"لتعارفوا".. غاية إسلامية لسعادة البشرية.

"لتعارفوا".. غاية إسلامية لسعادة البشرية

أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر

E.mail:[email protected]

ليس ثمة حضارة بلا قيم تمثل علاقة طردية .. صعودا وهبوطا، قوة وضعفا، بقاءً واندثارا. الإسلام دين عالمي جاء للناس كافة، لم يُفرض عليهم كرهاً، بل جذب البشرية إليه ـ طوعاًـ بتعاليمه وقيمه السمحة الرحيمة المتوافقة مع الفطرة والقيم الإنسانية، لذا فهو يوجب على المؤمنين به، والدعاة إليه الانفتاح على الأخر.. تعارفا وتواصلا.. وتعاونا على البر و التقوى ومجانبة  للإثم والعدوان. ولتن ياـي ذلك دون تنزيل قيمة’" لتعارفوا" إلى واقع الحياة.  

ولقد بات من لوازم الإدارة ـ في شتى مجالاتها الاقتصادية والتربوية والتعليمية الخ ـ اجتياز الدورات لكسب مهارات ما يسمى بالاتصال الفعال ((Active communication، وهى في أسسها ومناهجها وطرائقها قد تعكس وجهة نظر (الآخر)، بيد أن المتأمل في قيمنا يجد لها في هذا المضمار صبغةً خاصة، صبغةً ليست قاصرة على المجالات السابقة فقط، بل تتعداها لتشمل الفرد والمجتمع والإنسانية جمعاء.

داء عضال

هذا الداء العضال متعدد الأوجه.. يشمل الفرد عند افتقاده حاجاته النفسانية، وتفكك علاقاته الاجتماعية، وغياب شعوره بالحب والانتماء، وضياع أهدافه، وفشله في تحقيق ذاته، ومن ثم بعده عن الشعور بالهدوء والسكينة والأمن النفسي والرضا الذي هو أساس الشعور بالسعادة، وقد يستتبع ذلك اعتلال صحته الجسدية وهروبه بإدمان المخدرات ومحاولات الانتحار، وداء الشعوب والقبائل يتمثل في: عدم الاستقرار والتفكك الأسرى والاجتماعي، وشيوع البغي والظلم والكيد والتحاسد والتباغض والتناحر والفتنة، والقطيعة بين المؤسسات وشعوبها، ثم قيام الحروب.. داء الإنسانية على مر التاريخ، فالروح الإنسانية حينما تصبح موتورة ساخطة متبرمة بأزماتها المتعددة تلك تستبد بهاـ لا روح الحياة والتعارف والتواد والبرـ ولكن روح القهر والقتل. فهل من وسائل تعين على حسن التعارف مع النفس و(الآخر) على اختلافه؟ وهل من مهارات تلطف من حدّة تضخيم الفوارق الثقافية والخلفيات الفكرية، وتحافظ على الخصوصيات الحضارية؟، بحيث تتوجه هذه العلاقات جميعها إيجاباً وليس سلباً، نجاحاً وليس فشلاً، تعاوناً وليس تصارعاً، تعارفاً وليس تناحراً.

قيم "التعارف" الفعال

التعارف لغةً: عرف الشيء عرفانا ومعرفة، أدركه بحاسة من حواسه، وتعرف إلى فلان جعلتُـه يعرفني، وتعرّف ما عنده: تطلبه حتى عرفه، وتعارفوا: عرف بعضهم بعضاً(1)، والتعارف اصطلاحاً: يهدف للتكاتف حسب المواهب والقدرات المتنوعة، للنهوض بالعرف الحسن والمعرفة الرشيدة.. وفاءً بالحاجات وتعاوناً على التكاليف والأعباء، فبناء الفرد لذاته، ونضوجه الشخصي.. تعرّف وتعارف، وتكوين الأسرة وتربية الأبناء واستكمال شخصياتهم.. تعرّف وتعارف، وتفاعلات المجتمع.. تعرف وتعارف، وعلاقات الشعوب والقبائل الإنسانية.. تعرف وتعارف، ولن يتحقق ذلك تحققاً فاعلاً إلا بنهج الإسلام وصبغته، فهو لحمة التعارف وسداه، بينما يبقى الاتصال (:(Communication عمل محدد يهدف إلى نقل رسالة (إعلامية أو معلوماتية أو وجدانية) من مرسل لها إلى مستقبل بغية الحصول على استجابة أو رد فعل يُوظف إعلامياً واقتصادياً وتعليمياً.

