( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص )
مما كتبه الله عز وجل على عباده المؤمنين فريضة القتال في سبيله ، وهو دفع متعدد الأوجه والأساليب من أجل إعلاء كلمته التي بعلوها تستقيم أحوال الناس في الأرض وفق إرادته سبحانه وتعالى التي توخت سعادتهم في الدنيا والآخرة . ومعلوم أن القتال الذي تعبّد به سبحانه وتعالى عباده المؤمنين ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة إلى أسمى الغايات على الإطلاق ، وهي تحقيق إرادته جل في علاه ، والتي بتحققها تسعد البشرية ، وتحيى حياة كريمة في الدنيا ، وتنتقل إلى الآخرة لتسعد سعادة أبدية .
ولقد فرق أهل العلم بين الجهاد وبين القتال ، فاعتبروا الأول أعم من الثاني الذي يدل على المواجهة الجسدية ، بينما الجهاد يكون نفسيا على حد قول بعضهم ، وله أوجه متعددة ،واستشهدوا بآيات الذكر الحكيم التي وردت فيها لفظة جهاد ، ولفظة قتال لبيان الفرق بينهما ، وهو فرق بين عام وخاص .
ومن الآيات التي ورد فيها القتال قوله تعالى في سورة الصف : (( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)) . ولقد ورد في كتب التفسير أن سبب نزول هذه الآية الكريمة، هو أن بعضا ممن كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان فيهم مؤمنون صادقون في إيمانهم ، وفيهم منافقون كلهم سألوا عن أفضل الأعمال عند الله عز وجل كل حسب نيته التي علمها عند الله من أجل القيام بها تقربا إليه عز وجل ، وقد كشف الله تعالى كذب الفئة المنافقة ،وكبر مقته وهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم أو يقولون ما لا يفعلون فقال سبحانه : (( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )) ، وهذا يعني أن بعض من سألوا عن أفضل الأعمال عند الله عز وجل ، حين كتب عليهم القتال وهو أفضلها ، لم يقبلوا عليه كما زعموا ، فكان ذلك مما جعل مقت الله تعالى عليهم يكبر لتناقض قولهم مع فعلهم ، وفي هذا وعيد شديد . ومباشرة بعد آية المقت جاءت آية محبة الله عز وجل لمن سألوا عن أفضل الأعمال ، فلما أخبروا بأنها القتال في سبيل الله، أقبلوا عليه ، فصدّق قولُهم فعلًهم ، وحازوا بذلك محبة ربهم ، كما باء من كذّب قولُهم فعلًهم بمقته .
وعملا بقاعدة العبرة بعموم لفظ كلام الله عز وجل، لا بخصوص أسباب نزوله باعتباره رسالته سبحانه وتعالى إلى العالمين حتى تقوم الساعة ، وهي متضمنة لأحكام شرعه الشامل للعالمين ، فإن المؤمنين إلى قيام الساعة فئتان باعتبار موقفهم من القتال الذي هو من أفضل الأعمال عند الله عز وجل : فئة تعرف وتلزم ، وأخرى تعرف و لا تلزم . ولقد توسع أهل العلم في آية المقت ، وقالوا بأنها تشمل كل الذين تصدر عنهم أقوال لا تترجم إلى أفعال مهما كانت . ولا شك أن المحك الذي يعرض عليه قول كل قوّال، هو فعله الذي يجب أن يكون مطابقا لقوله .
ولما كان التدافع بين البشر المؤمن منهم بالله تعالى المطيع لأمره ، و بين البشر الكافر به و العاصي لأمره أمرا حتميا ، فإنه لا مناص من الصدام أو القتال بين الطرفين إلى قيام الساعة ، لهذا رغّب المولى جل شأنه في القتال من أجل إعلاء كلمته بأن جعل المقاتلين في سبيله من أحبته تعبيرا عن رضاه عنهم ، واشترط في قتالهم أن يكونوا صفا كبنيان مرصوص كناية عن وحدتهم ، و تلاحمهم وانتظامهم، وثباتهم كما جاء في كتب التفسير . ومعلوم أن البنيان على وجه الحقيقة يكون متراصا و متماسكة لبناته ، وعلى نسق معين ، لهذا شبه به الله تعالى عباده المؤمنين المقاتلين في سبيله ، وقد اجتمعوا على ذلك وانسجموا وتماسكوا ، علما بأن طبيعة القتال بين طرفين متقاتلين تقتضي من ضمن ما تقتضيه في بعض الأحوال الاصطفاف ، والتراص، فضلا عن أحوال أخرى كالكر والفر ...وغيرهما . ولا شك أن الذي يبلغ المؤمنين المقاتلين في سبيل الله محبته، هو طاعة ربهم في تماسكهم ماديا ومعنويا دون أن تنال منهم الفرقة أو الشتات أو الاختلاف أو الخلاف فيما بينهم ، لأنه بذلك يحقق القتال في سبيل الله على الوجه الصحيح غاية إعلاء كلمته سبحانه ،وظهور دينه على الدين كله.
