( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل )
حديث الجمعة :
من المعلوم أن الله عز وجل قد ضمّن رسالته الخاتمة التي أوكل بتبليغها للعالمين رسوله الأمين سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم ما به تستقيم أحوالهم في دنياهم وآخرتهم ، وربط مصيرهم في هذه الأخيرة بطبيعة سعيهم في الأولى .
ولما كان المصير الأخروي إما سعادة أبدية في جنة النعيم أو شقاوة أبدية في الجحيم إلا ما شاء الله ، فإنه سبحانه وتعالى قد عدد في كتابه الكريم صفات السعداء من عباده كي يتخلق بها الناس، ويسعون سعيهم الرشيد في الدنيا ، كما عدد صفات الأشقياء كي يتجنبها الناس ،ويتنكبون سعيهم الضال.
ولقد جعل الله تعالى أساس استقامة عباده المؤمنين إيمانَهم الراسخ بألوهيته وربوبيته ، ووحدانيته ، وخالقيته ، وسلطانه ... وكل أسمائه الحسنى ،وصفاته المثلى التي وصف بها ذاته المقدسة . وعن هذا الإيمان الراسخ به جل في علاه يصدر عباده المؤمنون في كل سعي يسعونه في حياتهم الدنيا . ولقد عدّد الله تعالى في محكم التنزيل كل آثار الإيمان في كل سعي يسعونه في كل الأحوال التي يكونون فيها، والظروف التي يمرون بها.
ومن تلك الأحوال أنهم حينما يُخوَّفون من المخلوقات مهما كانت ، يُوطّنهم إيمانهم الراسخ على الثقة بخالقهم سبحانه وتعالى ، وذلك ليقينهم بقوته وجبروته وقدرته ، وسلطانه القاهر فوق كل المخلوقات ، وذلك مما أخبر به سبحانه وتعالى في الآية الثالثة والسبعين بعد المائة من سورة آل عمران حيث قال جل شأنه واصفا عباده المؤمنين الموقنين بمعيته الدائمة : (( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمان وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل )) ، ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى ظرف معين مر به المؤمنون الذين عاصروا وصاحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رام بعض من كان هواهم مع أعدائهم الكافرين تخويفهم من هؤلاء ،وكان ذلك كما جاء في كتب التفسير بعد مرور عام واحد على غزوة أحد إذ كان أبو سفيان قد ضرب لهم موعدا بلقاء آخر في بدر وكان كارها لذلك لكنه كاد كيده ليشيع عنهم إن لم يخرجوا إلى لقائه أنهم هم من كرهوا لقاءه ، وليس هو من تخلف وأخلف ، فأوعز إلى ركب كان فيه نعيم بن مسعود الأشجعي بأن يخبر المؤمنين أن كفار قريش قد جمعوا لهم جيشا عظيما لمنازلتهم ببدر مرة أخرى من أجل تخويفهم والنيل من عزيمتهم وثباتهم، ولم يكن ذلك سوى محض إرجاف بين القبائل من أجل إيهامهم أن بالمسلمين ضعفا إلا أن رد فعل المؤمنين جاء عكس ما تمناه أصحاب هذا الإرجاف حيث ازداد إيمانهم قوة ،وثقة بمعية الله تعالى التي صاحبتهم في غزوة بدر الكبرى ، ولم يثنهم التخويف من التوجه صوب بدر استعدادا لمواجهة أعدائهم ، وكان ذلك الاستعداد ترجمة إجرائية لقوة إيمانهم ، وكان لسان مقالهم : (( حسبنا الله ونعم الوكيل )) ، يؤكد رسوخ إيمانهم الذي هو تصديق قلبي بالله تعالى ،وصفاته، وأفعاله ، وبكل ما أخبر به سبحانه وتعالى من الأمور المغيبة من أركان الإيمان ، و صاحب لسان مقالهم لسان حالهم حين استعدوا لمواجهة أعدائهم ببدر، توكلا على ربهم سبحانه الحسيب الذي يكفيهم كل شر ،والوكيل الكافل والقائم على شؤونهم ، والناصرلهم ، والمدافع عنهم .
ولقد ذكر الله تعالى بعد ذلك في آيتين تاليتين للآية السابقة ما كان عليه حال عباده المؤمنين حين اتخذوه حسيبا ووكيلا إيمانا بقلوبهم ، واستعدادا للقاء عدوهم، فقال جل شأنه : (( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين )) ، ففي هاتين الآيتين سجل القرآن الكريم كما جاء في كتب التفسير نزول المؤمنين ببدر، إلا أنهم لم يجدوا به الكفار كما أرجف المرجفون ، ووجدوا في طريقهم إليه سوقا فتسوقوا منها ،وحصّلوا أرباحا، ثم عادوا إلى المدينة ظافرين قد نالوا أجرالجهاد وهو المقصود بالفضل في قوله تعالى فضلا عن وقايتهم من السوء، وما حصّلوه من ربح مادي، وهو ما وصفه الله تعالى بالنعمة التي أنعم بها عليهم.
