( وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين )
حديث الجمعة :
لقد شرع الله تعالى للمسلمين عبادة النحر سواء منهم من حجوا إلى بيته الحرام أو من لم يحجوا إليه ، واقترنت هذه العبادة بأعظم حدث في تاريخ البشرية، حيث أمر سبحانه وتعالى خليله إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه إسماعيل عليه السلام الذي وهبه إياه على الكبر، وطول انتظار. ولقد جاء أمر الله تعالى إلى خليله بهذا الذبح في شكل رؤيا أراها إياها في منامه ، علما بأن رؤى المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هي من صميم وحي الله تعالى الذي يوحي به إليهم ،وهم نيام تماما كما يوحي إليهم وهم أيقاظ . ولست رؤى المرسلين كرؤى عامة الناس ، وإن كانت بعض رؤى عامة الناس مما يتحقق في الواقع أيضا ،كما كان شأن رؤيتي الفتيين اللذين دخلا السجن مع نبي الله يوسف عليه السلام ، وكما كانت رؤيا الملك أيضا ،وقد كان عبورتلك الرؤى أو تأويلها مما علمه الله تعالى لنبيه الكريم عليه السلام ، وخصه به .
ولقد كانت رؤيا خليل الله إبراهيم عليه السلام خلاف رؤى البشر العاديين التي تحتاج إلى عبور أو تأويل، لأن الأمر تعلق بوحي أوحاه له الله تعالى إذ رآى في منامه أنه يذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام ذبحا حقيقيا ، وأيقن أن ذلك كان أمرا له من الله تعالى ، فقرر أن يحقق ذلك في اليقظة بعدما رآه رأي العين في المنام . ولقد أقدم الخليل على مباشرة نحر ابنه بإيمان راسخ لا تردد فيه ، وبعزم لا يلين ، ولا يثنه عنه شيء مما قد يثني والدا محبا لولده الحب الشديد عن التضحية به بعدما وهبه الله تعالى إياه على الكبر، وكان ذلك مما زاد من محبته الشديدة له ، ومن شدة التعلق به ، وقد شب، وبلغ السعي معه . ولما علم الله تعالى حسن تصديق الخليل لما رآه في منامه ، وهو موقن بأنه أمر منه سبحانه وتعالى قد أوحي إليه به ، وكان ذلك بلاء عظيما لا يعده بلاء ، كافأه جل وعلا بافتداء ولده الغلام الحليم الذي لم يكن عزمه أقل من عزم أبيه حين أخبره بأمر الله تعالى ، فوجده صابرا محتسبا، لم يتردد لحظة بل أمر والده أن يمضي في إنجاز أمر الله تعالى . ولما حانت لحظة الإنجاز، تدارك الله تعالى الولد النبي الرسول المطيع أباه ، ففداه بذبح عظيم ، وسن للمسلمين إحياء هذه السنة مع بعثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين، تعظيما للحدث العظيم ، وجعل ظرفها مقترنا بظرف منسك النحر الذي هو من مناسك عبادة حج بيت الله الحرام .
ولقد قص الله تعالى قصة هذا البلاء العظيم في سياق حديثه عن خليله إبراهيم عليه السلام ، وما كان بينه وبين القوم الذين بعث فيهم، وقد أردوا إحراقه لما سفه أصنامهم وحطمها في قوله عز من قائل : (( فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بنيّ إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتلّه للجبين وناديناه أن إبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم )) ، فإذا ما تأملنا هذه الآيات الكريمة ، فستستوقفنا أولا بشارة الله تعالى لخليله عليه السلام ، وكانت بشارة عظمى حيث وهبه على كبره ولدا ووصفه بالحليم ، وهو ما يدل على نبوته هو الآخر أيضا ، كما وصف الله تعالى والده بنفس الصفة في قوله تعالى: (( إن إبراهيم لحليم أواه منيب )) ، وصفة الحلم ، وهي من صفات المرسلين ، تقتضيها طبيعة مهمة الرسالة التي لا بد لمن يضطلعون بها من قوة الاحتمال والصبر على أذى من يبعثون فيهم ، وهي من أفضل المحاسن والخصال . وبلوغ إسماعيل السعي مع والده عليهما السلام مما زاد محبته له ،وتعلق الشديد به بعد تعلقه به لما رزقه على الكبر، وهذا ما جعل الأمر الإلهي لخليله بذبحه بلاء عظيما له ولابنه على حد سواء ، فأما الأب فقد ابتلي في ابن عزيزعلى قلبه ، وأما الابن فقد ابتلي في نفسه ، وهي أحب ما يتعلق به كل إنسان . والغريب في أمر الخليل عليه السلام أنه مع عزمه الأكيد إنجاز ما أمره به الله تعالى دون تردد على ما فيه من شدة الابتلاء ، استشار ابنه لتأكده من أنه على عزم مثل عزمه الأكيد ، وقد عبر له الابن البار المطيع عن صبره على ما في ذلك من مشقة على النفس . ومعلوم أن صفة الصبر مما أثنى به الله تعالى على المرسلين ،كما هو حال بالنسبة لنبي الله أيوب عليه السلام الذي قال فيه الله تعالى : (( إنا وجدناه صابرا نعم العبد )).
