا زادهم الله هدى وآتاهم تقواهم ))، فعلى قدر ضبط المؤمن شهوتيه بعزيمته، يزيد الله تعالى عزيمته قوة ، ويبلغه درجة التقوى من خلال فعل الصوم ، كما يبلغه إياها في كل فعل حسن عنده أو في اعتباره سبحانه وتعالى .
ومعلوم أن الإمساك وحده، لا يبلغ صاحبه درجة أو مرتبة أو لنقل جائزة التقوى ،بل لا بد أن يسلم فعل الإمساك مما قد يفسده فيبطله من خلال الأفعال المنهي عنها شرعا ، وهي كثيرة إلا أننا سنقف عند أخطرها لعموم انسحاب حكمه على أكثرها كما هو شأن ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه " ، وهذا الحديث الشريف هو من جوامع الكلم التي أوتيها عليه الصلاة والسلام ، ذلك أنه عند التأمل نجد الزور، وهو كل شكل من أشكال الباطل له مظهران : مظهر قول ، ومظهر فعل ، وبينهما تلازم أو على حد قول البعض بينهما علاقة جدلية ، وهي علاقة تأثير وتأثر ، ذلك أن باطل القول يدل ضرورة على باطل الفعل ويصح العكس أيضا .
ولو أردنا استعراض ما يقع فيه الناس من زور القول ، وزور الفعل لطال بنا الحديث ، ولكننا سنكتفي ببعض النماذج التي قد تغني عن الإطالة. وأول ما نذكره تنبيه الله تعالى لباطل القول في قوله عز من قائل : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم )) ، ففي هذه الآية الكريمة تقدم أمر الله تعالى للمؤمنين بقواه ثم تلاه مباشرة أمره بالقول السديد ، ولا يكون القول كذلك إلا إذا خلا من باطل أو زور ، وقد جعل الله تعالى جائزة القول السديد صلاح الأعمال ، وهو ما يؤكد تلازم القول والفعل ، فضلا عن جائزة المغفرة ، وهي محو للذنوب والمعاصي التي ينوء بها الإنسان .
ومن نماذج زور القول والعمل به على سبيل المثال لا الحصر، أن يقول الإنسان ما لا يفعل ، فيكذب فعله قوله، ويكون فعله بالضرورة ملموسا ومحسوسا فيفضح كذب قوله ، ولهذا قال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )) ، ففي هذه الآية الكريمة تحذير خطير من مقت الله تعالى بسبب وقوع الناس في تناقض بين ما يقولون ، وما يفعلون ، وهذا هو شر الزور الذي أشار إليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما يفسد عبادة الصيام ، ويجعلها مجرد جوع وعطش ،لا طائل من ورائهما .
وبناء على هذا، فكل قائل قولا مهما كان، يكذبه فعله أوعمله ، فهو مشمول بما نصت عليه الآية الكريمة من مقت الله تعالى، و حذر منه الحديث النبوي الشريف. وبتاء على هذا ، فكل تاجر على سبيل المثال ، يصف تجارته بما ليس فيها من جودة لتباع ، فهو مدع بلسانه ما تكذبه سلعته عند فحصها ، وكم هو عدد التجار عندنا اليوم الذين ينقض حال سلعهم ما يدعونه لها بألسنتهم من جودة وهم كاذبون ؟ وقد يحدث هذا وهم صيام . وكم من عامل أو مستخدم أو موظف يدعي بلسانه أنه أمين يتقن العمل، والخدمة ،والوظيفة ، والنتيجة الملموسة لعمله أو خدمته أو وظيفته تشهد على كذبه ؟ وكم من مسؤول من أعلى الرتب إلى أدناها يدعي الإخلاص في أداء مسؤوليته ، وأعماله تكذبه ؟ وكم من مستأمن على زمن معين كي يؤدي خلاله عمله ، أو خدمته أو مسؤوليته ، فينقص منه بذريعة عبادة الصيام دون أن ينتبه إلى أن ذلك من زور الفعل أو العمل؟ وكم فينا في رمضان من صاخب وسابّ ورافث وهو صائم ؟ وكم من عاص مصر على معصيته ، وكم قاطع رحم ، وكم ظالم .... إلخ ؟
كل هؤلاء وغيرهم ، وكفى بهم نماذج للتمثيل لا للحصر يصومون ، ويسألون الله عز وجل أن يتقبل منهم صيامهم ، وهم على هذه الأحوال من التناقض الحاصل بين ما يدّعون بألسنتهم ، وبين ما يجترحون بأيديهم .
