(( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ))
حديث الجمعة
من المعلوم أن إرادة الله عز وجل قد اقتضت أن تكون بداية إرسال رسالاته إلى البشر من أجل هدايتهم إلى صراطه المستقيم ببعث رسله صلواته وسلامه عليهم أجمعين، ومعهم قلة قليلة من المؤمنين برسالاته في بداية دعوتهم ، مع وجود كثرة كاثرة من الكافرين بها ، ثم يقوي تلك القلة بعد ذلك ، فتكثر بإذنه ، ويقوي شوكتها لمواجهة المنكرين والجاحدين برسالاته ، والمكذبين رسله ، علما بأن كل الرسالات كانت تواجه إصرارا على إنكارها وجحودها من قبل الكثرة التي درجت على الانحراف العقدي كفرا أو شركا ، وذلك هو سر إصرارها على البقاء على نكوبها صراط الله المستقيم ، ورفض الاستقامة بديلا عنه ، بل مواجهة وقتال من يدعون إليه بكل قوة وشراسة .
ولقد كان وعد الله تعالى بنصر الفئة المؤمنة مهما قلّ عددها على الفئة الكافرة على كثرتها وعدا ناجزا في كل الرسالات عبر التاريخ البشري ، وكان هذا الوعد يتحقق إما بانتصار تحققه الفئات المؤمنة في ساحات الوغى ، وهو في كل الأحوال نصر من عند الله عز وجل، أو بعذاب شديد من عنده ،يسلطه على الفئة الكافرة بعد أن يبلغ طغيانها قوته وأوجه .
ولقد بدأت الدعوة الخاتمة التي جاءت بها خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم ككل الرسل السابقين تحتضنها في بداية أمرها فئة قليلة منّ الله تعالى عليها بنعمة الإيمان ، ثم سارت في نفس مسار الفئات المؤمنة السابقة ، وشملها وعد الله عز وجل الذي وعد به كل من آمن به، ونافح عن دعوته ، ورفع راية دينه ، وأعلى كلمته .
ولقد صورت لنا الرسالة الخاتمة المواجهة بين القلة المؤمنة، وبين الكثرة الكافرة المشركة في مهد دعوة الإسلام بمكة المكرمة حيث قال الله تعالى : (( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين )) . ولقد ذكرت كتب التفسير أن هذه الآيات الكريمة نزلت إثر ما وقع للمؤمنين في غزوة أحد التي كانت بدايتها انتصارا لهم على أعدائهم، لكن الرماة منهم خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعاد الأعداء الكرة عليهم، فوقع فيهم قتل كثير دون أن تنتهي هذه الغزوة بهزيمتهم على الأرجح، كما كانت هزيمة الكفار في غزوة بدر .
وقد امتن الله تعالى عليهم يومئذ بنعمة النصر على أعدائهم في غزوة بدرالكبرى ، وذكرهم بنصره الذي كتبه لهم، وهم يومئذ قلة و بهم ذلة ، ولم يكونوا على ما كانوا عليه من كثرة وقوة يوم أحد، وبيّن لهم سبب حصول نصرهم ، وهو إمدادهم أولا الأمر بألف من الملائكة ، وهو عدد عدل عدد الكفار يومئذ ، ومع ذلك لم تطمئن قلوبهم ، فطمأنهم سبحانه بمزيد من الإنزال الملائكي، كان ثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ، ثم ردفهم خمسة آلاف مسومين، وذلك من أجل تثبيت قلوبهم ، وتشجيعهم على المواجهة، والصلابة فيها . ولقد كان ذلك النصر من عند الله عز وجل وليس مرده إلى قتال القلة المؤمنة ، ولا مرده إلى الإنزال الملائكي ، وإن كان لهذا الإنزال دوره في صنع النصربإذن الله تعالى ، لهذا قال الله تعالى : (( وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون)).
