( ولنبلونَّكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم)
حديث الجمعة :
من المعلوم أن الغاية من خلق الله عز وحل بني آدم هي ابتلاؤهم في الحياة الدنيا لمجازاتهم في الآخرة على أعمالهم فيها. ومدار الابتلاء هو التكاليف التي أمرهم بها سبحانه وتعالى، وهي عبارة عن أوامر ونواه ، يترتب عن الالتزام أو التقيد بها استقامة أحوالهم في حياتهم الدنيا ، وحسن المعاد في الآخرة ، كما يترتب عن الإخلال بها سوء أحوالهم في دنياهم ، وسوء معادهم في أخراهم .
وتتعدد وتتنوع التكاليف أمرا ونهيا ، و التي فيها خير بني آد عاجلا وآجلا . ومن التكاليف الشاقة عليهم تكليف الدفع أو الدفاع أو الجهاد من أجل توطين دين الله عز وجل في الأرض وإعلاء كلمته ، وذلك تحقيقا لاستقامة أحوال الخلق التي لا تستقيم إلا به . ولما كان التدافع أو الصدام بين الراغبين في توطين الإسلام ، وبين الراغبين عن ذلك له ثمن غال، وهو إزهاق الأرواح وإهدار الدماء ، فإن ذلك يشق على النفوس عند هؤلاء وهؤلاء على حد سواء، إلا أن المدافعين عن دين الله عز وجل يعتبر دفاعهم أو جهادهم التزاما بتكليف إلهي ، بينما يعتبر المحاربين له إخلالا بهذا التكليف . ولما كان للالتزام بهذا التكليف له أجر وثواب فإن الله تعالى يعجل بشطر منه في الدنيا ، فيكون عبارة عن نصر وتمكين في الأرض، ويدخر الشطر الآخر وهو الأهم في الآخرة ، والذي هو النعيم المقيم والأبدي في جنة الخلد . وبسبب هذا الإغراء الإلهي، يقبل الراغبون في النعيم الأخروي على الجهاد بعزيمة قوية ، وصبر وجلد على ما فيه من مشقة رغبة واحتسابا للأجر عند الله عز وجل .
وفي المقابل يترتب عن الإخلال بهذا التكليف عقاب يعجل شطرا منه الله تعالى في الدنيا، فيكون عبارة عن خزي ، وهزيمة، وخيبة ، وخسارة ، وندم، وحسرة ، ويدخرشطرا منه في الآخرة ، فيكون عبارة عن عذاب مقيم وأبدي في نار جهنم ، وبسبب هذا الوعيد الإلهي تنعدم عند من يتوعدهم به ما لدى المجاهدين من عزيمة قوية،وإرادة ، وإقدام ، وصبر ،وجلد .
ولقد تكرر ذكر التكليف بالجهاد في كتاب الله عز وجل ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم مع بيان ما يعود به على المؤمنين من عاجل خيره ، وآجله ، ومن ذلك قوله تعالى : (( ولنبلونّكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم )) ، ففي هذه الآية الكريمة الواحدة والثلاثين من سورة محمد إشارة إلى أنه مما كلف به الله عز وجل المؤمنين الجهاد الذي به تتحقق استقامة أحوالهم في الدنيا مع بيان الغاية منه . ولقد اقترن عطفا ذكر المجاهدين بذكر الصابرين ، الشيء الذي يدعو إلى التساؤل عن هذا العطف، لأنه كان بالإمكان أن يرد نعت المجاهدين مباشرة بالصبر ـ وهم كذلك إذ لا يقبل على الجهاد إلا الصابرون ـ إلا أن عطف الصابرين عليهم يدل على وجود فئة أخرى تشاركهم صبرهم ، وهم أهلهم وذويهم الذين يصبرون على فراقهم ، وعلى استشهادهم أو إصابتهم ، وعلى كل ما يترتب عن ذلك من مشاق، ومعاناة ، وحرمان ، وآلام مبرحة .
والغاية من الابتلاء بتكليف الجهاد هو سبر الصدق فيه ، و صدق الصبر عليه .ولا يتحقق هذا الصدق في الأمرين معا إلا عمليا وإجرائيا ، وتكون عليه أدلة يشهدها المؤمنون في الواقع المعيش ، ويشهدون عليها ، بينما يتولى الله تعالى أمر سرها في النفوس .
