( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )
حديث الجمعة :
لما كانت أعظم منن ونعم الله تعالى على عباده المؤمنين منة ونعمة الإسلام، فقد أوجب عليهم أداء شكره عليها من خلال اجتماعهم في وقت معلوم من يوم الجمعة لسماع ذكر افترضه عليهم، وجعله يسد مسدين ركعتي من صلاة الظهر . ولقد جاء في كتب التفسير أن جلسة الخطباء بين خطبتي الجمعة تدل على سدهما مسد ركعتي صلاة الظهر الرباعية . وجاءت دعوة الله تعالى عباده المؤمنين بالسعي إلى ذكره أمرا، وليس مجرد حث لما في هذا السعي من استيفاء شكر نعمة الإسلام ، ولما فيه من خير كثير استأثر الله تعالى بعلمه الذي لا يحيط به علم العباد . وتقديسا لذكر الجمعة وصلاة ظهرها المتميزة عن باقي صلوات الظهر في باقي أيام الأسبوع ، جعل الله تعالى أفضل أيام الأسبوع هذا اليوم العظيم كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها " وقد خصه الله بساعة يستجاب فيها الدعاء ، ولا شك أن هذه الساعة هي ساعة اجتماع الناس لسماع الذكر الذي أمرهم الله تعالى بالسعي إليه، وجعل ذلك خيرا لهم مما يسعون إليه من أمور دنياهم.
ولقد جاء في تفسير قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إذا نوديَ للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )) أن الله تعالى ميّز المسلمين عن أهل الكتاب بيوم الجمعة يشكرونه فيه على فضل نعمة الإسلام ، ويخالفون بذلك اليهود والنصارى الذين يعتبرون يوم السبت والأحد يومي عبادتهم . وذُكر أيضا أن يوم الجمعة كان يسمى عند العرب في جاهليتهم يوم عَرُوبة ، وقيل أن هذه اللفظة تعني يوم الراحة، و قد حق له أن يكون كذلك احتفالا بأهمية الذكر الذي أمر الله تعالى بالسعي إليه ، وهو سعي يتطلب استعدادا من قبيل التطهر والتزين له كما سن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتبكير إلى بيوت الله عز وجل كما أوصى بذلك أيضا عليه الصلاة والسلام ، علما بأنه شبه انتظار الصلوات فيها بالرباط أو بمثابته ، وأي رباط فيها أفضل من رباط يوم الجمعة ؟
وتقديسا لذكر الجمعة سمى الله تعالى سورة من سور الذكر الحكيم بها ، وقد افتتحت بذكر تسبيح ما في السماوات وما في الأرض الله تعالى الذي وصف ذاته المقدسة بالمُلك ، والقُدسية ، والعزة ، والحكمة ، وامتن بنعمة بعثة رسوله صلى الله عليه وسلم في الأميين يتلوعليهم آياته ،ويزكيهم ويعلهم الكتاب والحكمة بعد أن كانوا في ضلال مبين ، ووصف ذلك بالفضل العظيم عليهم الذي يؤتيه من يشاء من عباده . وذم عقب ذلك الذين حُمِّلوا التوراة المنزلة على نبي الله موسى عليه السلام ثم لم يحملوها ، ووصفهم بحُمُر حمالة أسفار تنوء بحملها ، ولا تفيد منها شيئا ، ووصفهم بالضلال، وبالظلم ، وتبرأ من ولائهم له ، وتحداهم أن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين فيما يدعونه من ولائهم له دون الناس ـ تعالى عن ذلك علوا كبيرا ـ وهو ما لا يجرؤون على تمنيه بما قدمت أيديهم من قبيح وشنيع الأقوال والأفعال .