مناسبة حديث هذه الجمعة هو ما يفرضه واقع الحال في أرض الإسراء والمعراج وتحديدا في قطاع غزة حيث يدور قتال بين المؤمنين و بين الصهاينة المعتدين . وهذا القتال الذي تشيد به الأمة المسلمة قاطبة في مشارق الأرض ومغاربها ، ينتقده بعض السفهاء، ويعتبرونه من منظورهم القاصر تهورا من المقاتلين الغزّويين ، مع أنه من أفضل الأعمال عند الله عز وجل ،وقولهم هذا يحاكي تماما قول المنافقين زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سجل ذلك الوحي . ومعلوم أن القتال كره كما وصفه الله تعالى ، ولا يكره إلا ما يشق على النفس ، ومع ذلك تعبد به الله تعالى عباده المؤمنين، لأن الغاية من ورائه أنبل وأشرف ، وهل يوجد أنبل وأشرف من أن تكون كلمة الله عز وجل هي العليا ، ويكون دينه هو الظاهر على الدين كله .
ومن أهداف حديث هذه الجمعة ألا تنساق الأمة مع مقولة المنتقدين للقتال الدائر في أرض فلسطين غزة والضفة ، وهو ما يبلغ المقاتلين هناك درجة محبة الله لهم . ومما يخشى على الأمة أن يضلها بأقوالهم أولئك المنتقدون للقتال هناك ، فتسقط في فخهم ويعرضها ذلك لمقت الله تعالى من حيث لا تدري ، ذلك أن عموم الأمة يعبر بالأقوال عن ضرورة تحرير القدس الشريف وأكنافه إعلاء لكلمة الله عز وجل ، وظهورا لدينه ، ولكن حين تنصرف طائفة منها إلى القتال ، وتنصرف أخرى لانتقاد ها فإن ذلك يستهدف رص الصف ويغضب المولى جل وعلا .
وقد يتساءل بعض من تعذرت عنهم المشاركة في القتال إلى جانب المقاتلين ،كيف تبرأ ذمتهم أمام الله تعالى ، ويتجنبون مقته ، والجواب أن الله تعالى لا يحاسب إلا على قدر الطاقة والوسع ، وهو الذي لا يكلف نفسا إلا وسعها . وعلى من تعذر عليه أن يكون مع المقاتلين دعمهم بما يستطيع من طعام وشراب ودواء ... ، فإن لم يتمكن من ذلك مع بذل الوسع ، فعليه على الأقل ألا يكون مع من ينتقدونهم ، لأن في ذلك شماتة بهم ، ودعما لعدوهم ، وهو ما يزيد من مقت الله تعالى على من يتعمد ذلك ، ويصر عليه ، لأنه يدعي دعم قضيتهم ، و ولكنه لا يفعل شيئا يصدق ادعاءه، بل يقيم حجة على نفسه بأن كاذب في ادعائه .
اللهم إنا نعوذ بك من مقتك الذي يلحق من يقول ولا يفعل ، ونعوذ بك أن نكون من الشامتين بإخواننا المقاتلين في سبيلك . اللهم إن تعذر علينا الوقوف صفا معهم ، وقصر جهدنا عن ذلك ، وأنت أعلم بنا ، فإن قلوبنا معهم، وأنت تعلم بما تخفي الصدور ، فلا تجعلنا مع الذين يشمتون بهم ، وأجرنا من مقتك .
اللهم إنا نسألك فرجا قريبا لإخواننا في غزة ، ونصرا تنصر به دينك ، وتعلي به كلمتك . اللهم عجل بإطفاء حرب لا يقدر على إطفائها سواك ، اللهم ثبت المقاتلين في سبيلك ، وسدد رميهم ، وأمدده بمددك ، وأفرغ عليهم صبرا ، وثبت أقدامهم ، واحفظهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحت أرجلهم ، ولا تجعل للصهاينة وأعوانهم عليهم سبيلا .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1073