ولا بد هنا من إشارة إلى أن الله تعالى قد سبق في علمه العلم بالصادقين في جهادهم ، والصابرين ، ولا يجب أن يفهم من قوله تعالى : (( ولنبلونكم حتى نعلم )) بأن العلم منه غير حاصل قبل ذلك ،بل هو حاصل في علم الغيب عنده، الذي استأثربه جل في علاه. ولقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود بالعلم في هذه الآية الكريمة هو إظهار صدق جهاد المجاهدين، و صدق صبر الصابرين ، علما بأن ما يثبت الصدق في الجهاد هو الانخراط الفعلي ،أو العملي أو الإجرائي فيه ، وأن ما يثبت الصبر هو التحمل الفعلي الظاهر للأواء الحروب التي يقتضيها الجهاد .
ومما جاء في هذه الآية الكريمة أيضا قوله تعالى : (( ونبلو أخباركم )) ، وهنا إشارة إلى بلو الأخبار بعد بلو الجهاد والصبر، لأن التكليف لا يقتصر على هذين الأخيرين فقط ، بل هناك تكاليف أخرى تلزم المجاهدين والصابرين من قبيل العبادات والمعاملات ، وتلزم غيرهم من المؤمنين الذين يلزمهم أن يدعموا المجاهدين والصابرين ماديا ومعنويا . ومعلوم أن أخبار الداعمين للمجاهدين تذيع بين المؤمنين ، كما يذيع التخلي عن دعمهم أيضا، لهذا أشار الله تعالى إلى بلو الأخبار بالكشف عن الداعمين لهم وعن المتخلين عن دعمهم ، فلا يخفى عليه سبحانه من أحوالهم شيء ، وهو علام الغيوب .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بضرورة الاستحضار الدائم لابتلاء الله تعالى لهم تكليفا آمرا وناهيا من أجل استقامة أحوالهم في الدنيا ، وحسن عاقبتهم في الآخرة. ومما يجب التركيز عليه في التكاليف ما كان منها شاقا على النفوس متطلبا للصبر كما جاء في الآية الكريمة أعلاه . وليس تكليف الجهاد هو وحده المتطلب للصبر، بل كل التكاليف تقتضيه مع تفاوت بينها في المشقة ، وقد يبدو منها ما هو دون مشقة الجهاد ،ومع ذلك يكون أكثر منه مشقة ، وأدعى منه إلى الصبر والتحمل حسب الظروف كما هو الحال في الكوارث الطبيعية من زلازل ،و فيضانات، وحرائق ، و قحط، ومجاعات ... إلى غير ذلك .
ومعلوم أن مفهوم الجهاد في دين الله عز وجل يتسع ليشمل أنواعا عدة ، ولا يقتصر على دفع أو مدافعة أو مقارعة المعتدين على المؤمنين ، الناقمين منهم، والمعادين لهم، لا لشيء إلا لأنهم يؤمنون بالله العزيز الحميد كما جاء في سورة البروج . ورب جهاد باللسان أو بالقلم في بعض الأحيان، يكون أكثر مشقة من جهاد القتال ، لا يقدر عليه إلا من ألهمهم الله تعالى قوة الصبر والتحمل .
ولقد حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم المفهوم الواسع للجهاد حين سأله أحدهم قائلا : " الرجل يقاتل حمية ، ويقاتل شجاعة ، ويقاتل رياء ، فأنى ذلك في سبيل الله ؟ فأجابه عليه الصلاة والسلام : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " . ومعلوم أن إعلاء كلمة الله عز وجل لا تكون بالقتال فقط، بل تكون بغير القتال أيضا كما هو الحال في البذل والإنفاق دعما للقتال مصداقا لقوله تعالى : (( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون )) ، ففي هذه الآية الكريمة الخامسة عشرة من سورة الحجرات ذكر الله تعالى نوعين من الجهاد ، جهاد بالأموال عند البعض ، وجهاد بالأنفس عند البعض الآخر أو اجتماعهما معا . وربما يكون لتقدم ذكر جهاد الأموال في الآية الكريمة على جهاد الأنفس دلالة على سبقه وأهميته ـ إن لم يكن مرد هذا التقديم هو النظم القرآني ـ لأن الجهاد لا يتأتي إلا بأموال تنفق عليه ، وبمهج يجاد بها .