ومباشرة بعد ذلك يأتي الخطاب الموجه إلى المؤمنين بالسعي إلى ذكره سبحانه وتعالى شكرا على نعمة الإسلام التي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنقاذهم من الضلال المبين ، وهذا الشكر عبارة عن اجتماع في بيوته سبحانه وتعالى في ساعة معلومة من يوم الجمعة يستعرض فيها الذكر المنزل من عنده ويوضح لهم من خلال خطبتين سنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة . ولقد جعل الله في هذا الاجتماع من الخير ما لا يحيط بعلمه إلا هو سبحانه وتعالى .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين إلى أهمية أمر الله تعالى لهم بالسعي لذكره وترك ما دون ذلك من مشاغلهم الدنيوية مهما كانت، وقد عبر عن ذلك بقوله تعالى : (( وذروا البيع )) علما بأن البيع عبارة عن صفقة مهما اختلف نوعها ، ذلك أن شأن الناس في حياتهم عبارة عن صفقات فيما بينهم قوامها الأخذ والعطاء ، وهذا ما يدل على بلاغة كلام الله تعالى حين استعمل كلمة البيع إشارة إلى ما يكون عليه الناس في كل أحوالهم اليومية . ومما يلح على هذا التنبيه أن شريحة عريضة من شرائح مجتمعنا المغربي تحرم من السعي إلى ذكر الله تعالى يوم الجمعة ، والمانع هو انشغلها بأمور دنياها عن ذكر مسدد لسعيها فيها.
وبيان شبب هذا الانشغال أن الحكومات المتعاقبة على تدبير شأن البلاد منذ الاستقلال إلى يوم الناس هذا صاحبتها على الدوام بعض مطالب الشعب الملحة دون أن تستجيب لها ، ولا زالت تنتظر الاستجابة لحد الساعة . وأكثر المطالب إلحاحا ، وأطولها عمرا مطلب نقل عطلة نهاية الأسبوع من يومي السبت والأحد إلى يوم الجمعة لتمكين الشعب من صلاة الجمعة المنصوص على أدائها في الذكر الحكيم أمرا وترهيبا لا ترغيبا فقط . والشريحة المطالِبة بهذا المطلب المشروع هي تلك التي تمنعها ظروف العمل من حضور الجُمَع على الدوام . وعلى رأس هذه الشريحة الشغيلة التعليمية، ومعها الناشئة المتعلمة خصوصا البالغة سن التكليف منها في المراحل التعليمية الإعدادية، والتأهيلية ،والجامعية .
ومقابل تقديس واحترام اليهود والنصارى ليومي السبت والأحد لارتباطهما بتدينهم ، فإننا لا نبالي بقدسية واحترام يوم الجمعة بالرغم من تميزه عن باقي الأيام بعبادة عظيمة أمر الله تعالى بالسعي فيه إلى ذكره ، والاجتماع من أجل ذلك في بيوته . ومن أغرب ما سجله التاريخ الحديث حين كانت المفاوضات جارية بين القيادة الفلسطينية، وبين الصهاينة فيما سمي بمسار السلام ـ ولا سلام ـ أن تلك المفاوضات استمرت طيلة يوم جمعة على أساس استمرارها اليوم الموالي إلا أن الصهاينة رفضوا ذلك تقديسا ليوم سبتهم ،كما رفض ذلك من كان يحضر تلك المفاوضات من نصارى تقديسا ليوم تنصرهم ، وكان ذلك يومئذ إهانة للفلسطينيين الذين كان عليهم احترام قدسية يوم الجمعة ، ولكنهم لم يفعلوا ، ومن يهن يسهل الهوان عليه كما قال الشاعر المتنبي .
ونعود إلى مطلب تعطيل الدراسة يوم الجمعة بالنسبة للشغيلة التعليمية ومعها الناشئة المتعلمة ،علما بأن نسبة نسمتها هي الأعلى في البلاد ، ونسأل الوزارة الوصية على الشأن الديني التي عبرت عن انشغالها باتساع الهوة بين تدين المغاربة وبين الدين ، واقترحت من أجل التقليص من هذه الهوة ما أسمته خطة تسديد التبليغ، أليس الشريحة ذات النسبة العليا في البلاد أولى بأن تستفيد من هذه الخطة، وعدد المدرسين فيها يفوق 269ألف حسب إحصاء موسم 2022 /2023 ، وعدد المتعلمين يفوق 7ملايين و392 ألف حسب إحصاء موسم 2023/ 2024 ،وهو عدد نصفه ممن تجب عليهم الصلاة ؟
إن انعدام التناغم بين الوزارتين الوصية على الشأن الديني ، والوصية على الشأن التربوي، وانعدام التواصل، والتنسيق، والتعاون بينهما، جعل هذه الشريحة المعتبر عددها ، والتي توشك أن تبلغ ربع ساكنة البلاد محرومة من حضور الذكر الذي من أجل وضعت خطة تسديد التبليغ . وهل توجد شريحة خصوصا الناشئة المتعلمة أشد حاجة منها إلى هذا التبليغ ، وهي رهان المستقبل ، والمعول عليها لحمل رسالة هذا الدين مستقبلا إلى الأجيال القادمة ؟
ومع أن تسريح هذه الناشئة المتعلمة ومعها الأطر التربوية نصف يوم فقط كاف لتمكينها من الاستعداد لعبادة يوم الجمعة تطهرا، وتزينا، وتبكيرا إلى بيوت الله عز وجل ،ثم العودة بعد الصلاة إلى الفصول الدراسية عملا بقوله تعالى : (( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكوا الله كثيرا لعلكم تفلحون ))، فإن الوزارة الوصية على الشأن التربوي لا تجرؤ أو لا تريد ذلك مع أنها تحرم الناشئة من تبليغ مسدد هي في أمس الحاجة إليه بحكم سنها، وبحكم المرحلة العمرية التي تمر بها، وهي أخطر المراحل العمرية على الإطلاق بسبب أعراض المراهقة .
