( لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون )
حديث الجمعة :
من المعلوم أن الله عز وجل قد أخبر عن أهل الكتاب من بني إسرائيل في كثير من آي الذكر الحكيم . وحين تضم تلك أخبارهم إلى بعضها البعض تتكون صورة واضحة عن انحرافهم عن الفطرة السوية التي فطر الله تعالى الناس عليها . ومن تلك الأخبار ما كانوا يكيدونه من كيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين . وكان سبب كيدهم أن الرسالة الخاتمة التي ختم بها الله تعالى رسالاته قد كشفت عن انحرافهم عن طبعهم السيء ، كما فضحت تحريفهم لما أنزل الله تعالى على أنبيائهم ، فغاظتهم ، وسعّرت نار الحسد في قلوبهم ، فنتج عنها حقد أسود، جعلهم يمكرون برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين كل مكر خبيث كان بمثابة السم الزعاف الذي لا يفارق الأفاعي .
ومما قصه علينا القرآن الكريم من أخبارهم أنهم زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يجاورونه في المدينة المنورة كانت لهم قرى محصنة بجوارها. وما إن نزل عليه السلام بها حتى بدت منهم أفانين من الكيد الخبيث ، فأخذوا يستعينون بالمنافقين ويحالفون كفار قريش من أجل القضاء على الدعوة الإسلامية وطمس معالمها فيخلوا لهم الجو ، ويستمروا فيما كانوا عليه من استحواذ على المدينة وما حولها واستغلال من كانوا يجاورونهم فيها ،والتحكم فيهم بدهاء ومكر خبيث .
ولقد قضى الله تعالى وهم على خبثهم أن تستأصل شافتهم من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمره بالقضاء عليهم بعدما تكرر نكثهم كل عهودهم معه ، وتأكد أنهم لن يتخلوا أبدا عن غدرهم وفسادهم وإفسادهم في الأرض.
ومما جاء في وصفهم يومئذ قوله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم ومن خلاله المؤمنين : (( لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون )) ، ففي هذه الآية الكريمة من سورة الحشر، كشف الله تعالى عن أسلوب اليهود في قتالهم المؤمنين ، وعن طبيعة العلاقة فيما بينهم وكان ظاهرها وحدة صفهم ، وباطنها شتات أمرهم ، لأنهم قوم ضالون لا يعقلون ويهتدون إلى رشد أو صواب .
ولقد صورت هذه الآية الكريمة ما وقر في قلوبهم من رهبة من المؤمنين جعلتهم يحصنون قراهم بأسوار لجبن متأصل في طبيعتهم في وقت لم يكن غيرهم يحتمون بالحصون ، بينما كانوا هم يحتمون بها لجبنهم وخورهم . ومعلوم أن . وما كان يحملهم على اتخاذ تلك الحصون إلا إصرارهم على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، ومناصبتهم العداء وقد فضح الله تعالى ضلالهم وانحرافهم عن الهدي الذي أنزله على أنبيائهم . ولو أنهم كانوا يعقلون ، وكانوا على طبيعة سوية ، لاتبعوا ما ختم به الله تعالى رسالاته، وقد صدقت ما أنزل عليهم لما احتاجوا إلى حصون أو قلاع تحميهم لخوض حروب خاسرة مع المؤمنين . ولو كانوا يعقلون لما كان بأسهم بينهم شديد ، ولما كانت قلوبهم شتى ، وهم يتظاهرون بعكس ذلك ، وكيف تكون لقوم عقول وهم يبطنون عكس ما يبطنون . وما أغنى العقلاء عن خوض حروب هم في عنى عنها ولا طاقة لهم بها ، وما أغناهم عن بناء الحصون للقتال من ورائها .
ولقد جاء في كتب التفسير أن الله تعالى قد أشار في هذه الآية الكريمة إلى من كانوا يؤازرونهم من المنافقين ، وكان الظاهر أنهم على وفاق فيما بينهم بينما باطنهم كان عكس ذلك ، ومع ذلك كان يجمع بينهم الكيد الخبيث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، وهم يودون القضاء على دعوته التي كانت بالنسبة إليهم تهدد وجودهم ومصالحهم . ولقد فضح الله تعالى المنافقين في نفس السورة حيث قال جل شأنه : (( ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولون الأدبار ثم لا ينصرون لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون )) ، وبعد هذا مباشرة يأتي كلام الله تعالى عن قتال اليهود المسلمين في قرى محصنة ومن وراء جدر بعدما فضح الله تعالى وعود المنافقين الكاذبة التي كانوا يعدون بها اليهود في حربهم مع المسلمين ، وكشف النقاب عن غدرهم ، لأنهم كانوا كحلفائهم اليهود قوما لا يفقهون ولا يعقلون ، وكان القاسم المشترك بينهم هو اجتماعهم على الكفر برسالة الإسلام التي فضحت فسادهم وإفسادهم في الأرض .