لقد كان مرد النصر يوم بدر إلى عزة الله عز وجل وحكمته ، لأنه لا غالب إلا هو سبحانه وتعالى . ومن حكمته أن قطع طرفا من الكافرين وهم صناديد قريش لما علم فيه من شدة عداء لدينه ، وكبت آخرين أي أصابهم بالغم والكمد لما لحق بهم من هزيمة نكراء ، وتاب على غيرهم ، وعذب آخرين . ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرجو أن يقضي الله عليهم جميعا قضاء مبرما، ويستاصل شافتهم ، لهذا خاطبه ربه سبحانه وتعالى بقوله : (( ليس لك من الأمر شيء )) ، وبيّن له حكمته فيما قضى .
وتجدر الإشارة إلى أن الله تعالى طلب من المؤمنين في بدر و طلب منهم ضمنيا في أحد التزام التقوى و شكر نعمة النصر الذي خصهم به في بدر ، وهو نصر سيبقى موعودا في كل نزال مع أعدائهم الكافرين إذا ما اتقوا وشكروا ، كما حثهم على الصبر والثبات والصلابة عند المواجهة والنزال .
مناسبة حديث هذه الجمعة ، أننا على موعد مع ذكرى غزوة بدر الكبرى التي وقعت في السابع عشر من مثل هذا الشهرالفضيل ، وقد تزامنت هذه الذكرى مع حرب دائرة اليوم في أرض الإسراء والمعراج بين حراس المسجد الأقصى من المؤمنين وأعدائهم الصهاينة المحتلين ، وهذا التزامن أدعى إلى تذكير هؤلاء المؤمنين بنصر الله تعالى الذي لا يمكن أن يتخلف أبدا، طالما تحققت الشروط التي اشترطها سبحانه وتعالى وهي التقوى ، والشكر ،والصبر .
ولم يذكر الله تعالى غزوة بدر في كتابه الكريم من أجل التأريخ لها فقط ،بل جعلها بشارة لكل المؤمنين في كل عصر ومصر إلى قيام الساعة ، لأن العبرة بما جاء في محكم تنزيله بعموم لفظه، لا بخصوص أسباب نزوله ، ولأن هذا الذكر هو رسالة للعالمين إلى يوم الدين ، وليس مجرد إخبار بما مضى وانتهى، ولا يتكرر عبر الزمن .
إن قلة أهل الإيمان أو ذلتهم متى ما حصلت في التاريخ إلى قيام الساعة، لن تحرمهم من نعمة النصر على أعدائهم الكفار والمشركين مهما كان عددهم ، ومهما كانت عدتهم إذا ما التزموا تقوى الله عز وجل ، وشكروها ، وشكرها هو إعلاء كلمته جهادا ،وصبروا في المواجهة والنزال مع إعداد ما يستطيعونه مما أمرهم به ربهم من قوة وعتاد . والله تعالى المنزل للملائكة في بدر قادر سبحانه على إنزالهم للقتال جنبا إلى جنب مع المؤمنين في كل وقت وحين ، كما كان الحال يوم بدر . وهذا مما يجب على المؤمنين الإيمان الراسخ به ، رسوخا لا يتزعزع ، علما ويقينا بأن الله تعالى فعال لما يريد، وهو العزيز الحكيم الذي يعز دينه كيفما شاء ، وله في ذلك حكمته البالغة .
ولا بد أن يستيقن أهلنا في أرض الإسراء والمعراج بأن نصر الله الموعود حاصل لهم لا محالة ، وهو نصر من عنده ، لا يعزى إلى غيره إذا ما التزموا أمره بالتقوى ، والشكر ، والصبر ، واعتصموا به دون غيره مما يظنون حصول النصر من عنده أو بسببه .
والمؤلم في نزال المجاهدين اليوم لأعدائهم الصهاينة في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل حماية المسجد الأقصى ، وتطهيره من الدنس الصهيوني ، أن الأمة قد خذلتهم ، وهي كثيرة ، لكن حالها كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شبّه كثرتها بغثاء السيل .
