( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم )

حديث الجمعة :

من رحمة الله عز وجل بعباده المؤمنين حثهم على فعل الخير ، وهو كل فعل أو قول يستحسنه الله تعالى منهم . وتستعمل لفظة " خير"  في اللسان العربي كذلك للدلالة على المفاضلة ، وقد وردت في العديد من سور الذكر الحكيم إما في سياق الحث على فعل الخير كقوله تعالى : (( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى )) ، أو لبيان وجه الحسن في الفعل أو القول كقوله تعالى  : (( إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم )) ، أو لبيان العوض عن المستقبح من الأفعال أو الأقوال كقوله تعالى : (( ولو أنهم آمنوا وتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون )) .

 وقد تأتي لفظة " خير " في القرآن الكريم ، فتدل بالسياق الذي ترد فيه  ضمنيا على وعد بالجزاء عن فعله ، وقد يقترن بها التصريح بالجزاء كقوله تعالى في سورة المزّمل الآية العشرون : ((  وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم )) ، فهذا الجزء من هذه الآية الكريمة  مسبوق بحث الله تعالى  رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه الفئة المؤمنة التي كانت معه ، وعموم المؤمنين إلى يوم الدين على إتيان أفعال يحبها  سبحانه وتعالى، وهي قيام الليل ، وقراءة القرآن ، والضرب في الأرض ابتغاء من فضله ، والقتال في سبيله ، وإقامة الصلاة ، إيتاء الزكاة ، وإقراضه عز وجل القرض الحسن. ومباشرة بعد سرد هذه الأعمال الصالحة يأتي ذكر لفظة " خير" دالة على حسنها عند الله عز وجل ترغيبا فيها ، والسر في هذا الترغيب  أنها بمثابة  قروض  حسنة يقترضها الله تعالى ـ  وهو الغني من عباده ـ  لا لحاجته إليها ، ولكن ليدخرها لهم ، ولينتفعوا بها في آخرتهم ، والدليل على هذا الادخار قوله تعالى : (( وما تقدموا لأنفسكم  من خير ))  من قبيل ما ذكره سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أو غيره من الأعمال الصالحة .

ويذكر الله تعالى عقب ذلك  مباشرة الجزاء الموعود  في قوله : (( تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا )) ، وهذا يدل على أن الله تعالى جعل لكل خير يقدمه المؤمنون لأنفسهم في آخرتهم  جزاء وأجرا لهم . وتكون الصفقة بينه سبحانه وتعالى وبينهم عبارة عن قروض يقدمونها لأنفسهم ، لا يتصرف فيها هو ، أو ينتفع بها،  بل يدخرها لهم ، فيجزون عنها بأحسن وأعظم مما أقرضوه .ومما يروى عن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ، وخليفته الراشد الصديق رضي الله عنه أنه قرأ قوله تعالى : (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم  بأن لهم الجنة  يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا بيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم )) ، فقال : " عجبت لأمر ربي يهبني نفسي ويشتريها مني ليُربحني " . ولقد جاء في كتب التفسير أن الله تعالى قد ثامن عباده في هذه الآية،  فأغلى لهم الثمن جودا وكرما منه ،  هو ونعم  المشتري، ونعم المقترض ، ونعم المدخر سبحانه وتعالى ، يشتري، و يقترض ، فيدخر ما يشتري وما يقترض وهو الواهب والمعطي ، ثم يجعله أضعافا كثيرة  مصداقا لقوله  جل وعلا : (( تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا )).

ومباشرة بعد بشارة  الصفقة الرابحة ذات الأجور المضاعفة  مقابل ما يقدمه عباده المؤمنون لأنفسهم ،  يحثهم  سبحانه وتعالى  بقوله : (( واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ))  ، وهذا الاستغفار هو  رحمة بهم، لأنهم ربما  يكونون قد قصروا في ما يقدمونه لأنفسهم ، فيكون الاستغفار هو در التقصير ، وجبر لما قد يعتري أعمالهم من نقص . ولقد  تقدم في قوله هذا ، وهو عند المفسرين تذييل المغفرة على الرحمة ،لأن هذه الأخيرة شاملة لصفاته المثلى ، فهو في جميعها رحيم ، ومن رحمته المغفرة، وهي شاملة للعفو والصفح ، والتجاوز ، فضلا عن الجزاء العظيم على العمل القليل أو المشوب بالنقص والتقصير .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بما يجب عليهم تجاه أنفسهم من تقديم الخير لها قولا وفعلا ، وادخاره عند الله عز وجل كي يجدوه يوم القيامة عبارة  عن أجر عظيم  ، وهي صفقة  يثير فيها الربح الهائل العجب، حيث يقابل السعي القليل والناقص بالأجر الكبير رحمة وفضلا من الله عز وجل ، وهو أرحم الراحمين .

وفي هذا الحديث أيضا تذكير بما يجب على المؤمنين في هذا الظرف بالذات من مسارعة  لتقديم  أفضل خير لأنفسهم ، وهو خير  يلح عليهم إلحاحا كل يوم حين تصلهم نداءات الاستغاثة من إخوانهم الفلسطينيين المحاصرين  تحت القصف الوحشي الذي يبيدهم إبادة جماعية ، وهم يموتون أيضا جوعا وعطشا ، ونزيفا ، ومرضا  . وإن بذل الوسع والجهد  في إمدادهم  بالطعام والشراب والدواء ... وغير ذلك مما يدعمهم ، ويخفف عنهم معاناتهم في محنتهم  لهو اليوم أغلى ما يُقرض الله تعالى ، وما يُدخر ، وما يُقدم للآخرة ، فهل من مبادر مجيب يستجيب لله تعالى ، ويقبل على المتاجرة معه ؟  إنها أثمن فرصة ويا خسارة من فاتته أو ضيعها ، ولم يغتنمها كي  يقدم لنفسه ما سيجده عند الله غاليا وخيرا وأعظم أجرا.

اللهم إنا نعوذ بك من سوء الأعمال والأقوال ، ونسألك توفيقنا إلى صالحها رحمة بنا . اللهم أعنا على تقديم ما يرضيك من أفعال وأقوال لأنفسنا ، وتجاوز عنا كل تقصير فيها ، واغفر لنا وارحمنا يا أرحم الراحمين .

اللهم إنا نسألك أن تربط على قلوب المجاهدين في أرض الإسراء والمعراج ، وأن تثبت أقدامهم ، وتسدد رميهم ، وأمددهم اللهم بمددك العظيم ، واقهر أعداءك وأعداءهم الصهاينة ومن يوالونهم ، واحفظهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحتهم ، ولا تجعل لأعدائهم عليهم سبيلا . اللهم عجل لهم بفرج من عندك ، وبنصر قريب غير بعيد يفرحون به ، وترفع به راية دينك . اللهم رقق لهم  قلوبا قاسية لا تحرك ساكنا وهم  يقصفون، ويقتلون  ظلما وعدوانا ، ويهجرون  قسرا ، ويجوّعون ويعطّشون تنكيلا  . اللهم أنت حسبهم ، وأنت خصيم من قدر على نصرتهم ولم ينصرهم ، ومن خذلهم مواليا أعداءك وأعداءهم يا ناصر المظلومين ويا نعم الولي ونعم النصير . اللهم لا تكلهم لعدو سفاح ، ولا لخاذل غدّار لئيم .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .  

وسوم: العدد 1102