( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور )
حديث الجمعة :
من المعلوم أن الله عز وجل وعد عباده المؤمنين في الذكر الحكيم بوعود تتحقق في الدنيا والآخرة ، وهي وعود ناجزة لا تتأخر إذا حان وقتها الذي يحين بتدبير وتقدير منه سبحانه وتعالى ، كما أنه توعد الكافرين بوعيد لا يتخلف إذا آن أوانه.
ومما وعد به سبحانه وتعالى عباده المؤمنين النصر ، وهو عبارة عن نجدة، ومعونة، وتأييد ، وغلبة، يكون المنصور في أمس الحاجة إليه إما لضعف يصيبه أو لظلم يلمّ به . والمؤمنون في كل زمان ومكان لا تخلو أحوالهم من فترات ضعف أو ظلم يبتلون بهما ، فيتطلعون إلى نجدة ومعونة من الله عز وجل . ومن رحمته بهم سبحانه وتعالى أنه أكد لهم نصره ،لأنه مصدر القوة ،والاقتدار، والعزة ، والمنعة ، ومن يلجأ إليه ،ويستجير به، يكون لا محالة في حرزه المنيع .
ومن نماذج نصر الله تعالى الموعود ما جاء في قوله تعالى : (( إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوّان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا الله لينصرن الله تعالى من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور )) ، ففي هذه الآيات الكريمة من سورة الحج ، بيّن الله تعالى لعباده المؤمنين زمن البعثة النبوية ، وفي كل الأزمنة التالية له أن وعده لهم بالنصر ناجز لا محالة كلما وقع عليهم العدوان من طرف أعدائهم الكافرين . ومعلوم أن المؤمنين زمن النبوة قد وقع عليهم الظلم من كفار قريش ، ومن ظلمهم لهم أنهم أخرجوا من ديارهم ، وحرموهم المقام فيها مع أن ذلك حق مشروع لكل من يولد وينشأ في أرض أو وطن ، ولا زوال لذلك الحق إلا بما يقرره شرع الله في حالات مثل التغريب أو النفي بسبب جريرة . وهذا الذي وقع للمؤمنين زمن النبوة قد تكرر في أزمنة كثيرة ، ولا زال يتكرر إلى يوم الناس هذا ، وسيتكرر إلى ما شاء الله تعالى ، وما بقي من عمر الحياة الدنيا ، لهذا تعهد الله تعالى لكل المؤمنين في كل زمان و في كل مكان ممن يخرجون من ديارهم بغير حق يقتضيه شرعه بنصرهم على من يخرجهم منها من أعدائهم الكافرين الذين يمقتهم الله تعالى لكفرهم ، علما بأنه قد أخذ على البشرية جمعاء عهد الإيمان به، إلا أن الكافرين نقضوا هذا العهد، وخانوه بعد إقرارهم به يوم خلقهم ، و قد جعل الإيمان فطرة فطروا عليها . وبسببهم نقضهم عهد الإيمان بالله تعالى فإنهم يعادون المؤمنين لإيمانهم به ، ويسلطون عليهم ظلمهم بما في ذلك إخراجهم من ديارهم أو من أوطانهم .
ولقد ذكر الله تعالى أن من نتائج نصر عباده المؤمنين على أعدائهم الكافرين استتباب الأمن والسلام، وصيانة أماكن يعبد فيها سبحانه وتعالى ، وهي مقار منها تنطلق إقامة شرعه الضامن للاستقرار، والأمن، والسلام في الأرض .
ومعلوم أن نصر الله تعالى الذي وعد به عباده المؤمنين رهين بالتدافع مع أعدائهم ومواجهة عدوانهم ، وهو دفع أذن لهم به الله عز وجل ، وجعله وسيلة وسببا لتحقيق نصره وفق قانون سنه، والذي به تتحقق النتائج عن طريق الأخذ بالأسباب .
ومعلوم أيضا أن نصر الله عز وجل هو تمكين لعباده المؤمنين ، والتمكين على وجه الحقيقة إقرار بالمكان ، ومجازا هو التمليك ، وقد جعل له الله سبحانه وتعالى ثمنا قبل الظفر به وهو إقامة الصلاة التي هي دليل على إقامة دينه واستمرار وجوده ، وإيتاء الزكاة التي هي قوام المعاش، وبها يتساوى المؤمنون في الكرامة تصان بكفاف يغني فقراءهم بما يعود به عليهم أغنياؤهم من مال لهم فيه حق فرضه الله تعالى لهم ، فضلا عن الأمر بالمعروف ، وهو كل خير يتحقق بإقامة شرع الله عز وجل ، والنهي عن المنكر ، وهو كل شر يترتب عن تعطيل شرعه سبحانه وتعالى ، علما بأنهما نقيضان لا يجتمعان ، ذلك أن المعروف هو بالضرورة نقض للمنكر، كما أن المنكر هو بالضرورة نقض للمعروف . وبناء على هذا لا نصر و لا تمكين للمؤمنين في الأرض إلا بصلاة تقام ، وبزكاة تؤتي ، وبمعروف يؤمر به ، وبمنكر ينهى عنه ، ذلك أن دين الله عز وجل إنما يقوم على هذه الأربع ، وبها يقام في الأرض ، وكل إخلال أو تقصير فيها يكون سببا مباشرا في حجبه تعالى النصر والتمكين . ولقد جعل الله تعالى ملاك عاقبة كل الأمور بيده، سواء تعلق الأمر بنصر المؤمنين ، أو تعلق بهزيمة أعدائهم الكافرين.