ولما كانت العبرة بعموم لفظ كتاب الله عز وجل ، لا بخصوص أسباب نزوله ، فإن ما وصف به الله تعالى اليهود والمنافقين سيبقى وصفا ساري المفعول إلى قيام الساعة ، ولن تخلو فترة من فترات التاريخ منهم ، ولن يتوقف كيدهم للمؤمنين ، ولا يمكن أن يكون إخبار الله تعالى عن انحراف ومكر وخبث اليهود والمنافقين لو لم يكن وجودهم مستمرا إلى قيام الساعة .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بما قد يغفلون عنه مما وصف به الله تعالى اليهود والمنافقين في كتابه الكريم من مكر وخبث كي يحذروهم في كل زمان .ولقد تبين في زماننا هذا أنهم قد اجتمعوا على محاربة المؤمنين في أرض الإسراء والمعراج ،وهموا بإخراجهم من وطنهم ظلما وعدوانا، لذلك ثاروا من أجل تحرير أرضهم التي هجر بعضهم منها قسرا ،بينما حوصر البعض الآخر ، وقد شاد الصهاينة المستوطنات فوقها ، وأحاطوها بالجدر العازلة والحصون كي يحاربوا من ورائها تماما كما فعل أسلافهم من قبل زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم .ولقد صار لهم في هذا الزمان حلفاء كما كان لأسلافهم حلفاء من المنافقين .
وإن غفلة كثير من المؤمنين اليوم عما جاء في كتاب الله عز وجل، والبعد عنه قد جعلهم يظنون اليهود الصهاينة خلاف ما صورهم الله تعالى أقوياء ، وأشداء وقلوبهم واحدة ،كما أنهم غافلون عن عامل النفاق الذي حذر منه الله تعالى ، والذي يصب في دعمهم من أجل استئصال شأفة المؤمنين الذين يقاتلون من أجل تحرير وطنهم ، ومن أجل استرجاع ما ضاع منهم من مقدسات إيمانا بأن ذلك مما أوجبه الله تعالى عليهم ، وإيمانا بما وعدهم به من صادق الوعد بنصرهم على أعدائهم وعلى من يوالونهم وبإحباط كيد يستهدفهم .
وإنه لمن كمال إيمان المؤمنين ألا يخامرهم أدنى شك في الوعد الناجز لله تعالى ، وعليهم أن يحذروا أراجيف الذين يحاولون تثبيط عزائم المجاهدين من أجل كسر قيد المسجد الأقصى ، وتطهيره من الدنس الصهيوني ، ومنع هدمه وإقامة الهيكل الصهيوني المزعوم على أنقاضه .وإن المثبطين ليجارون الصهاينة وحلفاءهم في نعت المجاهدين بأقبح النعوت كي يؤلبوا عليهم الغافلين من المحسوبين على الإسلام عما جاء في كتاب الله عز وجل، ومنهم معرضون عنه يترقبون انتصار اليهود الصهاينة أعداء الإسلام من أجل مصالح وعدوا بها من عرض الدنيا الزائل ملطخ بالعار والشنار والمهانة والخيانة لأمانة الإسلام وأمانة المسلمين .
اللهم إنا نسألك صدق الإيمان ، ونسألك الثبات عليه حتى نلقاك ونحن على ذلك لا مبدلين ولا مغيرين ولا فاتنين ولا مفتونين ، نحب بحبك من يحبك ويحب رسولك الكريم عليه الصلاة والسلام ويحب عبادك المؤمنين ، ونمقت بمقتك من يمقتك ويمقت رسولك والمؤمنين .
اللهم عجل لعبادك المؤمنين في أرض الإسراء والمعراج بنصرك الموعود ، واجعل نصرهم يغيظ أعداءهم ومن يوالونهم كفارا ومنافقين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1093