قيم التعرّف إلى النفس

كما كان شأن رسولنا، صلى الله عليه وسلم، في خلواته المتعددة في"غار حراء" واعتكافاته.. لماذا لا نُخصص وقتا من أوقاتنا، نفرغ فيه من شغلنا الدائم، ونخلو فيه إلى أنفسنا؟، نتعرف إليها، فنحن "جملة معارف":"وفى الأرض آيات للموقنين، وفى أنفسكم أفلا تبصرون"(الذاريات:20-21)، فيها نتعرف إلى مطالبنا الروحية والنفسية.. إيماناً وتديناً:"احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة"(2)، وقيماً واعتقادات، وإسلاماً واستسلاماً، ومعرفة وخشية لله:"إنما يخشى الله من عباده العلماء"(فاطر:28)، وأهدافاُ وغايات، وحباً وانتماءات، وتنمية لمهارات التحكم في الانفعالات، وردود الأفعال، ومهارات الاستماع والتحدث، وتخطيطاً وتصويباً لكيفية التعرف إلى أسرتك وقرباك ومجتمعك، كما تحتاج دوماً أن تؤكد في النفس ما استقام، وتعيد ما تنافر، وتصحح ما أعوج، إن من بين الفوائد الجليلة في رحلتك للحج ـ كما ذهب بعض العلماءـ التعرف إلى النفس وتقويمها، وتحسين المعرفة بالله تعالى، فـ :"الحج عرفه، فمن أدرك عرفه فقد أدرك الحج"(3)، وبالمقابل تحتاج التعرف إلى مطالبك الجسدية وضبطها.. إشباعاً واقتصاداً وتعففاً وزهداً.

مهارات حسن التعارف والتعرف

لم أجد ولن تجد مثلاً أعلى يُحتذي ـ في هذا الشأن وغيره ـ كمثل رسولنا المصطفى صلي الله عليه وسلم، قال الحسين: سالت أبى عن سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم، في جلسائه فقال:"كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظٍ ولا غليظٍ ولا صخابٍ ولا فحاشٍ ولا عيابٍ ولا مشاحنٍ، يتغافل عما لا يشتهى، ولا يؤيس منه راجيه، ولا يخيب رجاءه فيه، وقد ترك نفسه من ثلاثة: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلم اطرق جلساؤه، كأن على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، ويضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إن أصحابه كانوا ليستجلبونه، ويقول: إذا رأيتم طالب حاجة فارفدوه، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بنهى أو قيام"(4)، ولقد كان يتعرف إلى مدعويه قبل دعوتهم، وهديه مشهور مع الفتى "عداس" في رحلته إلى الطائف، ثم لك أن تقارن هذه الشمائل(5) بتلك المهارات التي أشارت إليها الدراسات في هذا الشأن.

"إننا عندما تنمو في نفوسنا بذور الحب والعطف والخير، نُعفى أنفسنا من مشقات كثيرة، فلن نحتاج لتملق، فالصدق كائن، ولن يخلو إنسان من مزية، ولن نضيق بالمخطئين فالعطف والشفقة تشملهم"(6). فاظهر تقديرا ووداً للآخر، وناده بأحب الأسماء والألقاب، وأنصت له، تتعرف عليه، وتسبر أغواره، وتعرف إلى حالته النفسية والمزاجية، ولتتحدث إليه بكلمة طيبة، فاهماً عالماً به، بعيداً عن الغضب والقسوة:"إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله"(7)، كما:"إن الرفق لا يكون في شئ إلا زانه ولا ينزع من شئ إلا شانه"(8) و:"لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق(9)، فتعبيرات الوجه (شان باقي ميكانزمات التعارف غير اللفظي.. النظر، ولغة الجسد، واليدين، والمظهر والهيئة الخ) أصدق تأثيرا، وأبلغ تعبيراً. ولك أن تعبر عن مشاعرك الإيجابية بحرية وثقة تامة، وارفض ما تكره أو ما يخالف مبادئك، ولا تُستدرج إلى ما لا تريده، من جدال عقيم، مع القدرة الجيدة على التمييز بين المواقف المختلفة والاستجابات السريعة لها:"أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقا"(10)، وإذا أخطأت فسلم بخطئك، أوبة للحق، وحفظا للود.

اجتماعياً.. تشير الدراسات إلى أن التحول من الأسلوب الاستقلالي الاستحواذي (أنا- هذا لي) إلى الأسلوب التكافلي التعاوني (نحن – هذا لنا) من شأنه أن يؤدى إلى تحول في أنماط الإدراك، وأنواع التفاعلات الاجتماعية، ولن يتأتى ذلك ـ كما يقول مصطفى صادق الرافعى ـ إلا بالدين الصحيح الذي يخرج الفرد من شهواته التي تفصله عن غيره، إلى واجباته التي تصله بغيره، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(11)، كما يحجزه على المضي في العلاقات السلبية والصراعات الخاسرة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع أحدكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم: لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله، التقوى هاهنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه(12)، فهل جربت أن تكون في معونة الناس في أحداثهم اليومية وفق هدى ديننا الحنيف؟ وماذا ستكون النتائج؟:".. من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته.."(13). وماذا يحصل عندما تُـنزل الناس منازلهم، دون التعدي على أدوارهم ومكانتهم:"إن الله أوحى إلى أن تواضعوا.. حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد"(14)، فعندما يعتبر المرء نفسه كُـلاً تاماً، وذاتاً متميزة، فهو يريد لنفسه تمام الأمر، وتميز الوجود، لذا تراه يتصارع مع غيره (أسرته ومجتمعه) ويقتحمه ويستبيحه، فيقع التنافر والشقاق بين الذوات المتضخمة، إن الدعم الاجتماعي من الأسرة والأصدقاء يُـعد رافداً هاماً في تخفيف وعلاج الكثير من الأزمات التي نواجهها(15).

