( إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون )
حديث الجمعة :
اقتضت إرادة الله عز وجل أن يكون في الأرض إلى قيام الساعة صراع محتدم بين الحق الذي يصدع به عباده المؤمنون وبين الباطل الذي يشيعه المبطلون من الكفار والمشركين ، وتعهد سبحانه وتعالى بإظهار الحق على الباطل مهما علا.
ولقد ورد في العديد من آيات الرسالة الخاتمة المنزلة على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ذكر لنماذج من صراع الحق مع الباطل عبر تاريخ البشرية الطويل ، وهو صراع كان دائما ينتهي بظهور الحق على الباطل، لأن ظهوره هو إرادة إلهية كي تستقيم أمور الناس في هذه الحياة الدنيا ، علما بأنه لا استقامة لها إلا بظهور الحق على الباطل . ومن تلك الآيات ما جاءت فيها أخبار بإظهار الله تعالى الحق على الباطل ناصرا بذلك أنبيائه ورسله صلواته وسلامه عليهم أجمعين حين واجههم أهل الباطل بأباطيلهم . ولما ختم الله تعالى رسالاته بالرسالة الخاتمة أظهر فيها الحق على الباطل ، وسن لأهل الحق من عباده المؤمنين الجهاد في سبيله من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل إلى قيام الساعة. ومعلوم أن ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم صراع الحق مع الباطل لا يقتصر على ما حدث زمن نزول الوحي، بل يشمل كل صراع يحدث بين الحق والباطل إلى قيام الساعة . وإن ما ذكر من أسباب نزول آيات صراع الحق مع الباطل يومئذ لا يعني أن هذا الصراع لن يتكرر بل سيتكرر مادامت الحياة الدنيا ،علما بأن العبرة بعموم لفظ كتاب الله عز وجل ، لا بخصوص أسباب نزوله .
ولقد وعد الله تعالى عباده المؤمنين المنتصرين للحق بالنصر على أهل الباطل ، وامتن عليهم بذلك ، ورسخ في قلوبهم الاعتقاد التام بأن هذا النصر بيده ، وأنهم لا يظفرون به إلا بإرادته ومشيئته ، ولا يلتمس عند غيره إذا ما حجبه سبحانه مصداقا لقوله عز من قائل : (( إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون )) ، ففي هذه الآية الكريمة ،وهي الستون بعد المائة من سورة آل عمران ، يخاطب الله تعالى عباده المؤمنين زمن النبوة بعد ما أصابهم يوم أحد ما أصابهم من هزيمة بسبب استزلال الشيطان إياهم مصداقا لقوله عز وجل : (( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم )) ، وفي هذا إشارة إلى سبب الهزيمة في تلك الغزوة بعد النصر الذي كان في غزوة بدر الكبرى . ومع ما في هذه الآية الكريمة من حث على الأخذ بأسباب النصر من توكل على الله عز وجل ، ومن استعداد ،ومن عدد وعدة وتخطيط ....، فإن الله تعالى أخبر المؤمنين يومئذ بأن النصر بيده ، وليس بيد غيره ، وأن المطلوب من عباده المؤمنين هو حق التوكل عليه مع أخذهم بالأسباب، ومع اليقين الراسخ الذي لا يتزعزع قيد أنملة بأن النصر إنما هو بيده سبحانه وتعالى.
ومع أن سبب نزول قوله تعالى : (( إن ينصركم الله فلا غالب لكم )) هو ما حدث يوم أحد، فإن العبرة بعموم لفظها ،ذلك أن الصراع بين أهل الحق وبين المبطلين حاصل لا محالة في كل زمان ، وفي كل مكان إلى قيام الساعة ، وأن ذلك يوجب على أهل الحق حيثما وجدوا أن يستيقنوا يقينا لا يخامره شك أو ارتياب بأن الله تعالى ناصرهم لأن النصر بيد الله عز وجل .
ولقد مرت الأمة الإسلامية بعد البعثة النبوية بانتصارات وبنكسات أيضا كانت لها أسباب كما كان لهزيمة يوم أحد سبب ، ولا يزال هذا حال أهل الحق ينتصرون على المبطلين إذا ما أخذوا بأسباب النصر التي أمرهم بها الله عز وجل ، وينتكسون إذا ما خالفوا أمره ، وهم بين هذا وذاك مطالبون باليقين الراسخ التام أنهم لا ينتصرون بالأسباب فقط، بل ينتصرون بفضل من الله عز وجل عليهم ، وأنه إن لم ينصرهم فلا ناصر لهم .