ولقد قابل الله تعالى طاعة الأب والابن النبيين الكريمين عليهما السلام بجزاء سخي يعدل حسن طاعتهما له على ما كان في هذه الطاعة من مشقة عظمى، علما بأن الله تعالى يجازي على الإحسان بالأحسن ، وكانت المكافأة أو الجائزة في الدنيا ذكرا حسنا بين الورى ، وفي الآخرة مقاما محمودا . ومما يدخل في تلك المكافأة أيضا فداء النبي الولد المطيع بذبح عظيم بقي سنة في المسلمين إلى يوم الدين تشريفا وتعظيما للنبي المفدى عليه وعلى والده الخليل أفضل الصلوات وأزكى السلام.
مناسبة حديث هذه الجمعة ، فرضته المناسبة العظيمة التي حلت بالمسلمين ، ولما كانت المناسبة شرطا كما يقال ، فإنه لا بد من استفادة المسلمين منها على الوجه الصحيح الذي أراده الله تعالى من وراء ذكرها في محكم التنزيل الذي جعل العبرة بعموم لفظه ، وليس بخصوص أسباب نزوله . وإن الله تعالى جعل للمسلمين خليله في البلاء العظيم الذي ابتلاه به هو وابنه إسماعيل عليهما السلام قدوتين وإسوتين ، ذلك أن كل مسلم في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة، قد يبتلى بابتلاء على قدر وسعه وطاقته بفقدان شيء مما تتعلق به نفسه التعلق الشديد من مال أو بنين أو غير ذلك من زينة الحياة الدنيا ، وذلك من أجل سبر قوة وشدة صبره ، ومن أجل التأكد من أنه لا شيء مما يعز على النفس لدى الإنسان المؤمن فوق طاعة الله تعالى فيما يقضيه ، ولا يفعل سبحانه وتعالى إلا خيرا .
ويجدر بالمؤمنين في هذا الزمان بالذات الذي رق فيه تدينهم بشكل غير مسبوق ، واستهوتهم الحياة الدنيا بكل شهواتها وملذاتها السريعة الزوال لسرعة زوال الدنيا أن يحسنوا تدبر قصة الخليل وابنه عليهما السلام لما جعل فيها الله تعالى من عبر ، وعلى رأسها أن الابتلاء إنما هو قدر عباده المؤمنين على قدر ثباتهم على دينه ، وأن أشدهم بلاء هم الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن أشد الناس بلاء فقال : " الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الناس على قدر دينهم ، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه ، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه ، وإن الرجل ليصيبه البرء حتى يمشي في الناس ما عليه خطيئة " .
فإذا تأمل المسلمون هذا الحديث الشريف ،ونظروا إلى ما يبتلون به في حياتهم ـ فإنه يمكنهم الحكم على طبيعة دينهم أو تدينهم شدة أو رقة . وإن منهم من ترتاح نفسه إلى ضعف بلائه دون أن ينتبه إلى أن ذلك من رقة في دينه ، وإن منهم من يشق عليه بلاؤه ،وهو غافل عن أن ذلك من قوة دينه ، ومنهم من يلهمه الله تعالى ما ألهم به الصابرين من عباده من تحمل جزاء لهم على قوة دينهم ، وقوة يقينهم بأنه إنما ابتلاهم وهو محب لهم .
