سنة بعد أخرى تُفْرغ العبادات عندنا من حمولتها الروحية وتُحوّل إلى مناسبات للاستهلاك المادي الشهواني
جرت العادة عندنا منذ سنوات مضت عندما يقترب شهر الصيام المبارك أن يسوّق إعلامنا الرسمي وغير الرسمي الدعاية لاستهلاك المواد الغذائية خلاف ما يكون عليه تسويقها في غير هذا الشهر الفضيل حيث تتجول كاميراته في مختلف الأسواق لتحقيق هدفين: الأول هو نقل صور عما يعرض فيها من مأكولات ومشروبات بكميات كبيرة ، وثانيا : نقل بعض آراء المواطنين بخصوصها مع التركيز على الجنس اللطيف الذي من طبعه التباهي بما يحضره من موائد في رمضان ، الشيء الذي يراد من ورائه التحريض على المبالغة في الاستهلاك الزائد عن الحد، والتنافس فيه . ومع مرور السنوات بدأت الحمولة الروحية لشهر رمضان تتراجع لفائدة الاستهلاك المادي الشهواني المبالغ فيه .
ووإنه ليحتار اللبيب في أمر الجمع بين دلالة عبادة الصيام التي هي إمساك عن شهوة البطن ،وبين الإقبال بنهم على إشباعها ،خصوصا وقد صارت دلالة شهر الصيام عند الكثرة الكاثرة تعني الإقبال على الطعام بنهم وجشع عوض الإمساك وما يترتب عنه من سمو روحي يعيد التوازن إلى نظام التغذية لدى الصائمين والصائمات بحيث ينصرفون أياما معدودات عن شهوة البطن إلى عبادات هذا الشهر صياما، وقياما، وإقبالا على كتاب الله عز وجل تلاوة ،وتدبرا، وتخلقا .
ومعلوم أنه منذ سنوات متتالية صار شغل الناس الشاغل عندنا نهارا هو اقتناء المأكولات والمشروبات من الأسواق، وتحضير أطباق الإفطار الذي ينطلق منذ الساعات الأولى من النهار ، ويستمر إلى غاية آذان المغرب لينطلق من جديد تحضير أطباق السحور ، الشيء الذي يحبس ربات البيوت في مطابخهن، بينما لا تزيد فترة التزود الروحي عن ساعة واحدة تنفق في مجموع الصلوات الخمس بمعد عشر دقائق في الصلاة ، وساعة أخرى تنفق في صلاة التراويح ، بينما تصرف باقي ساعات اليوم في رمضان ليله ونهاره إما في التسوق لاقتناء المأكولات والمشروبات التي تشتهى أوفي تحضيرها ، فضلا عن صرف جزء معتبر منها في السهر ليلا الذي يحلو ويطول مع البرامج الترفيهية المختلفة التي تسوقها قنواتنا التلفزية لساعات طويلة مقابل ساعة واحدة يتيمة تنقل بعضها خلالها صلاة التراويح .
ولقد صار شهر الصيام عندنا بسبب اشتهاء الناس الأطعمة والأشربة بنهم وجشع كبيرين فرصة لرفع أثمانها بشكل فاحش واغتناء المسوقين لها،وذلك بسبب كثرة الإقبال عليها ، مع أنه لو توفرت الإرادة القوية لترك كل ما غلا منها يرخصه لا محالة ، ويقطع الطريق على المضاربين والمحتكرين ، ولكن أنى لنا ذلك وحب الاستهلاك والوحم يأسرنا ؟ وقد تطبعنا على الاستهلاك بنهم وشره في رمضان شهر الصيام ـ يا حسرتاه ـ .
ومعلوم أن معظم ما يستهلك في هذا الشهر من أطعمة جلها مما يهدد صحة الناس بالرغم من تحذيرات الأطباء في وسائل الإعلام ،وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى في المساجد أحيانا حين يجلس بعضهم يحاضرون في موضوع خطورتها خلال حصص الوعظ الرمضانية ، ومع ذلك لا يزداد الناس إلا إقبالا عليها بشره ونهم ، ونذكر منها على سبيل المثال أنواع الحلويات المختلفة التي تقلى في الزيوت ، وتغمس في عسل السكر الذي فيه داء للناس خلاف عسل النحل الذي جعل فيه الله عز وجل شفاء لهم ، كما نذكر أنواع اللحوم خصوصا الحمراء التي صار تستورد من الخارج بعدما قلت قطعان الأنعام عندنا لسوء تدبير منا ، ولا يخفى ما في تلك اللحوم من أنواع الداء كما يشهد بذلك أصحاب الخبرة الطبية .