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بأن نصر الله له ثمن حدده سبحانه وتعالى في صلاة تقام ، وزكاة تؤتى ، وأمر بالمعروف ، ونهي عن المنكر . وإن المؤمنين في كل زمان، وفي كل مكان ليسألون الله تعالى في دعائهم نصره وتمكينه إلا أنهم قد لا يلقون بالا للثمن الذي اشترطه الله تعالى للحصول على ما يرجى منه من نصر وتمكين . والمنطق يقتضي أن من يطلب شيئا يقدم بين يديه ثمنا كي يحصل عليه ، ذلك أن نصر وتمكين الله عز وجل للمؤمنين عبارة عن صفقة بينه وبين عباده المؤمنين .
ولقد جاء في كتب التفسير أن سيدنا عثمان رضي الله عنه لما نزل قول الله تعالى : (( الذين إن مكناهم في الأرض ... الآية )) قال : " هذا والله ثناء قبل بلاء " أي قبل اختبار ، وهو من الإخبار بالغيب الذي تحقق فيما بعد، وقد علمه الله حال المؤمنين يومئذ حين أخرجوا من ديارهم بغير حق . والتمكين الوارد في قوله تعالى إنما هو وعد منه بنصر المؤمنين على أعدائهم قبل أن يحصل هذا النصر وهذا التمكين . وبناء على هذا فإنه وعد لكل المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان تصدق نيتهم بالقيام بما اشترطه الله تعالى مقابل نصره وتمكينه لهم من أداء للصلاة ، إتيان للزكاة ، وأمر بالمعروف ، ونهي عن المنكر .
ولا شك أن ما يمر به اليوم إخواننا في أرض الإسراء والمعراج من عدوان آثم ، وظلم صارخ ، وما يراد بهم من تهجير عن ديارهم ، وإخراجهم قسرا منها هو ابتلاء من الله عز وجل يجب أن يفهم على غرار فهم سيدنا عثمان رضي الله عنه ، بحيث يحصل لديهم يقين راسخ بأن وعد الله تعالى لهم ناجز لا محالة ما أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر .
وعلى كل المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها الذين يتوجهون بالدعاء إلى الله عز وجل كي ينصر إخوانهم المستضعفين في أرض الإسراء والمعراج و بإلحاح شديد وقد وجدوا عنتا وألما شديدين وهم يتابعون ما يعانونه من بلاء عظيم أن يقدموا بين يدي دعائهم شروط الاستجابة التي هي نفسها شروط النصر والتمكين، أداء الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . ومعلوم أنه لن يستجاب دعاؤهم ما لم تتحقق هذه الشروط، لأن نعمة النصر والتمكين إنما جعلها الله تعالى نصرا وتمكينا لدينه في الأرض ، مصداقا لقوله جل وعلا : (( ولينصرن الله من ينصره )) ، وقوله : (( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )) ، وقوله : (( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز )) ، وقوله : (( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون )) ، ونصر الله عز وجل إنما يتحقق لمن أقام دينه صلاة وزكاة وأمرا بالمعروف ، ونهيا عن المنكر.
اللهم إنا نسألك أولا أن تعيننا على إقامة دينك كما يرضيك ذلك وترضى به عنها ، وأن تستجيب دعاءنا الذي نرجوك به رفع الظلم عن إخواننا المجاهدين في أرض الإسراء والمعراج ،وقد استضعفهم الكفار يهود ونصارى ، وتخلى عن نصرتهم منافقون ، وأنت أعلم بحالهم ، اللهم انصرهم نصرا تعز به دينك ، وتمكن له في أرضك ، الله اربط على قلوبهم ، وثبت أقدامهم ، وسدد رميهم ، وامددهم بجندك الذي لا يغلب ولا يقهر ، واحفظهم اللهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحت أرجلهم ، ولا تجعل لأعدائهم عليهم سبيلا .
اللهم ربنا وسيدنا وخالقنا لا تؤاخذنا بذنوبنا ومعاصينا ، ولا بتقصيرنا في إقامة دينك ، ولا بما يفعله سفهاؤنا، فتحرمنا بذلك من استجابة دعائنا لإخواننا المستضعفين ، وإنهم ليعانون بما نزل بهم من بلاء ، ونحن نعاني معهم لمعاناتهم ، وقد ضاقت بنا السبل عن نصرهم ، ولم يبق لهم ناصر إلا أنت يا نعم المولى ونعم النصير .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1097