ولقد غفل كثير من المؤمنين في هذا الزمان عن تكليف الجهاد بأنواعه خصوصا وقد صار أعداء الإسلام يعتبرونه أو يسمونه إرهابا وإجراما في بلاد الإسلام التي احتلت كما هو الحال في أرض الإسراء والمعراج التي احتلها الصهاينة بدعم من مؤيديهم ، وطردوا أهلها منها ، وحاصروا وضيقوا على من بقي منهم فيها ، ولا زالوا يقتِّلونهم تقتيلا ، ويبيدونهم إبادة جماعية كما شاهد العالم ذلك لما يزيد عن حول كامل ، ومع ذلك يسمي الصهاينة ومن يوالونهم دفاع الفلسطينيين عن أنفسهم وعن وطنهم وعن حقهم في الحياة إرهابا وإجراما وتخريبا على حد زعمهم . وربما أثر ما يزعمه هؤلاء على كثير من المؤمنين، فيجارونهم فيه أو يعتقدونه غفلة أو جهلا منهم بما شرع الله تعالى من جهاد ، وجعله ابتلاء لتمحيص المؤمنين خصوصا في هذا الزمن الذي صار الجهاد يلتبس أمره بما ترتكبه عصابات إجرامية من إجرام مدعية كذبا وبهتانا أنه جهاد في سبيل الله متعمدين الإساءة إلى دينه ، وهم يزهقون أرواح المؤمنين بسبب خلافات طائفية ، وبذلك يمكنون أعداء الإسلام من الذرائع التي يبررون بها إلصاق تهم الإرهاب والإجرام به ، وبمن ينافحون صدقا عنه ، وعن مقدساته وعن أوطانهم المحتلة كما هو حال الشعب الفلسطيني .
ولهذا وجب على المؤمنين أن يميزوا بين من يجاهد لتكون كلمة الله عز وجل هي العليا، كما أثر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبين من يدعي الجهاد الزائف الذي يموه بها على الإجرام، والإسلام منه براء . ولا بد أن يحاسب كل مؤمن نفسه عن التفريط أو التقاعس أو الغفلة عن واجب تكليف الجهاد الذي افترضه الله تعالى على المؤمنين حين تدعو الضرورة إليه إعلاء لكلمته، والذي يضطلع به كل حسب وسعه وطاقته .
وإن أهم ما يقدم للشعب الفلسطيني المسلم المظلوم في وطنه ظلما صارخا ، وهو يعاني من احتلال صهيوني بغيض هو دعمه بشتى أنواع وأساليب الدعم المتاحة ، والتي تسمح بها الظروف بدءا بالدعم المادي الذي يدفع عنه الجوع والعطش ، ويطبب مرضاه ،وجرحاه ،إلى جانب أنواع الدعم المعنوي المختلفة من خلال نصرته عن طريق المسيرات والتجمعات الحاشدة الكاشفة عن معاناته للعالم، والفاضحة لجرائم من يبيدونه إبادة جماعية ، ويحاصرونه ، ويجوعونه ويهجرونه قسرا من أرضه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من جهز غازيا فقد غزا ، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا " ، وبموجب هذا الحديث الشريف يتعين على المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها القيام بواجب نصرتهم تجهيزا لهم ، وخلوفا في أهلهم بخير ،وقد دمرت ديارهم تدميرا ليكتب لهم ذلك غزوا عند الله عز وجل .
اللهم بصرنا بواجب التكاليف التي افترضتها علينا ، وذكرنا بها إذا نسيناها ، وأعنا على إتيانها على الوجه الذي يرضيك ، وترضى به عنا، واجعلها خالصة لوجهك الكريم ، بريئة من كل شائبة تبطلها . اللهم تجاوز عنا تقصيرنا فيما كلفتنا به من عبادات ، ومعاملات ولم نأت بها على وجهها المطلوب ، وارحم اللهم ضعفنا .
اللهم أدم الأمن والسلام في أرض الإسراء والمعراج التي حلت بنا مناسبتها ، ومسجدك الأقصى أسيرا يدنسه الصهاينة. واعل اللهم لكلمتك في أقصاك ، تمكينا لدينك وإظهارا له على الدين كله . وارحم اللهم شهداء الأقصى الذين ارتقوا جهادا فيك وصبرا على ما حل بهم وبأهلهم وذويهم أطفالا ونساء وشيوخا .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1112