من أعلام الهجرة النبوية

كلما دخل عام هجري جديد، تذكّر المسلمون هجرة نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه الصدّيق، وكذلك مَن هاجروا قبله أو من تبعوه، رضي الله عنهم جميعاً. لكن عَلَماً من أعلام الهجرة قلّما نذكره في هذه المناسبة. إنه أنصاري وليس من المهاجرين، لكنه تشرّف باستضافة المهاجر الأعظم صلّى الله عليه وسلّم.

إنه أبو أيوب الأنصاري: خالد بن زيد من بني النجار، واشتُهر بكنيته: أبي أيوب. وكان من السبعين الذين بايعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بيعة العقبة الثانية.

ونقرأ في كتب السيرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين وصل بهجرته إلى المدينة، ابتهج أهلها أيّ ابتهاج، وفتحوا قلوبهم قبل أن يفتحوا أبواب بيوتهم، تكرمةً له. وبعد أن قضى في قباء، على مشارف المدينة، أربعة أيام، وبنى مسجده، خرج على ناقته نحو المدينة، فكان ساداتها يعترضون الناقة، يريد كل منهم أن يحظى بشرف ضيافته: أقمْ عندنا يا رسول الله في العَدَد والعُدَد والمنَعة. فيقول لهم، صلّى الله عليه وسلّم: "دَعُوها فإنها مأمورة". وكلما جاوزت منزلاً حزن أهله أنْ فاتهم شرف استضافته، حتى بركت في أرض كانت مربداً لسهل وسهيل، غلامين من بني النجار، فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما في صحيح البخاري: "أيُّ بيوت أهلنا أقرب؟"، فقال أبو أيوب: أنا يا نبيّ الله! هذه داري، وهذا بابي.

ونال أبو أيوب هذا الشرف العظيم. وكان بيته طبقتين، فأخلى الطبقة العليا من متاعه، ودعا النبي صلّى الله عليه وسلّم ليكون فيها، لكن النبي آثر الطبقة الأخرى ليكون ذلك أرفق بأهل البيت. فامتثل أبو أيوب لذلك. ولكن ما كان المساء حتى بدأ يشعر بالحرج، إذ كيف يكون في العلو ويكون النبي صلّى الله عليه وسلّم في الطابق الأرضي؟!. وذكر حرجه من ذلك فقال صلّى الله عليه وسلّم: "هوّن عليك يا أبا أيوب. إنه أرفق بنا أن نكون في السُّفل، لكثرة من يغشانا من الناس".

وفي بعض الليالي انكسرت جرّة ماء في العُلّية، وخاف أبو أيوب أن يتقاطر ماؤها على السُّفل. قال: فقمتُ أنا وأم أيوب، وليس لدينا إلا قطيفة كنا نتخذها لحافاً، وجعلنا ننشف بها الماء.

وقصّ على النبي صلّى الله عليه وسلّم قصة الماء والجرّة فقبل صلّى الله عليه وسلّم الانتقال إلى العُلّية..

ومكث عليه الصلاة والسلام في دار أبي أيوب سبعة أشهر إلى أن تم بناء مسجده وحجرات أزواجه في ذلك المكان، فغدا جاراً لأبي أيوب.

وروى الطبراني أن أبا أيوب قال: كنا نصنع للنبي صلّى الله عليه وسلّم طعاماً، فإذا ردّ ما بقي منه تيمّمنا مواضع أصابعه فأكلنا منه، يريد البركة، فردّ علينا عشاءه ليلةً، وكنا جعلنا فيه ثوماً أو بصلاً، فلم نرَ فيه أثر أصابعه، فذكرتُ ذلك له فقال صلّى الله عليه وسلّم: "إني وجدت منه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجي، فلم أحب أن يوجد مني ريحه، فأما أنتم فكلوه".

وكم أفاد أبو أيوب من مكث النبي صلى الله عليه وسلم عنده، ثم سكناه بجواره، بركةً وعلماً وحكمة؟!. وقد روى من حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم مئة وخمسة وخمسين حديثاً. وعن محمد بن كعب القرظي قال: جَمَعَ القرآنَ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبيّ بن كعب، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري. [كما في فتح الباري لابن حجر العسقلاني].

ولم يكن حبُّه للنبي صلّى الله عليه وسلّم مجرد عواطف ومشاعر، بل كان فوق ذلك جندية وفداء وجهاداً. قال ابن إسحاق: لما أعرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصفية بنت حيي بخيبر، وكانت التي جمّلتها ومشّطتها وأصلحت من أمرها أم سليم بنت ملحان، فبات بها النبي صلّى الله عليه وسلّم في قبّة له، وبات أبو أيوب متوشّحاً سيفه، يطوف بالقبة حارساً، حتى أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما رأى مكانه قال: ما لكَ يا أبا أيوب؟ قال: يا رسول الله، خفتُ عليك من هذه المرأة، فقد كانت حديثة عهد بكفر، وقد قتلتَ أباها وزوجها وقومها!. فقال صلّى الله عليه وسلّم: اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني.

وقد شهد أبو أيوب بدراً والمشاهد كلها. وكانت آخر غزواته حين جهّز معاوية جيشاً بقيادة ابنه يزيد لفتح القسطنطينية، وكان أبو أيوب آنذاك شيخاً طاعناً في السن يقارب الثمانين من عمره، ولنتصوّر سفراً على الخيول والجمال، مئات الأميال، فضلاً عن مشاق الجهاد، يشارك فيه هذا الصحابيّ.

لكنه بعد قليل من منازلة العدو، مرض حتى عجز عن مواصلة القتال، فزاره القائد يزيد وسأله: ألكَ حاجة يا أبا أيوب؟ قال: اقرأ عني السلام على جنود المسلمين، وقل لهم: يوصيكم أبو أيوب أن توغلوا في أرض العدو إلى أبعد غاية، وأن تحملوه معكم، وأن تدفنوه عند أسوار القسطنطينية. ولفظَ أنفاسه الأخيرة، وكان له ما أراد.

وعند قبره اليوم مسجد عامرٌ معروف يلحظ زائره بركات المجاهدين من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم. فرضي الله عن أبي أيوب، وعن الصحابة أجمعين، وصلّى الله على سيدنا وسيدهم محمّد النبي الأكرم.

وسوم: العدد 1086