ولقد كان على السادة العلماء الذين اقترحوا خطة تسديد التبليغ أن ينتبهوا إلى هذا المشكل المطروح ، ويلتمسوا من وزارتهم الوصية أن تربط جسور التواصل والتناغم مع الوزارة الوصية على الشأن التربوي من أجل صيانة حق الناشئة المتعلمة في حضور ذكر الجمعة والاستفادة من تبليغه المسدد. وعليهم أيضا أن يقدروا حجم الخسارة الناجمة عن حرمان هذه الناشئة من التنشئة على ترك الجمع ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لينتهينَّ أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ الله على قلوبهم ثم ليكوننّ من الغافلين " وأي ختم على القلوب ، وأية غفلة أشد على الناشئة من حبسهم في الفصول الدراسية أو اضطرارهم لتناول وجبة الغذاء بين فترة الحصتين الدراسيتين الصباحية والزوالية ساعة الجمعة وقت الذكر والصلاة استعدادا لعودتهم إلى الفصول في فترة الزوال ؟ أليس من تيسير عبادة الجمعة عليهم أن يكون هذا اليوم يوم عطلة أسبوعية كما هم الشأن في كثير من بلاد الإسلام عوض التعسير عليهم، فلا هم يسعون إلى ذكر الله كما يجب ، ولا هم يتناولون وجباتهم على راحتهم ؟ وإن مؤسسات التعليم الخصوصي ما تستمر فيها الدراسة ساعة الجمعة التي يحرم فيها كل بيع مهما كان .
ومن الغريب أن تستجيب الوزارة الوصية لمطلب شريحة علمانية طالبت بحذف سور من القرآن الكريم من المقرارت الدراسية ، نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر سورة الحشر بدعوى أنها تدعو المتعلمين إلى الكراهية ، و في المقابل تسمح بتسويق المفاهيم والقيم العلمانية في مقررات أخرى في حين تصم أذنها عن الاستجابة لمطلب حضور صلاة الجمعة، وهو واجب ديني مفروض .
ونقول للوزارة الوصية على الشأن الديني أليس من أسباب اتساع الهوة بين التدين والدين في بلادنا حسب ما صرح به وزيرك حرمان الناشئة المتعلمة من ارتياد بيوت الله عز وجل ساعة الجمعة ؟ أليس من اعتادوا رغما عنهم على ودع الجمعات صارذلك لهم عادة ودأبا ،وازدادت لديهم الهوة سحقا بين دينهم وتدينهم؟ ، والمسؤولية في ذلك تقع على وزارتي الشأن الديني والشأن التربوي ، وسيعلم الذين فرطوا في تدين الناشئة المتعلمة أي منقلب سينقلبون . اللهم قد بلغت فاشهد .
اللهم رد بناشئتنا المتعلمة إلى دينك وإلى هدي رسولك عليه الصلاة والسلام، وعجّل لها بذلك قريبا غير بعيد .
اللهم إنا نسألك أن تتقبل دعاءنا لإخواننا المرابطين في أرض الإسراء والمعراج ساعة قبول الدعاء من هذه الجمعة، وتربط على قلوبهم ، وتثبت أقدامهم ، وتسدد رميهم ، وتمددهم بمددك ، وتحفظهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحت أقدامهم ، ولا تجعل لأعدائهم عليهم سبيلا . اللهم عجل لهم بفرج من عندك ، فإنه لا مانع لما تعطي ولا ما تقضي سبحانك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1096