والغريب أن تشيع في الأمم غير المسلمة أحاديث أطبائها عن دور الصوم في علاج كثير من الأدواء ، ومحافظته على الصحة ، حتى صار الصوم مما يصفه هؤلاء للناس ضمن وصفات الأدوية أو عوضا عنها ، في حين نتجاهل نحن المسلمين ما أنعم به الله تعالى علينا من نعمة الصوم الذي يزورنا كل عام ضيفا كريما وأنعم به من طبيب يحارب الشره والنهم والوحم وما يترتب عن ذلك من أدواء ، كما يصرف الهمم عن شهوة البطن إلى سمو وصفاء الروح .
وكعبادة الصيام صرفنا أبضا عبادة النحر عن دلالتها الروحية ، وحوّلنها إلى مناسبة استهلاك لحوم الأنعام مع تغييب تام للقصد من نحرها الذي هو تقرب إلى الخالق المنعم بها جل في علاه الذي لا يناله دماؤها ولا لحومها، وإنما يناله التقوى من الذين يتقربون بها إليه .
ومع أن عبادة الأضحى لا زال بيننا وبينها شهور ، فقد انشغل الناس عندنا بموضوع غلاء الأضاحي الذي صار ظاهرة خلال السنوات القليلة الماضية الشيء الذي ترتب عنه تدمر الناس من هذه العبادة التي تعبدنا بها الله عز وجل ، والسبب في ذلك هو غلاء الأضاحي في زمن تدهور القدرة الشرائية لدى سواد الشعب حتى صار عيد الأضحى عندنا في حكم الزائر غير المرغوب فيها . ولا زال الناس يتساءلون هل سيضحون هذا العام أم لا ؟ خصوصا وأن بعض المسؤولين قد كشفوا النقاب عن النقص في أعداد قطعان الأنعام بسبب توالي سنوات الجفاف الذي ترتبت عنه ندرة العشب ،و قلة العلف إلى جانب سوء تدبير تربيتها ، و كذا سوء استهلاكها.
والذي يعنينا في هذا المقال هو الإشارة إلى آفة تغييب البعد الروحي والتعبدي لعبادة الصيام وعبادة النحر ، والانصراف عنهما إلى الاستهلاك المادي الشهواني بنهم وجشع ،علما بـأن هذا التغييب إذا طال بنا الزمن ونحن على هذه الحال ، فسيأتي ـ لا قدر الله ـ زمن على أجيالنا القادمة ربما ستلغي فيه العبادتين معا ،خصوصا وأن دعاة الإلغاء المتربصين بدين الله عز وجل قد كثروا ، وهم يعاودون كل سنة دعوتهم إلى إلغاء عبادة الصيام تحت ذريعة حرية الإفطار العلني مع إلحاحهم على رفع تجريمه، كما شاع الحديث عن شريحة من المقاطعين للنحر ليس لفقرهم بل هم من الموسرين الذين يقصدون الفنادق الفخمة ، والمنتجعات والشواطىء يوم عيد الأضحى مستنكفين من النحر ومستقذرين له.
فمتى يا ترى سنعود عودا راشدا موفقا إلى تعاليم ديننا الحنيف ، ونفقه دلالة عبادتي الصيام والنحر بشكل صحيح عوض الانحراف بهما عن دلالاتهما الروحية إلى مجرد عادتين للاستهلاك المادي ،والإشباع الشهواني، خصوصا وقد صارت عبارة رمضان كريم عندنا لا تعني سوى هذا الإشباع ، ولم تعد تدل على كرم أجر وثواب الصيام والقيام ، كما أن عبارة عيد الأضحى المبارك لا تعني سوى استهلاك لحوم الأضاحي ، ولم تعد تدل بركته على أجر وثواب عبادة النحر ؟؟؟
وسوم: العدد 1116