لهذا ، ونحن في أول أيام شهر الصيام ، علينا أن نتدارك خطر الزور أو الباطل أقوالا وأفعالا من أجل ضمان الحصول على جوائز الصيام مغفرة ، ورحمة ، وعتقا من النار ،على أساس ألا يكون هذا حالنا في رمضان فقط ، بل لا بد أن ندوم على ذلك بعده ، ولا نكون كالتي ضربها الله لنا مثلا ، وهي ناقضة غزلها من بعد إبرامه ، وناكثته بعد إحكامه .
اللهم إنا نسألك أن تبصرنا بكل عيب يعيبنا ، وأن تهدينا سبل الرشاد ، وأن توفقنا إلى سواء السبيل ، وتزيدنا هداية ، وتؤتينا تقوانا . اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا ، ولا تحرمنا جوائز هذا الشهر الفضيل .
الحلقة الثانية : (( أياما معدودات ))
قد يتبادر إلى أذهان بعض المؤمنين سؤال : لماذا افترض الله سبحانه وتعالى عبادة الصوم محددة في أيام معدودات ولم يجعلها أياما كثيرات مع في كثرتها من مزيد أجر وثواب ؟ والجواب هو أن الله تعالى قد رفع الحرج في عبادته عن عباده المؤمنين رحمة ولطفا بهم ، لأنه لا طاقة لهم بكثرة أيام هذه العبادة ،وإن أرادوا أو رغبوا في ذلك، والشاهد هو ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلب منه رجل أن يعلمه عملا يعدل الجهاد في سبيل الله، فأجابه عليه السلام : " لا أجده ، فقال : هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخلا مسجدا فتقومَ لا تفتر ، وتصومَ لا تفطر ؟ قال : لا أستطيع ، قال أبو هريرة راوي هذا الحديث : " إن فرس المجاهد يستّن في طوله فيكتب له حسنات " . ففي هذا الحديث الشريف ما يؤكد عجز الإنسان المؤمن عن عبادة الصيام والقيام المرافق لها زمنا طويلا أو مستمرا دون أن يفتر عن القيام ، ودون أن يفطر عن صيام ، وفيه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد لهذا السائل عملا يعدل الجهاد في سبيل الله إلا أن يستطيع القيام بما أمره من دوام الصيام والقيام دون فتور ما دام المجاهد في جهاده ، والله أعلم كم قد يدوم جهاده ،فربما دام سنين عددا والرجل في قيام وصيام متواصلين . وقد أشار أبو هريرة رضي الله عنه إلى كثرة حسنات المجاهد ، ذلك أنه يحصّل منها حتى في الحال التي تكون عليه فرسه مرحة جيئة وذهابا، وهي مربوطة .
ومع أن هذا الحديث الشريف يستشهد به لبيان فضل الجهاد على غيره من الأعمال الصالحة ، فإن له صلة بعبادة الصيام إمساكا وقياما ،والتي حدد الله تعالى وقتها في أيام معدودات مراعاة لطاقة عباده المؤمنين الذين لا يكلفهم إلا ما في وسعهم . ولما كان المؤمن لا يقدر على مواصلتها وقتا طويلا يقضيه المجاهد في جهاده كما جاء في الحديث الشريف ، فإنه يفهم أيضا من ذلك أن عبادة الصيام بقيامها لا يستهان بها، إلا أن الله تعالى قد جعلها عبادة خاصة به أوعبادة له ،بينما جعل الطاعات الأخرى لأصحابها كما جاء في الحديث القدسي : " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فهو لي ، وأنا أجزي به .... " الحديث ، كما أنه خصص لها من الأجر الشيء الكثير، نذكر من ذلك أجر ليلة القدر التي يفوق أجر إحيائها قياما أجر عبادة ألف شهر .وحسب من يصوم ويقوم رمضان إيمانا واحتسابا أن الله عز وجل يغفر له ما تقدم من ذنبه كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " .
وباعتبار الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، لو افترضنا جدلا أن إنسانا ما استطاع المداومة على صيامه وقيامه قدر ما يقضيه من وقت مجاهد بجهاده في سبيل الله ـ وهو قطعا غير ممكن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فإنه يكون حينئذ قد قام بما يعدل الجهاد ، وفي هذه الحالة يكون فعل الجهاد كفعل الصيام والقيام ، لكن الله تعالى رفع من قدر الجهاد، لأنه لولاه لما كانت كلمته هي العليا ، ولما ظهر دينه على الدين كله ، ولما استقام الناس على صراطه المستقيم بما في ذلك صيامهم وقيامهم ، وباقي ما تعبدهم به خالقهم سبحانه وتعالى من عبادات ومعاملات .
وخلاصة القول أنه من رحمة الله عز وجل بعباده المؤمنين، أنه تعبدهم بعبادة الصوم في أيام معدودة ، وما شق عليهم في ذلك، لأنه سبحانه وتعالى أعلم بهم ، و ا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يحاسب عباده إلا بما أقدرهم عليه ، ولا عذر لهم عنده إن قصروا عن القيام بما في وسعهم واستطاعتهم .
ولا يفوتنا أن ننبه إلى الذين تضيع منهم فرصة الأيام المعدودات ، وما ذكرها الله تعالى بعد ذكر افتراض الصوم مباشرة إلا لتنبيه عباده إلى ضرورة حسن استغلالها الاستغلال الأمثل ،فضلا عن تنبيههم إلى تضييعها في الانشغال عما تعبدهم به فيها أو إتيان ما أمرهم به على غير الوجه المطلوب ، الشيء الذي يفسدها ، ويحرمهم نوال أجرها وثوابها، وعلى رأسه التخلص مما تقدم من ذنوبهم تلك التي تكون بينهم و بينه سبحانه وتعالى ، أما التي تكون ما بينهم ، فإنها لا تغفر إلا بالتحلل منها ، وذلك برد المظالم المادية والمعنوية.
ولن تفوتنا الفرصة أيضا أن نذكر بأعمال هي مصاحبة لعبادة الصيام حث عليها الله تعالى ، و رغب فيها رسوله صلى الله عليه وسلم حيث كان يقوم بها ، ومنها الإنفاق في سبيل الله ، وقد يكون هذا الإنفاق من صميم عبادة الجهاد التي أثنى بها الله عز وجل على عباده المجاهدين مصداقا لقوله تعالى : (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم في سبيل الله ... )) الآية .
وإننا ونحن نعيش ظرف جهاد إخواننا المرابطين والمجاهدين في أرض فلسطين ليجب علينا أن نسعى بدورنا لمشاركتهم في هذه الفريضة إن لم يتأت ذلك بالأنفس، فليكن بالأموال ، وبهذا نجمع في هذا الشهر الفضيل بين طاعة الصيام والقيام ، و بين طاعة الجهاد بالمال ، وبهذا نستطيع أن نلحق بدرجة المجاهدين إن شاء الله تعالى مصداقا لقوله عز من قائل : (( فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما )) ، ولنحرص كل الحرص على أن نكون ونحن عن بعد من المجاهدين لا من القاعدين ، وأن نبذل كل ما في الوسع والجهد من أجل المشاركة في هذه الفريضة الدينية التي تعبدنا بها الله عز وجل ،ومن بذل الوسع والجهد أن نبحث جادين عن سبل إيصال الدعم المادي للمجاهدين بأنفسهم ، وأجر الدال عليها هو كأجر الداعم لهم ، وألا نقصر في ذلك بتقديم أعذار لا تبرأ بها ذممنا عند الله عز وجل ، وهو أعلم بنا، والموفق إلى ذلك من وفقه الله تعالى ، وهو ولي التوفيق .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1073