ولقد جعل الله تعالى في انتصار الحق على الباطل آية منه ،وعبرة لأولي الألباب من عباده المؤمنين تتكرر في كل زمان، وفي كل مكان إلى قيام الساعة لتثبيت التوكل التام عليه سبحانه وتعالى في قلوبهم .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بأن النصر بيد الله عز وجل حين يواجه أهل الحق من عباده المؤمنين المبطلين ، وتذكيرهم بصدق التوكل عليه سبحانه وتعالى خصوصا في هذا الظرف بالذات الذي أرانا الله تعالى آية نصره عباده المؤمنين في أرض الإسراء والمعراج الذين توكلوا عليه، وأخذوا بما أمرهم به وما استطاعوا من أسباب المواجهة و النزال مع الصهاينة المبطلين ، وقدموا التضحيات الجسام ، وجادوا بالأنفس في سبيل الله ، ومن أجل فك المسجد الأقصى من الأسر ، ومن التدنيس . ولقد هيأ لهم الله تعالى من الأسباب من يسر لهم الانتصار على أعدائهم الذين خذلهم بالرغم من كثرة عددهم وعدتهم حتى اضطروا لإيقاف عدوانهم على المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لما عجزوا عن مواجهة ومقارعة الأبطال المرابطين الصابرين المجاهدين في سبيل الله ،إنها وأيم الله لآية من آياته العظمى في زمن انصرف فيه الكثيرون عن اليقين بأن النصر بيد الله جل جلاله ، خصوصا أولئك الذين حاولوا ويحاولون تثبيط عزيمة المجاهدين وهم يحاكون عبارة المنافقين زمن النبوة كما جاء في الذكر الحكيم في قوله عز من قائل : (( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم)) .
وما أرى الله تعالى الأمة المسلمة في هذا الظرف بالذات هذه الآية العظمى إلا لتكون سببا في إنابتهم إليه ، وعودتهم إلى التمسك بكتابه، وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أجل مواجهة تيارات الباطل المستقوية على اختلاف أنواعها وأساليبها وخبثها ومكرها ، وهي جميعها تستهدف دين الله عز وجل لاقتلاعه من قلوب المسلمين كي يعشش فيها الباطل ، ويصيرون من أنصاره خضوعا واستجابة لإغراءات المبطلين من أعداء دينهم الذين يستعينون على ترسيخ أباطيلهم بطوابير خامسة أعدوها إعدادا ، وبثوها بينهم ، وهي لا تدع حيلة ،ولا كيدا ،ولا مكرا إلا وظفته تحت ذرائع كلها استزلال للمسلين .
ولا مندوحة اليوم للمسلمين عن التمسك بكتاب الله عز وجل ،وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعض عليهما بالنواجذ كما أمر الله تعالى في محكم التنزيل إذ يقول: (( قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم )) ، وإن كل ما يسوقه ويروجه المبطلون في هذا الزمان إنما هو طاغوت ، وكما أوصى بذلك أيضا رسول الله عليه الصلاة والسلام إذ قال في الحديث الذي رواه أبو نجيح العرباض بن سارية ، وكان عليه الصلاة والسلام يعظ أصحابه موعظة وجلت لها قلوبهم وذرفت لها أعينهم ، كما وعظ بها كل المسلمين إلى آخر الزمان قائلا : " ... إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة " ، وما أكثر بدع الطاغوت في زماننا هذا .
اللهم رد بنا إلى دينك ردا جميلا ، واملأ اللهم قلوبنا إيمانا ويقينا لا ينفكان عنا طرفة عين ولا أقل من ذلك ، ونعوذ بك اللهم من أن نفتن في ديننا .
اللهم أتمم نعمة النصر على عبادك المؤمنين في أرض الإسراء والمعراج ، وعجل اللهم بفك أسر مسجد ك الأقصى المبارك ، وبتحرير كل ما باركت حوله من الاحتلال الصهيوني البغيض ، وثبت اللهم أهل فلسطين ،وسائر بلاد الشام، وسائر بلاد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على دينك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1113