"لتعارفوا".. مبدأ هام لسعادة البشرية؟

يقول الله تعالى "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم"(الحجرات:13). أيها المتحدون في اصل بشرى واحد ..المختلفون أجناسا وألوانا ولغاتا، المتفرقون شعوبا وقبائل.. لا تتفرقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بددا، إن الغاية من جعلكم هكذا ليست التنازع والتناحر، بل التعارف والتآلف، فالتنوع يدعو إلى التعاون والتكامل وفق معيار أساس: التقوى والعمل الصالح، وهما أعمال كسبية (وليست وراثية / عنصرية) يتسابق فيهما الناس جميعا .. مرضاة لربهم، والتصالح على العرف الحسن والمعرفة الرشيدة .. خدمة لمجتمعاتهم وإنسانيتهم (16).

أين هذا النهج في التعارف الحضاري الفعال من مقولات "هنتنتجون" التي تُنظر لـ "صراع الحضارات" وتناحرها؟، ومقولات "فوكوياما" القائلة بـ "انتهاء التاريخ" لصالح الرأسمالية، واقتصاد السوق، والفردية المتحررة، فرضها علي العالم بأسرة..طوعاً وكرهاً!. إن التعارف الحضاري الفعال لا يتحقق في ظل سيادة العنصرية، وإيجاد العدو تلو الآخر، لتبرير الهيمنة والاستعلاء والإقصاء، والتحكم (وليس التعارف) بالآخرين، وهيمنة القوى على"القرية الكونية".. فهو يطأ بقدمه آسيا حيث الصين "التنين الأصفر" المنافس الاقتصادي القوى، والشرق الأوسط حيث الثروات المتعددة والموقع الإستراتيجي، وإعاقة النهوض المرتقب، كما أنه لا تعارف حضاري في ظل استغلال الرأسمالية، واقتصادها الذي لا يزدهر إلا مع شن الحروب (17)، وتكريسها للفقر والجهل والمرض، وقهر الأرض التي نعيش فوقها.

صفوة القول:  لقد آن الأوان أن يتبين (الآخر) الذي لا يرى إلا سيادة/ غلبة/ عولمة منهاجه في الحياة، بأن هناك نهجاً آخر صائب لتنظيم شئون الحياة والتعارف الإنساني، نهج يسعى للتحكم بالنفس وتهذيبها، والمعرفة بخصائص وطبائع (الآخر)، والحفاظ على القواسم المشتركة معه، وتقليل التشاحن والاحتكاك غير الصحي به، وإشباع المتطلبات الإنسانية المشتركة بتناغم، فاعلية جمعية لا فردية. يقول تعالى شأنه:"ومن آياته خلق السماوات والأرض، واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالِمين"( الروم:22).

              

الهوامش والمراجع

1- انظر: المعجم الوجيز ط. وزارة التربية والتعليم العام 1993م.

2- من حديث ابن عباس رضى الله عنه، في رواية غير الترمذى.

3- رواه أحمد.

4- رواه الترمذى في كتاب الشمائل/ 178، في إسناد عن الحسن بن على رضى الله تعالى عنه.

5- كنت أود من مُعدي الدورات المتعددة المتخصصة أن يتدارسوا هذا المثل الأعلى لرسولنا الكريم كأنموذج يُحتذي في تنمية وتعلم وتعليم تلك القدرات والمهارات.

6-  من كلمات صاحب الظلال أ. سيد قطب.

7- متفق عليه من حديث أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها.

8- رواه مسلم من حديث أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها.

9- رواه مسلم.

10- أبو داود في سننه والطبرانى في المعجم الكبير، وخرجه الألباني في السلسة الصحيحة من حديث أبى امامة.

11- متفق عليه، من حديث النعمان بن بشير رضى الله عنه.

12- رواه مسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.

13- متفق عليه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما.

14- رواه مسلم.

15- راجع د. عبد الستار إبراهيم: هذه الصراعات الخاسرة..كيف نتقيها؟ مجلة العربي، العدد" 554، يناير 2005م، ص 198-201، الكويت.

16- راجع تفسير الآية ابن كثير، دار إحياء الكتب العربية، د.ت.، ج/4، ص 217- 218،"في ظلال القرآن" الجزء السادس، ط 16 ، دار الشروق 1410هـ ـ 1990م،  ص: 3348.

17- التحالف العسكريين ورجال الصناعة يمثل خطرا إنسانيا جسيماً على حد قول الرئيس الأمريكي أيزنهاور حينما أنهي فيها ولايته.