ولقد أثنى الله تعالى عليهم لاتباعهم رضوانه ، وما ذلك الرضوان سوى الاستعداد للجهاد في سبيله من أجل نشر دينه الذي فيه خير الناس في عاجلهم وآجلهم . وأشار سبحانه بعد ذلك إلى أن تخويف عباده المؤمنين من أعدائهم الكافرين إنما هو من عمل الشيطان الذي زينه لمن خوّفوهم ثم أمرهم ألا يخافوا غيره سبحانه وتعالى وهو الذي بيده الضر والنفع ، وليس ذلك لغيره من خلقه ، وجعل الخوف منه من كمال إيمانهم، و ثباته ،ورسوخه في قلوبهم .
ولما كانت العبرة بعموم لفظ كتاب الله عز وجل ، لا بخصوص أسباب نزوله ، فإن الله تعالى إنما ساق خبر هؤلاء المؤمنين الذي سيتلوه المؤمنون في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة ليكونوا قدوة لهم حين يُخوَّفون من مواجهة أعدائهم الكافرين ، وليكون لسان مقالهم ولسان حالهم كلسان مقال ولسان حال من سبقوهم بالإيمان زمن البعثة النبوية .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بما أمر الله تعالى به حين يخوّفون من أعدائهم الكافرين حرصا على كمال إيمانهم ، وثباتهم عليه ، ورسوخه في قلوبهم ،خصوصا ونحن اليوم نمر بظرف من ظروف تخويف المجاهدين المرابطين بأرض الإسراء والمعراج من أعدائهم الصهاينة المعتدين . ولقد كثر في هذا الظرف من روج عنهم الأراجيف التي مفادها أن أمرهم قد انتهى ، وأن شوكتهم قد انكسرت ، وأن عدوهم قد استأصل شأفتهم في حين أن الحقيقة التي أراد لها الله تعالى أن تكشف هي عكس ذلك تماما إذ أنهم انقلبوا بنعمة منه سبحانه وتعالى وفضل ، فغنموا ما غنموا من عدوهم، وأصابوا ما أصابوه منه ، وحرروا أسراهم بما كان في أيديهم من أسراه ، ولا زالت نعم الله عليهم سابغة إن شاء الله تعالى إذ نال منهم من نال جائزة الشهادة ، ونال منهم من نال أجر الجهاد ، وباءوا جميعا برضوان من الله عز وجل ، و في المقابل سُقط في أيدي من خوّفوهم من عدوهم ، محاولين تثبيط عزائمهم ، وثنيهم عن مواجهته ، و صدهم عن تحرير أرضهم من احتلاله ، وفك أسر المسجد الأقصى المبارك ، والمباركة أكنافه .
و لنا في هذا الذي حدث بأرض الإسراء والمعراج آية من آيات الله تعالى ساقها للمؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها لتسديد إيماننا القلبي الذي لا يضعف ولا ينقص كما ورد ذلك في أقوال أهل العلم وإنما يفتر العمل أوالسعي الذي يترجمه إجرائيا ، علما بأنهما متلازمان لا ينفك أحدهم عن الآخر تماما كما يأتي ذكرهما في كتاب الله عز وجل مقترنين إذ لا يصف الله تعالى إيمان عباده المؤمنين القلبي إلا و يردفه بما يقابله إجرائيا أو عمليا كدليل عليه .
اللهم إنا نسألك وأنت الحسيب الوكيل أن تزيد عبادك المؤمنين المرابطين المجاهدين في أرض الإسراء والمعراج ثباتا على إيمانهم، وقد بذلوا أرواحهم من أجل مرضاتك. اللهم انصرهم على أعدائهم نصرا تعز به دينك ، وتذل به الكفر والكافرين ، والشرك والمشركين ، والنفاق والمنافقين ، وتعلي به راية دينك في أرضك مشرقا ومغربا ،إنك على كل شيء قدير، وبالاستجابة جدير ، ولا حول ولا قوة إلا بيدك سبحانك .
اللهم إنا نسألك صدق الإيمان وثباته في قلوبنا ، وصدق الدليل الإجرائي والعملي عليه، و نسألك زيادته باطراد يا سميع يا مجيب ، فأنت حسبنا ونعم الوكيل ، ونسألك دوام نعمك السابغة وأفضالك التي لا تنقطع أبدا ، ونسألك الجنة وما يقربنا إليها من قول وعمل ، ونعوذ بك من النار ، وما يقرب منها من قول وعمل.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسوم: العدد 1116