( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون )
حديث الجمعة :
من المعلوم أن الرسالة الخاتمة التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة مصداقا لقوله تعالى : (( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا )) ، وقوله : (( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) ، قد تضمنت إخبار الله تعالى الناس بالغاية التي من أجلها خلقهم، وهي ابتلاؤهم بما يعملون في حياتهم الدنيا ليجازيهم عن ذلك في الآخرة، كل حسب عمله الذي يعود تقويمه إلى الخالق سبحانه وتعالى .
ومعلوم أن الناس منذ بدء الخليقة، كانوا دائما منقسمين إلى قسمين بخصوص هذه الحقيقة الوجودية التي أخبرت بها الرسالة الخاتمة ، كما أخبرت بها كل الرسالات السابقة وهما : قسم يعتقدها ويقر بها ، وقسم ينفيها وينكرها ، وهذا القسم الأخير ، واجهه الله تعالى في كل الرسالات إلى آخرها بما يدحض نفيه الغاية من وجود الإنسان في هذه الحياة ، وذلك بالأدلة الدامغة التي لا ينكرها إلا المكابرون . وأهم تلك الأدلة نفي وجود العبث فيما أوجد، وخلق الله تعالى في هذا الوجود . والعبث في اللسان العربي هو بذل الجهد والوقت فيما لا فائدة ترجى أو تحصل منه . والبعض يجعل العبث مقابل اللعب ، والحقيقة أنه قد يوجد من اللعب ما وراءه فائدة كالجهد العضلي الذي يراد به غاية صحية من قبيل ما ينصح به الطب ، أو الجهد العضلي الذي يراد به الاستعداد لمواجهة العدوان ... إلى غير ذلك مما لا يعتبر من اللعب العابث .
وما كان الله تعالى لتكون الغاية من خلقه هذا الكون هي العبث ، وقد نفى ذلك عن ذاته المقدسة إذ قال جل شأنه : (( ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين )) ، ففي هذه الآية الكريمة نفي مطلق للعبث وراء خلق الكون بما فيه ، أي نفي ألا يكون لهذا الكون فائدة، أو لا يكون طائل من وراء خلقه .وإذا كان خلق الكون له فائدة ، فكل ما فيه ومن فيه لا يمكن أن يعدم الفائدة أو الطائل . ولما كان الإنسان من ضمن المخلوقات في هذا الكون ، فلا يمكن أن يستثنى مما ينسحب على كل موجوداته ، ليكون وجوده وحده محض عبث .
ولقد كان دائما قسم من البشر يدعي العبثية وراء وجود الإنسان في هذا الكون ، ومن الذي نحوا هذا النحو فلاسفة يعدون من كبارهم . والذين يعتقدون بهذه العبثية، يعيشون حياة عابثة لا طائل من ورائها ، ولا غاية لها سوى مجرد المرور بالحياة الدنيا التي تنتهي بموت لا رجعة بعده ، ولا بعث ولا نشور ولا مساءلة ولا محاسبة ولا جزاء على ما قدمت الأيدي .
ولقد واجه الله تعالى العبثيين في كل الرسالات التي أرسل بها المرسلين بما فيها الرسالة الخاتمة المنزلة على خاتم المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فدحض عبثيتهم ،لأنه لا منطق مقنع لها إذ كيف يمر الناس بمرحلة الحياة الدنيا يحسن فيها بعضهم ، ويسيىء البعض الآخر، ثم يغادر الجميع الحياة إلى الأبد بلا رجعة دون أن يجازى هؤلاء وهؤلاء على ما فعلوا إحسانا أو إساءة ، علما بأن المسيئين غالبا ما تمس إساءتهم غيرهم دون أن ينتصف منهم هؤلاء ، وهو أمر لا يقبله العقل ولا الواقع ،خصوصا وأن العبثيين أنفسهم يطالبون بالجزاء على الإساءة في الحياة الدنيا وقد وضعوا محاكم لهذا الغرض تبث في شكاوى من تطالهم الإساءة، طلبا لإنصافهم، ورفعا للظلم عنهم ، فكيف إذن يقبلون بوجود الجزاء في الدنيا ، وينكرونه في الآخر،ة خصوصا وأن كثيرا من المسيئبن يظنون أنهم يخوض غمار الحياة الدنيا دون أن يقتص منهم في الآخرة تماما كما لم يقتض منهم في الدنيا ، ولهذا يقول الله تعالى مخاطبا منكري البعث من العبثيين بقوله : (( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون )) ، ففي هذه الآية الكريمة نفي لوجود العبث فيما خلق الله عز وجل ، وتأكيد لرجوع الناس الحتمي في الآخرة إلى خالقهم بعد مرورهم بمرحلة الحياة الدنيا .
ولا زال إلى غاية يومنا هذا الكثير من البشر الذين يعتقدون أو يقولون بعبثية الحياة الدنيا ، وهم يتصرفون فيها وفق هذا الاعتقاد المنحرف أوالضال ، ويأتون من الأعمال العابثة التي لا تخلو من ظلم لأنفسهم ولغيرهم ، وقد يصفون على سبيل المثال بعض حروبهم بأنها حروب عبثية ، ومع ذلك لا يصفون كثيرا من أعمالهم العابثة الأخرى بهذا الوصف ، بل تعتبرونها منزهة عن العبث ، وهي في الحقيقة غارقة في العبث والتفاهة .
مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تنبيه المؤمنين إلى ما قد يقع فيه بعضهم تقليدا للعبثيين من أفعال تنتظرهم عليها المساءلة بين يدي الله عز وجل يوم الرجوع إليه ، وينتظرهم الحساب والجزاء . ومعلوم أن كثيرا من المؤمنين يخوضون غمار الحياة الدنيا كخوض غير المؤمنين من العبثيين الذين ينكرون البعث و المساءلة المحاسبة والجزاء في الآخرة ،خصوصا وأن عالم اليوم يستحوذ فيه على صنع القرار العبثيون ممن يسمون اللادينيين المنكرين لوجود الخالق سبحانه وتعالى ووجود البعث . وإننا لنجد اليوم من الفلاسفة الغربيين من ينكر انجرار عالم اليوم إلى ما يسمونه نظام التفاهة الذي صار مستحوذا على كل مناحي الحياة . والتفاهة إنما هي وجه من وجوه العبث بل هي عين العبث . ولقد قلبت التفاهة موازين الحياة ، فصار الأمر فيها إلى كل أنواع التافهين الذين يتصدرون قيادة العالم ، وقد أقصي منه الجد ،والطائل، والنفع ، والاستحقاق والكفاءة والأهلية ... ولقد مثل أحد الفلاسفة الكنديين ، وهو صاحب مؤلف : " نظام التفاهة " لكثير من أنواع التفاهات في شتى مجالات الحياة ،حيث يصرف الجهد الجهيد ، والمال الوفير فيما لا طائل من ورائه ، بينما البشرية أحوج ما تكون إلى ذلك الجهد ، وذلك المال، إذ لا زال كثير من الناس يحصد أرواحهم الجوع والأوبئة الفاتكة ، والحروب العبثية الجائرة . ومعلوم أن الذين اختاروا للعالم نظام التفاهة الذي يقدمون فيه التافهين في كل مجالات الحياة على ذوي الكفاءات ، إنما يمارسون ظلما فظيعا ، وذلك بسبب خلفيتهم العبثية التي تغيب المآل بعد الحياة الدنيا إلى دار المساءلة والمحاسبة والجزاء .
ومن المجالات التي سادها العبث والتفاهة، مجال القضاء حيث صار محض عبث وتفاهة كما هو حال القضاء الدولي الذي يقف عاجزا عن إيقاف جرائم إبادة جماعية تجري في أرض فلسطين المحتلة ، و عاجزا عن محاسبة ومحاكمة من يرتكبونها من صهاينة مجرمين ، والذين يجدون من زعماء ما يسمى بالدول العظمى من ينكر مجرد إدانة هذه المحاكم لهم ، بله تخضعهم للمساءلة والمحاكمة والمحاسبة والجزاء. وليست العدالة اليوم في العالم وحد ها التي انحرف بها العبث إلى أسوإ حال، بل كثيرة هي مجالات الحياة التي طالها العبث والتفاهة .
والمؤسف حقا أن يجرف تيار العبث والتفاهة المهيمن في عالم اليوم كثيرا من أفراد الأمة الإسلامية التي تقوم عقيدتها على نفي وإبطال العبث والتفاهة ، فنجد بلاد العالم الإسلامي تجاري وتقلد البلاد التي تحكمها العقيدة العلمانية ـ إن صح أن تسمى عقيدة ـ في تتفيه كثيرا من مجالات الحياة ، والتمكين للتافهين الذين يسوقون التفاهة ،وهم في مجاراتهم لا يختلفون في الحقيقة عمن يغيبون البعث والمساءلة والمحاسبة بين يدي الله عز وجل . وما أجدر هؤلاء باستيعاب وتدبر قول الله تعالى : (( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون )) ، إن حتمية الرجوع إلى الله تعالى من شأنها أن تنبه الغافلين عنه ، والمتورطين في العبث ، وفي التفاهة تحت مسمى مسايرة العصر ، ومسمى مواكبة الركب الحضاري دون تمييز بين ما يوجب المسايرة وبقتضيها ، وبين ما هو محض عبث عابث ومحض تفاهة .
وإنه لمن المؤسف أن ينبري فلاسفة البلاد الغربية العلمانية الملحدة والمنكرة للبعث والرجوع إلى الخالق سبحانه وتعالى في يوم لا ريب فيه لمحاربة التفاهة والعبث في العالم ، بينما يغفل عن ذلك فلاسفة العالم الإسلامي وعلماؤه ودعاته ، ومؤسساته المسؤولة عن الشأن الديني التي لا زالت بعد مرور أربعة عشر قرنا تبحث عن كيفية تسديد ما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم للعالمين ، وتخوض في أمور ليس بينها وبين واقع الناس المعيش صلة ، عوض أن تتعقب كل مظاهر التفاهة والعبث في جميع المجالات كما تعقبها الوحي قرآنا كريما وحديثا شريفا. والمؤسف أن يقصى من المنابر ومن الدعوة من ينبري للتنبيه إلى ذلك ، وهو ما يفسح المجال واسعا لانتشار التفاهة والعبث في بلاد الإسلام .
اللهم إنا نسألك ردك الجميل بالأمة الإسلامية إلى صراطك المستقيم ، ونعوذ بك أن يصير العبث في الحياة الدنيا غايتها . اللهم بصرها بعيوبها ، واهدها سبل الرشاد .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1088