(يا حسرةً على العِبَادِ مَا يَأتيهِم مِّن رَّسُولٍ إلا كانوا بِهِ يَستَهزِءُونَ)
وجيز التفسير:
(يا حسرة عَلَى ٱلۡعِبَادِ)
وكثر في هذه الكلمة، من الآية في سورة ياسين كلام المفسرين، وتعددت فيها وجوه التأويل..
وقيل الكثير في المتحسِرِ والمتحسَر عليه، وظرف الحسرة والتحسر، وحقيقتهما.
وحقيقة الحسرة أنها ألم يتفجر في النفس، بعد معاينة فوت ما كان متاحا للإنسان، وممكنا له..هي ألم ممزوج بأسف على التفريط، وتفويت ما كان قريبا ممكنا. وإذا كان القرآن يفسر بعضه، فاقرأ قوله تعالى:
(أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)
ويا حسرتا هنا بمعنى يا حسرتي، لغة العرب في الندب إذ تقول : وامصيبتاه.. واأبتاه …
أضيّعُ.. وأفرٌط.. وأفوّت فأتحسر!! أو يتحسر من يهمه أمري عليّ..
قال الرازي في التفسير الكبير: مستدعي الحسرة على العباد هنا، محمول على الرفض، بمعنى أن معرفته غير مهمة، وإنما المهم هنا هو استحضار معنى الحسرة، وتخويف أو تحذير العباد منها..ويضيف وهذا له شواهده في كلام العرب في "رفض" المفعول أو رفض الفاعل..
وقيل مستدعي الحسرة هنا هو الله جل جلاله الخالق الرازق المعطي المانع، إذ يذكر عباده بما قدر وهدى، ويذكرهم بحسرتهم على أنفسهم إذ جحدوا..
وقيل: مستدعي الحسرة هنا: الرسل الثلاثة الذين ذكروا في سورة يس من غير أسماء، عندما رأوا أهل القرية يقتلون الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، فقال:(يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ).. فبطش به القوم فقتلوه..
وقيل مستدعي الحسرة، هو الرجل نفسه، حين وجد أهل قريته، يُعرضون عن الرسل..
وقيل محل الحسرة في قوله يا حسرة على العباد هو قلوب العباد أنفسهم ، فما أشد ندمهم!! وأبلغ تقريعهم لأنفسهم، حين سيواجهون مصيرهم.
وقيل هي حسرة الداعي الرؤوف الرحيم، بالمدعو اللامبالي والمتغطرس، وقد يكون الداعي رسولا ونبيا ومصلحا ومعلما وقد يكون أما أو أبا فيواجه أي واحد من هؤلاء بالصدود، فيطلقها حسرة، فيقول: يا حسرة على فلان، وهذا القول هو الأقرب للصواب.
وكان القرآن الكريم يكثر من تعزية الرسول الكريم في هذا، ورأيت أكثر المفسرين انصرفوا عن هذا المعنى، ونسبوا الحسرة إلى العباد دون الدعاة، وإلى مثله من نسبة الحسرة إلى الداعية الشفيق الرؤوف الرحيم، ينتمي قول الله تعالى لنبيه (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) فالناصح المشفق عندما يرى إعراض المدعو تبلغ به حسرة الإشفاق كل مبلغ…
وذهب آخرون أن المدعويين إذا عاينوا الحق، وشعروا بحجم الخسارة وعظم الفوت، تحسروا فقالوها عن أنفسهم، وهو قول يسانده قوله تعالى في الكافرين (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ)
(يا حسرة عَلَى ٱلۡعِبَادِ)
ما أعجبه من صريخ لاستدراك الفوت، ونحن نلحظ أنفسنا نخوض في كل جدل لا تُرجى منه ثمرة، ولا ينبني عليه عمل!!
وهي آية عجيبة في تذكيرنا في حال أهل الضلالة يمكثون أحقابا في عذابهم النفسي، عذاب الندم والأسف والتحسر، إلى جانب صور العذاب المقيم..:
فالضال والمعاند والمشاقق، والعياذ بالله تعالى، يتلوى في عذاب الله أحقابا، ويتذكر الساعات التي كان يعرض عليه الإيمان فيأبى، فتمتلئ نفسه مقتا لنفسه، وحنقا عليها؛ فيأتيه خطاب ربه: إن مقت الله لك، أكبر من مقتك لنفسك الذي تعيشه في عذابك، لأنك كنتَ تدعى فتأبى… (لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ)
الداعية الناصح الصادق المخلص هو الذي يمتلئ قلبه حسرة لإعراض المعرضين، وتولي المتولين، ورفض المنصوحين للناصحين؛ فيقول وقد امتلأ قلبه أسى وحرقة وألما: يا حسرة على العباد… ويا حسرة العباد على أنفسهم...
وسوم: العدد 1101