ولا يفوتنا ، وقد احتفلنا بحلول مناسبة البلاء العظيم الذي ابتلى به الله تعالى خليله وابنه عليهما السلام أن نقف عند ما يمر به إخواننا في أرض الإسراء والمعراج من بلاء عظيم ،وقد استحر فيهم القتل ، وطالهم طغيان عدو شرس ارتكب من جرائم الإبادة الجماعية الفظيعة في حقهم ما استنكرته كل شعوب العالم ، ومع ذلك لم نسمع منهم إلا عبارات الرضى بما نزل بهم من بلاء عظيم ، حيث قدم الآباء والأمهات فلذات أكبادهم ، وهم يحمدون الله تعالى ، ويسألونه أن تقبلهم عنده شهداء ، وصبر الأبناء أيضا على استشهاد آبائهم وأمهاتهم واحتسبوهم شهداء عند الله عز وجل راضين بقضائه ، وما ذلك إلا لما جعل الله تعالى من قوة في دينهم ، و قد جاء بلاؤهم على قدر ذلك ، ولا نزكي منهم على الله أحدا فهو الأعلم بخلقه .
ومقابل هذا الذي أظهره إخواننا في أرض الإسراء فداء للأقصى المبارك ، وانتصارا لدين الله عز وجل الذي أظهره على الدين كله ، وهو ما يدعو إلى الفخر والاعتزاز ، نأسف شديد الأسف لأحوال ومواقف مسلمين في هذا الزمان ، وقد رق دينهم إلى أقصى درجات الرقة ، ولم يبتلهم الله تعالى إلا بقدر رقة دينهم ، ومع ذلك فيهم من يظهرون جزعا كبيرا لحرمانهم من بعض ملذات الحياة الدنيا الزائلة ، ولم يتخذوا الخليل وابنه عليهما السلام قدوتين وإسوتين، حيث استنكف بعضهم من تقديم أضحية بذريعة غلاء أسعار الأضاحي ، وقد أقدرهم الله تعالى على اقتنائها بما رزقهم من فضلهم ، كما أن بعضهم وفيهم أهل يسار استخفوا بنسك النحر علوا واستكبارا ، فقصدوا أماكن الاستجمام على الشواطىء ،وفي المنزهات ، ولم يستفيدوا شيئا من حكمة الله تعالى الذي ذكر البلاء العظيم الذي ابتلي به الخليل وولده عليهما السلام للعبرة ، ومنهم آخرون تذمروا من هذا النسك العظيم بسبب ضيق ذات اليد ، ولم يترددوا في إظهار تذمرهم ، ومنهم سفهاء حرضوا على تركه ... إلى غير ذلك من الأحوال التي لم يتشرب أصحابها حكمة الله عز وجل منه ، ولم يحصل لهم حظ منها، بل كان همهم هو إصابة لحم الأضاحي ، وكان منهم من اقتنى لحما قبل حلول المناسبة استخفافا بشعيرة النحر، شاهدا بذلك على نفسه أن كل ما يعنيه منها أن يصيب طعاما، لا أجر له فيه عند الله عز وجل .
وإنه لحري بالمسلمين وحالهم كما هي عليه في هذا الزمان أن يعجلوا بتوبة نصوح يخرجهم بها الله تعالى من حال رقة وضعف دينهم إلى حال قوته ، وشدته ، وقد أراهم الله تعالى رأي العين آياته في عباده المرابطين في سبيله بأرض الإسراء والمعراج ، وقد منّ عليهم بقوة الإيمان ، وصلابة الدين ، فاسترخصوا أرواحهم ، وأرواح فلذات أكبادهم في سبيله، ومن أجل تحرير بيت المقدس من الاحتلال الصهيوني البغيض ، ومن أجل عزة دينه .
اللهم زد المرابطين في سبيلك بأرض الإسراء والمعراج صبرا ويقينا وقوة إيمان وثباتا عليه ، وعجل اللهم لهم بفرج من عندك ،إنك تقابل التقوى والصبر بحسن الجزاء وعظيم العطاء سبحانك لا إله سواك ، ولا غالب إلا أنت . وارحم اللهم شهداءهم ، واشف جرحاهم ومرضاهم ، واطعم جياعهم ، وآمنهم من خوف ، واربط على قلوب المجاهدين ، وثبت أقدامهم ، وسدد رميهم ، وامددهم بمددك العظيم يا رب العرش العظيم ، واحفظهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحت أرجلهم ، ولا تجل اللهم للصهاينة وأعوانهم الكافرين سبيلا على عبادك المؤمنين المجاهدين الصابرين الحامدين الشاكرين لك كل أفضالك عليهم ، والمحتسبين الآجر والثواب عندك، آمين يا رب العالمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1084