ومعلوم أنه ما جاء خذلانها للمجاهدين في أكناف بيت المقدس إلا لضعف إيمانها ، وركونها الشديد إلى الدنيا وعرضها الزائل ، وقد أغرها بذلك ما زينه لها أعداؤها من أشكال وأصناف التهافت عليها ،كتهافت الفراش على النار ، وهي اليوم غافلة كل الغفلة عما افترضه الله تعالى عليها من فريضة الجهاد في سبيله بالأنفس والأموال . ولقد فقدت الثقة بنصر الله تعالى الموعود في محكم كتابه ، وصارت ترى أن مواجهة أعداء دينها من الصهاينة، ومن يوالونهم من الصليبيين أمر مستحيل ، لهذا ارتفعت بعض الأصوات فيها تحاول أن تفلّ من عضد المرابطين المجاهدين في فلسطين بحجة أنهم لا قبل لهم بجيش عدوهم ، ولا بترسانته الحربية ، و هم ستكثرون على الله عز وجل أن ينزل بهم الهزيمة كما هزم كفار قريش وغيرهم في غزوات متعددة خاضها المؤمنون بتقوى الله ،وبالشكر ، وبالصبر والثبات على دينه ،وعلى المواجهة مع أعدائهم .
وعلى الأمة المسلمة أن تفكر بجد في التخلص من غثائيتها ، ولا يمكن أن يتأتى لها ذلك إلا بترك الوهن الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت ، وعليها أن تراجع نفسها وقد بدا لها من كيد أعدائها ما يجب أن يوقظها من سباتها بالرغم من وعد الله الناجز ، ومن نبوءة رسوله صلى الله عليه وسلم الصادقة . ولعلها قد أشرفت على المائة التي يبعث فيها الله تعالى من يجدد لها أمر دينها، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق ، وما ضاق أمر إلا فرجه الله عز وجل .
اللهم ردّ بهذه الأمة المسلمة ردا جميلا قريبا عاجلا إلى صراطك المستقيم ، وألهمها اللهم التقوى الذي يرفع من منسوب إيمانها إلى الحد الذي يجعلها تنتفض من غثائيتها ، وتعود إلى نهج سلفها الصالح في الجهاد في سبيلك ، والدفاع عن دينك ، وهو اليوم مهدد في كل شبر من هذا المعمور. اللهم عجل لها بمن يجدد لها أمرا دينها تحقيقا لنبوة رسولك عليه الصلاة والسلام. اللهم انصر المرابطين في أرض الإسراء والمعراج، وقد خذلتهم الأمة بسبب غثائيتها ووهنها ، اللهم لا ناصر لهم إلا أنت ، ولا نصر إلا من عندك ، ولا غالب إلا أنت سبحانك . اللهم عجل لهم بفرج قريب عاجل من عندك ، فقد ضاقت بضعفائهم صبية، ونساء، وعجزة، ومرضى الأرض بما رحبت ، و قد أعمل فيهم عدوهم وعدوك القتل الوحشي بشكل رهيب . اللهم تداركهم بلطفك ، وأمددهم بمددك ، وأفرغ عليهم من صبرك ، و ثبّت أقدامهم ، وسدد رميهم إذا رموا، واحفظهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحتهم ، ولا تجعل اللهم لعدوهم عليهم سبيلا .
اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا ، ونبرأ إليك من ذنوبنا ، و نعوذ بك من سيئات أعمالنا ، ونعوذ بك أن نحسب مع الخاذلين لعبادك المجاهدين في سبيلك من أجل تطهير ، وتحرير مسجدك الأقصى الذي باركت ما حوله ، وقد حال بيننا وبين نصرتهم ما أنت أعلم به منا وإليك المشتكى والمفزع. اللهم اخذل كل من قدرعلى نصرتهم ولم ينصرهم .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1074